راحت علينا
عدنان الصباح
أكثر ما يتقن العربي في مناحي حياته هو التنصل من المسئولية وقد اتقن عبر العصور تفصيل لغة وثقافة تساعده على ذلك وتمنحه القدرة على القاء التهمة على غيره بما في ذلك الله سبحانه وتهالي حين نصرخ عند أي فشل ” هذه ارادة الله ” او القدر حين يقال ” لن تستطيع معاندة القدر ” أو ” هذا قدرنا ” واحينا نلقي باللوم على الحظ ” الي ما اله حظ لا يتعب ولا يشقى ” ” ما الك حظ ” أو النصيب ” كل شي نصيب ” ” ما النا فيه نصيب ” ” هيك نصيبي أو حظي ” وما الى ذلك والامر ينسحب حتى على الملموس فمن لا يستطيع الوصول قبل موعد مغادرة الباص الذي يجب ان يسافر به وهو يعلم انه يغادر على الساعة 9:14 دقيقة مثلا ثم يصل هو الساعة 9:16 دقيقة ليجد الباص وقد غادر فيقول ” راح علي الباص ” ولا يقول بالتعبير الغربي ” فقدت الباص ” I LOST MY BUS ” وهذه ثقافة من يعترف بالخطأ لكي يتجنبه ومن يحمل الخطأ لأي آخر أيا كان هذا الاخر وهذا ينسحب على من يفسر عدم وصوله وقت الغداء بنفس تعبير مغادرة الباص ” راح علينا الغدا ” وكان الغدا شخص له اقدام ويمشي ويغادر قبل حضور السيد ويفعل التلميذ ذلك بتفويته موعد الامتحان ” راح علي الامتحان ” فالامتحان معادي له وقرر ان يسبق حضور الممتحن ويذهب بعيدا ليترك الممتحن بدون امتحان ويدفعه للفشل ولا يعترف ابدا ابدا انه اهمل عامل الوقت واهمية الامتحان واستهتر بما هو مهم حتى استطاع هو تحقيق الفشل ولم يدفعه احد اليه حتى اذا اكتشف انه لم يستفق في الموعد المحدد الضروري للحاق بالباص او الامتحان فان التهمة للملعون النوم جاهزة ” راحت عليي نومة ” وهو هنا ايضا جاهز ليعقلن ويشخصن النوم ويحمله مسؤولية عدم قدرته على القيام بما ينبغي عليه القيام به في المكان والوقت المناسبين وقد تصل الامور بالعربي ان يتهم الادوات فأحيانا يكون خط القلم سيء مما جعل المدرس غير قادر على قراءته وبالتالي لم يتمكن من اجتياز الامتحان بسبب خط القلم لا اكثر وكما يفعل الطالب او العامل او الموظف الذي يتأخر عن عمله بتحميل ازمة السير التي يعرفها يوميا السبب ولا يتحمل هو مسئولية اختيار الوقت المناسب ومعرفة الوقت الضروري للوصول بالموعد المحدد.
حتى الفشل لا يتحمله الفاشلين بل الحظ فحين يتم اعلان نتائج امتحان ما او مسابقة ما تساهم المؤسسة الرسمية بالتعمية والتضليل بإعلانها مثلا عن اسماء من اجتازوا الامتحان وتهنئتهم في نهاية الاعلان مع لازمة ” حظا اوفر لمن لم يحالفهم الحظ ” وبالتالي فان الحظ الملعون هو الذي جانب الفاشلين ومنعهم من اجتياز الامتحان وليس الاستعداد والتحضير الجيد لهذه المسابقة بما ينبغي لها وحين نفقد شيء مثلا التعبير الدارج عندنا هو القول ” ضاع القلم … اختفت الساعة … وهكذا ” وفي تعبيرات اخرى نقول ” تعطلت السيارة ” تلك السيارة التي مضى عليها عشر سنوات بدون أي اهتمام او صيانة ثم تتحمل هي مسؤولية العطل الذي اصابها والامثلة لا نهاية لها وفي جميع المجالات.
