هكذا قرأت رواية ” الخاصرة الرخوة
خالدية حسين أبو جبل
صدرت رواية الخاصرة الرخوة للأديب المقدسي جميل السلحوت عام 2018 عن مكتبة كل شيء في حيفا، وتقع الرواية في 158 صفحة من الحجم المتوسط.
وأمّا عتبة النص فتحكي الكثير ” الخاصرة الرخوة”، وللجسم خاصرتان تتوسطانه من الجانبين، فإن كانت إحداهما رخوة لينة اعوجّ الجسم ومال وسقط. هي دلالة ابداعية، فعند الحديث عن الخاصرتين لا يمكن ان تُعطي إحداهما أهمية أقلّ من الخاصرة الأخرى. إذن وانطلاقا من هذه العتبة فنحن نجد أنفسنا أمام رواية تحكي قصة مجتمع موجوع. وجعٌ لا يَسهُل علاجه، طالما أن العلاج مرتبط بقضية الوعي.
فها هو عيسى الذي حمل بين جنبيّه جرح الغربة واللجوء، وحرقة الحنين لبيته المُغلق على ذكرياته، المُنتظر بلوعة على شاطئ يافا الحزين، نراه يشكو جرحًا آخر دفينًا، جرحٌ تتوجع له الخاصرة وقد تميل! ، فعيسى برغم قوة إيمانه بالله وقناعته بحكمة عطائه، إلّا أنه يشعر بالنقص لأن نصيبه من الذُّرية كان خمس بنات،
خمس بنات تعني أنه سيبقى هو المُعيل الوحيد للبيت، وأن همَّ البنات للمات، فما عساه فاعلٌ؟ ختار عيسى لبناته العلم طريقًا وسلاحًا، يكفيهم عِوَز الناس وذلَّ السؤال، ويضمن لهنّ زيجات ناجحة، وقد تجلّى هذا السبب بوضوح مباشرة بعد أن قرع بابه خطّاب لابنته البكر جمانة، وإن تغلبت عليه صفة الأب المحب لابنته ومصلحتها، فهو يرفض تزويجها لتكون خادمة لزوجها أو لبيت حميها، وبالطبع فما من أحد يُنكر على عيسى وعلى زوحته محبتهم لبناتهم وبحثهم عن سبل السعادة لهن.لكنها هي المحبة التي تقودها عقائد وعادات وترسبات فكرية بائسة بحق المرأة التي نظر اليها الكثيرون باعوجاج فكري – فما عانت هي من اعوجاج أبدا- فرأوا أن مكان المرأة الأهمّم والأوّل والأخير هو بيتها، وهذا ما صرح به أبو أسامة: ماذا ستستفيد؟
هذا ما صرح به ابو اسامه: ماذا سستفيد من دراستها؟ فالنساء خُلقن للزواج والإنجاب وخدمة أزواجهنّ. وقد اختصر أبو أسامه بكلامه، فكر مجتمع بغالبيته الغالبة، فليست المرأة أكثر من دمية لامتاع الرجل وآلة للانجاب وجهاز للغسيل والتنظيف.
فلا مكان لأايها وقناعاتها ومشاعرها. في حين أن هذا هو الوضع شبه السائد في محتمعنا الذي تذبحه سكاكين التشرذم والفوضى الاجتماعية والسياسية والعقائدية. فالرواية جاءت لتضيء على شريحة خاصّة من المجتمع، فالعروس جمانة فتاة في سنتها الأخيرة، متفوقة مميزة مثقفة جميلة ملتزمة، تعشق الأدب روايةً وشعرًا.
أمّا العريس فهو خريج شريعة ملتزم ومتزمّت دينيا. كان التقاؤهما بائسا، هزيمة أخرى تسجل في قائمة هزائم مجتمعنا.
وكان من الذكاء أن تسافر الرواية بابطالها إلى السعودية، ليستطيع الكاتب أن يصوّر بدقة مجريات الأحداث وتسلسلها، وسلوك الشخصيات التي تدور حولهما فكرة الرواية، دون أن يكون أي تأثير مباشر عليهما من الأهل.
