قراءة نقدية: الموت کعقدة وجودية في نص خديجة بوعلي: يزهر العمر حزنا
سوران محمد | مترجم وشاعر وناقد
ينظر البعض الى النقد بمثابة عملية جراحية شاقة لأعادة کتابة النصوص حسب معطيات علمية لسبر أغوارها معتمدا على غنى الفکرة و زوايا الروءى و أبعادها الابداعية، والمحصلة اما ان تكون موافقا أو مخالفا مع مرامي المٶلف أو الشاعر، و لا تكتمل هذه العملية الا عندما يبني الناقد قراءاته على أسس و رکائزمتينة يتجلى من خلال بناءه جماليات النص أو مساوئه، ولو ان کل نص يحمل بشكل من الاشكال و بين طياته دلالات و لمحات ابداعية و مكامن روحية، وكما قيل: الوردة جميلة في البراري حتی وان لم يتطلع عليها أحد.
اذا ليس أمام الناقد الحاذق التريث والتقاعس بحجة ضعف مستوى النصوص و بساطتها، في حين ينصف معظم الشعراء في زماننا هذا من الطبقة المغبونة والمنبوذة وهم المطرودين من جمهوريات عدة، بل احيانا يعلن وفاتهم وهم على قيد الحياة! كما أشار اليه الاستاذ عدنان الصباح في مقاله “حين يذبح الشاعر قبل موته” اشارة منه الى قصة الشاعر المرحوم خالد أبو خالد.
صحيح ان نبرة الحياة في الاصل حزينة فلا حاجة الى لوم الشعراء و تسميتهم بالمتشائمين؟ لنا ان نتسائل هنا هل ان بلوغ مفاهيم الفراق و معرفة طبيعة قصر الحياة و نهايتها الخاطفة والاحساس بعذاباتها تعتبر شوءما ام تبلورا لأصل موجود فعلا وهو مخفي عند الأكثرية؟ وتظهر هنا هذه المعرفة الفلسفية العميقة في صور و دوال شعرية نابعة من أغوار نفس الشاعرة کقناعات راسخة.
فلنسافر هذه المرة مع الشاعرة الموهوبة خديجة بوعلي الى المغرب حيث الضوء يختفي من وراء السحب الظلماء، ولنبدء بنقاش العنوان (يزهر العمر حزنا ) فكما قيل ان النص من دون عنوان يعتبر کالبيت دون الباب، هنا في هذا العنوان نلاحظ ونتلمس نقطتين متضادين، فالمفارقةparadox واضحة في العنوان وهو جمع ضدين و هما الزهر مع نقيضها الحزن، فهل يعتبر الحزن زهرا؟ وهذا الاسلوب الجميل يذكرنا بحائية د.ناديا حينما تقول:
مع الجيناتِ السياسية
و جوقة الحاء السخية:
الحب و….الحرب
الحزن و …الحنين
الحق و….الحقيقة
الحلم و …الحسرة
الحزم و..…الحنان
البحر و….الحريق
الحديقة و….الحبق
ثم ان وضوح العنوان “يزهر العمر حزنا” يتناقض مع المتن المجازي المصقل بماء الاستعارات و دفء الرموز، وربما يرجع السبب هذا الی تعمد الشاعرة اختيارها لهذا العنوان الواضح والصريح، كي لا تتهم بالغموض الغير الهادف، فتصبح العنوان بمثابة المفتاح لدخول الصرخ الشامخ للنص، كما ان هذا العنوان يأتي على شاکلة نصها السابق (العمر سيل جارف) حيث تکتب الشاعرة فيه:
لم تنتبه
أن الموت أهون من حياة على صفيح ندم ساخن
فلو تحدثنا عن اللغة المستعملة في متن هذا النص لنراها لغة شعرية راقية لأسباب عدة:
١- تجنب البساطة والصراحة و الأسلوب الخطابي المباشر.
٢- الخروج عن الثيمة الرومانسية المألوفة.
٣- تخطي حاجز الذاتية و السرد الشخصي.
٤- الاستعانة بالرموز و مصطلحات لغوية نادرة.
فهي تتداول مصطلحات ندرة الاستعمال کالـ(جدائل، العوسج، قفار، فاهرة، لجين ) بل تحاول جاهدا ان تستعين على سبيل المثال بصيغ المبالغة كما في (الصموت) أو استخدام (صَبيب) لكونه صفة ثابتة للمفعول من صبَّ: مصبوب.
أما اذا أتينا الی الفكرة و الروءية الشعرية سنواجه لأول وهلة أفعال مضارعة و ماضية في منتهى السوداوية و القنوط كالـ: (تفتر، يتضاءل، تتدلى، تمزق، يخفت، تبعثر، يبست، تخلت، فقدت، أفرغت)، فجلها ذات ايحاءات سلبية تقرع على التوالي أجراس الخطر، ترى هل هذه دقات انذار بأنتشار نظام الدجل قبل المجيء الفعلي و المتبلور في ذات المشعوذ؟ أم ان الغربة المعنوية و وقوع الشاعرة بين كماشة الحياة والموت جعلتها تنغمس في وحل الحيرة و الفزع مناديا و محذرا الجميع من خطر ما يحيط بالانسان من مخاطر و تنبههم بهول المشهد و سوء المنقلب. وکأن الشاعرة واقفة فوق الاعالي وترى النهايات الحتمية و المصائب النازلة وتخبر الناس بحقيقة القصة، فما قيمة الانتظار دون أمل منشود؟ وهكذا ينبت شجر العوسج أو العوشز في صحاري الحياة القاحلة أينما توجهنا داخل أسوار هذا النص، حيث لا بشرى و لا رسالة أمل تأتينا بها الرياح شرقا ولا غربا الا ان نرجع الى رشدنا و نبني المستقبل بالتعاون الجاد بيننا و حل العدالة الاجتماعية مكان الجور السائد و الفوضی الممنهج، اذا يمكن للمرء ان يحاول صنع السعادة بنفسه في محيطه الصغير و اسعاد نفسه بالاشتغال مع الجزئيات والاستسلام للقدر کما يفعله معظم الناس و لكن الشاعرة هنا تقف ضد التيار و تتفرد بقناعاتها الوجودية منبثقة من تجارب حياتية خاصة و معرفية راسخة.
وها هو ميخائيل بافلوفيتش شيشكين(١٩٦١- …..) الكاتب الروسي المشهور يقول: نحن الكائن الحي الوحيد الذي يدرك حتمية الموت، لذا لا يجوز أن نؤجل السعادة إلى زمن قادم، يجب أن نكون سعداء الآن.
رتيبة … خطوات الريح…
لم تعد تخبر عن الوجود شيئا
ميكانيكيا… أوتوماتيكيا تقلب الصفحات
تزرع العوسج
في عيون فاهرة
أفرغتها الإنتظارات
من لجين الحياة
وهكذا في نهاية المطاف نجد أنفسنا مع الشاعرة خديجة بوعلي متحيرا في مستنقع الوجود و الموت يحصد أرواح الجميع عاجلا أم آجلا، أوبئة و حروب و مجاعة و كوارث تحتل مانشيتات الصحف و تتساءل الشاعرة في نهاية نصها لم هذه الرتابة يا ريح؟ و قد عاد جلجامش من رحلته بحثا عن الخلود خائبا دون جدوى! أم ان الاعتراف بالحق فضيلة من منظور الشاعرة المرهفة كما نظر اليه د.علي الطنطاوي حين قال: فرأيت (البلد الحبيب) نصفه مقبرة للأموات، ونصفه مستشفى لمن ينتظر الموت.