أواخر أيام غرناطة

حنون ألبينو | تونس

ـ التاريخ: الفاتح من يناير / جانفي 1492.
ـ المكان: قصر الحمراء غرناطة.

كان هذا اليوم الفاتح من يناير فاتحة خير على الصلبيين النصارى و فاتحة شؤم على المسلمون من أهل غرناطة ، فالنصارى كانوا قد أبرموا معاهدة مع ابي عبد الله الصغير ملك غرناطة على ان يقع تسليم الحمراء و مفتاح المدينة الى فرناندو وإيزابيلا ملكا الكاثوليك النصارى اللذان كانا يقبعان في مدينتهم الجديدة (سانتا في) في ضواحي غرناطة لأجل حصار دام أشهر للملكة الصغيرة حتى يخضعانها ويسير كل شئ حسب هواهما و مخططاتهما فما كانا يطيقان صبرا لدخول قصر الحمراء درة غرناطة ولا الفوز بالرمانة الاندلسية الاخيرة بعد ان قطفوا جميع رمانات الحقل الاندلسي بشبه الجزيزة، و ان يحضوا بالحصن الاسلامي الاخير، كانوا يضغطون على الصغير ويغرونه بالذهب والضياع ليسلم المدينة وانه سيحفظ بذلك اهله واهل غرناطة و يقيهم شرور النصارى من سفك للدماء في حرب غير متكافئة الأطراف و لا القوى، الذي كان يقاوم الحصار بصمود لائق مع شعب المدينة وحاول الدفاع بكل الوسائل المتاحة والثروات الكامنة في مملكة الصغيرة التي أنهكها الحصار فبدأت قوتها تخور ونجمها يأفل رويدا رويدا،فكان لا بد من للمدينة أن تُسلم .

أما في الحمراء فكان الأرق و الخوف سيد الحضور في القصر الذي طاف شبحه على كل سكانه من الملك الصغير الذي كان خائفا من قيام ثورة اخيرة تقلب الموازين و تخرق معاهدة الذل مع النصارى
فيضطر للمواجهة التي كانت في نظره لتكون خاسرة لا محالة فلا قِبل لغرناطة كي تواجه جيش النصارى حتى و لو تسلح بعض فرسانها وجندها بالهمة العالية والشجاعة و حبهم للدفاع عن الارض بالروح والدم والذود عنها وعن أهلها فسق النصارى وشرورهم و من هؤولاء أمثال موسى ابن ابي غسان الذي قال «ليعلم ملك النصارى أن العربي قد وُلِد للجواد والرمح» وصاحبه ابن الربيع و غيرهما من فرسان غرناطة الشجعان.
حتى السلطانة عائشة الحرة أم الصغير كانت تحث إبنها على المقاومة و الدفاع فما من إمراة تعرف غدر النصارى و نقضهم لعهودهم و قلة وفائهم بإلتزاماتهم خصوصا مع العرب أن يفوا هاته المرة بعهودهم ويحفظون كرامة شعبها، كانت ترى بعين الخبير ان غرناطة ستستباح كما قرطبة و اشبيلية و غيرها من درر الاندلس فلا حدود للطمع الصليبي و لا ذمة لمن لا ذمة له.

في ذاك اليوم كان السكون زائرا مقيما في حي البيازين الحي الذي لا يعرف الصمت و لا الهدوء الحي الذي يضج بالحركة والاصوات، الحي الخارج عن القانون دائم الإنتفاضة، هَدهُ الحصار الطويل وقتله دون سلاح امر معاهدة تسليم غرناطة التي سرت في الحي كسريان النار في الهشيم تنقلها الرياح الباردة في ذاك الشهر القارس الحزين بين الأزقة الضيقة الموحشة، لتلفظ خبرها الصاعقة على عتبة كل باب لتتلقفه القلوب الواجمة الخائفة بخزن و خوف وآسى على أنفسهم و على ارضهم التي احبوا وأرض أجدادهم التي بنوها و ستضيع منهم ليستمتع بخيرها عدو تربص بهم قرونا عديدة و قتل منهم الولد و الوالد و شرد الاهل و الاحبة و سبى شريفات القوم و شرفائه ليباعوا في سوق النخاسة عبيدا بعد ان كانوا من علية القوم المطاعين الاشراف أصحاب النفوذ و الرأي.