جمانة الفتاة الجامعية المثقفة لاذت بالصمت والدموع والخضوع، كان علمها أداة لتجد به وظيفة مستقبلية، ولم تستغله ليكون لها سلاحا فكريا منطقيا، تُدافع به عن حقها في اختيار شريك حياتها، وأن حقها في اختيار طريقها لا يتعارض بأيّ شكل مع طاعة الوالدين. أمّا الشاب أسامة والذي يلبس من الدين عباءته، فقد تخطّى كلّ الأخلاق الانسانية والمبادئ الدّينيّة من أوّل لقاء لهما، حيث طلب تقبيلها والقرب
منها فور عقد قرانهما في بيت أبيها، ولم يقرأ من الآية الكريمة إلا أوّلها متعاميًا عن تتمتها “نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ ۖ وَقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُمْ ۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوٓاْ أَنَّكُم مُّلَٰقُوهُ ۗ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ.”سورة البقرة.
لم ير بعروسه جمانة إلا جسدا جميلا فاتنا لا يصلح رغم جماله وسحره إلا ليكون مكّبا لنفايات وميدانا لعرض فحولته.
هذا الملتحي الغيور يتناسى الحديث النبوي الشريف ” ما أكرمهنّ إلا كريم وما أهانهنّ الا لئيم.” فيتجبر بعروسه في غربتها بالمسكن البائس (والأصح تسميته بالسجن) والبخل مع سعة الرزق، وخنق الفكر قتل مشاعر القلب ، وقطيعة الرحم واللؤم.
إذن فلا علم الفتاة نجّاها من الظلم، ولا التّزيّن بعمامة الدّين منع الظلم عنها.
لم تقو على دفع الظلم إلا بعد أن ذُبحت، وأنجبت للحياة ضحايا صمتها وخنوعها.
وأنا لا أحمّل المسؤولية لجهل وقلق والديها وحدهما، إنّما أحمّلها عقبة ما آلت إليه مناصفة، بصمتها وهي المتعلمة. وعدم مشاركتها أهلها في همّها، وإن كان منع عنها وسائل الاتصال خوفا عليهم من الهمّ والحزن، لكنّها في النّهاية تعود لهم حاملة الكارثة الاجتماعية الكبرى ( الطلاق ) وطفلا.
وعلى الجانب الآخر من الرواية نتابع حياة بيت عمّ أسامه الذي عاشت الفتاة فيه” متحررة” من قيود أسرتها بسريّة تامة، لتستغلّ حريّتها بأبشع ما يكون؛ لتعيش الكابوس الأفظع ما بين عقد زواج وعقد طلاق، وفي الحالتين يحمل الأبناء وزر ما جنى آباؤهم.
رواية حملت بسرديتها السريعة الشائقة وجه مجتمع عليل، يستفزّ في دواخلنا التساؤلات المنطقية القابلة للتّفكير وإحداث الّغيير والإجابة.
لماذا يتعامى مجتمعنا اليوم عن دور المرأة الكبير عبر العصور؟ فهي لم تقف مكتوفة اليدين أبدا، فقد كانت شاعرة وحكيمة ومحاربة وفنانة ومعالجة وملكة، وهي الراعي الأوّل لأمور أسرتها التربوية والمادية. كيف يغيب عن ذهن محتمعنا، أن فاقد الشيء لا يعطيه.
كيف لامرأة مقموعة اقتصاديا اعتادت مدّ يد الذلّ لزوجها في أبسط أمورها أن تربي أبناء يعتزون بعفة نفوسهم. كيف لامرأة طُعنت في عاطفتها وأنوثتها، وحفَرَ الأسى ندوبًا في قلبها ن تُربي أبناء أسوياء!؟
مجتمع تغييره مرهون بما تزرعه المرأة، أوليست هي” الأم مدرسة إذا أعددتها… أعددت شعبًا طيب الأعراق”؟
ترى أيّ وعي مختلف أعطاه المجتمع الذكوري للمراة؛ لتنعم بكونها إنسانا كرّمها الله بالرحمة والإرادة والصبر والمقدرة، ليقمعها الرجل باسم الدين، والدين منها براء فما هي إلا ثقافات بُنيت على عادات وتقاليد بالية.
آن الاوان، ومنذ كثير زمان، أن ندرك أن المجتمع يستحيل ان ينهض بنصف طاقاته. وم المرأة إلا خاصرة مجتمعنا الرّخوة فمتى نشدّها؟