ما يفعله الفرد العادي يحمله المثقف والذي من المفترض ان يكون هو من يصنع الثقافة وادواتها فهو يساهم بكل الاشكال في تكريس حالة قدرة العربي على تبرئة ذاته من الفشل ايا كان نوعه فمحمد حسنين هيكل هو صاحب تعبير النكسة التي اطلقها على نتائج حرب الخامس من حزيران وقبل النكسة كان تعبير النكبة وهو ما تم اطلاقه على هزيمة عام 1948 ويتقن الفلسطينيون تحميل العرب مسئولية الهزيمة ويرد العرب التهمة على الفلسطينيين متهما اياهم بترك بلادهم وبيع ارضهم وهو ما عاد مرة اخرى للظهور ايضا في هزيمة 1967 بتبادل التهم وهذا جعل الفلسطينيين يرفعون راية اخذ قضيتهم بأيديهم ومع ان الشعوب العربية القت باللوم على الانظمة الا ان الانظمة عبر ابواقها الاعلامية والثقافية خلقت مصطلحات عجيبة لتبريء نفسها ومن هذه المصطلحات تعبير ” جيل النكسة ” ونلقي بالهزيمة على جيل بأكمله وبالتالي لا تعود المسؤولية على النظام والقيادة بل على جيل بأسره وعلي هذا الجيل اذن ان يصمت ولا يوجه اصابع الاتهام لاحد بل العكس هو الصحيح على كل واحد ان يلوم نفسه ولا يجوز له كيل الاتهامات لغيره والغير هنا طبعا هو النظام المستبد والمقدس في آن معا.
العربي هنا مسموح له ن يتهم الله سبحانه بالوقوف وراء فشله او القدر او الحظ ولن يحاسبه احد على هذا الاتهام وسيتعرض لكل انواع الاضطهاد ان هو تجرأ والقى باللوم على الزعيم او القيادة مجتمعة وقد يتعرض للسجن او لشتى صنوف الاتهام بما في ذلك التكفير او التخوين في حين لا احد يعاقبه ان فعل ذلك مع الله جل جلاله ولا يؤنبه احد على الاطلاق بل ولا يكره ولا يخونه ان شتم الوطن والشعب وكل العرب بالجملة, بل ان العرب منعوا عبد الناصر رحمه الله من تحميل نفسه المسئولية واجبره على التراجع عن استقالته واعتبروه بطل حرب لا زعيم مهزوم والسادات تحول بقدرة قادر من بطل انتصار اكتوبر الى بطل الحرب والسلام بعد اتفاقيات كامب ديفيد فالزعيم عند العرب اله كبير لا صغير فالعربي يتجرأ على شتم الذات الالهية ولا يتجرأ بالمطلق على انتقاد الزعيم ويجد المثقفون العرب كل الامكانيات لديهم تحويل الزعيم الى اله ويرسمون حولة هالة من القداسة تمنع أيا كان من محاولة الاقتراب منها فبين ليلة وضحاها يصبح الزعيم هو القائد الاول والمعلم الاول والمهندس الاول والقنان الاول والعالم الاول حتى لو كان اميا.
ان الصدق مع الذات اولا هي الاساس المطلوب من العربي الاستناد اليه اذا اراد العرب الانتقال خطوة واحدة الى الامام وبعد ذلك يأتي نقد الذات الفردية والجماعية وكذا نقد الاخر الوطني ومواجهة الذات بالحقيقة تلك هي الاعمدة الثلاث الضرورية لكل من اراد الانتقال الى الامام والتخلص من الماضوية المقيتة التي يعيشها العربي في كل تفصيل حياته ” الصدق ونقد الذات ومواجهة الحقيقية ” وقد يكون ” الكذب والطبطبة على الذات ودفن الراس بالرمال هي اعمدة حياة العربي منذ حكايات تاريخ الانتصارات او زعبرات احمد سعيد او الصحاف وقبلهم الكذب المفرط بلا معنى من الجميع هنا وهناك والقائمة في مجملها على تمجيد الذات وتسخيف الاخر البعيد او العدو او المنافس أيا كانت صفته وبدون اغتيال الكذب والطبطبة على الذات واخراج الراس من الرمال فان كل خطواتنا ستبقى غارقة في بحر ما ورائيات التاريخ ومدافنه.