غلفت الأرواح باليأس و سكن الوجع القلوب و سكبت الأعين حر دموعها الدامية مع إقتراب موعد التسليم، فتسأل سائل: ” هل سنشهد سقوط أخر مدننا، هل سيجرى على أهل غرناطة ما جرى على المدن الأخرى، هل سنكون مدجنين كما يسمون بعض أهلنا؟ “… وتسأل قلب آخر مفجوع: ” هل سيشهدوا حيينا قَشتلة معوجة بعد الذكر و التسبيح و هل ستغدوا جوامعنا الشامخة كنائس لهم، هل سنرى صلبان تصلب معها أرواحنا بعد أن يعلقونها على الجوامع وعلى الأسوار كعادتهم عند دخول اي مدينة؟ ” …. وهون آخر الامر كان في قلبه المسكين بعض أمل يحدوه: ” لن يحدث ذلك فالمعاهدة تنص على حفظ كرامة الشعب و دينه و معتقده و ماله فتظل جوامعنا كما هي و سيظل البيازين زينة غرناطة مسبحا وذاكرا”
نظر له الصحب إشفاقا عليه من أماله الزائفة الواهنة فكلهم يعرف ان النصارى لا يحفظون عهدا وأن التاريخ خير شاهد على ذلك فكم من معاهدة نقضت و كانت بنودها سرابا .
لم يعرف المسكين أن حي البيازين زينة غرناطة سيغدو بعد سويعات من ذاك اليوم حيا للبائسين، لم يعلم أنهم لم يكونوا لا أندلسيين ولا مدجنين بل سيغدون موريسكيين نعت سيوسمهم كما توسم قطعان من الأغنام سيلتصق بهم وسيصبحون رغما عنهم من المُقشتالين لامسلمون ولا مسحيين، ستسلب أموالهم و يعمل المالك أجيرا في أرضه بعد حين، وستغدو الحرة عبدة لسيد علج كان من المرتزقة السفاحين ربما قتل لها أبا أو إبنا أو حبيب…. تلك ما كانت عليه بنود المعاهدة الحقيقة سفك وتدمير و سلخ عن الهوية وفي النهاية التهجير.

كان ذلك اليوم ثقيل الظل على أهل البيازين، خانقا باعثا على القلق الذي أنشب براثه في سكان قصر الحمراء ، و قد أعلنت القلوب الحداد باكرا على حصن الإسلام الأخير في الأندلس، لكن كانت بعض القلوب متحمسة للتسليم و ترى فيه الحل الأنسب للطرفين وخاصة لمصالحها الشخصية فبعض وزراء البلاط الملكي في الحمراء كانوا ممن يشجعون على التسليم وكانوا ممن يزينونه للملك الصغير، فإبن كماشة وإبن المليح كانوا من الموافقين التواقين للتسليم طبعا مع مكافئة مغرية من السيد الجديد إن هم ساعدوا في عملية التمكين و ترسيخ أقدام زوار الممكلة الحزينة، وكأن غرناطة ما سكنتهم و ما تغلغلت فيهم بروحها وبهجتها و حضوتها كأنها ما كانت لهم عزا و وطنا وأرضا لكنها الخيانة و طبع النفس البغيضة، بيدَ أنها سكنت بعض الأعزاء اللذين رفضوا أن تكون أرض غرناطة مداسا لجحافل النصارى فقرروا المواجهة على ذل التسليم وبعضهم تحصن في جبال البشرات لتكون شوكة تنغص فرحة النصارى بدخول الحمراء وسيفا في خاصرة فوزهم الأحمر الكاذب على قلوب أهلها الممزقة.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. السلام عليكم
    مقال ثري يشدك من الاسطر الاولي .. برافوا جميل حقا و اضاف الي الكثير .. نريد المزيد من هذه المقالات
    شكرا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى