ظاهرة الغموض في الأدب العربي الحديث.. قراءة نقدية في أدب رواد الحداثة (1)
الدكتور/ إبراهيم محمد خفاجة
أستاذ اللغة العربية وآدابها المساعد – وعضو الاتحاد الدولي للغة العربية
لقد عصفت بالبشرية تيارات فكرية متعددة منذ قديم الزمان وحتى وقتنا الحاضر، وكان منها ما ساعد على نهضة الإنسانية وتطورها، ومنها ما عاق حركة التقدم والنمو، وأدى إلى مزيد من الجهل والتخلف…
ولم تكن تلك التيارات الفكرية بمعزل عن حياة البشر فقد أثرت في شتى نواحي الحياة، بل إن بعضها أذاق البشرية ويلات الحروب والظلم لقرون عديدة، ولم يكن الأدب بوصفه نتاج فكري عقلي يبدعه العقل البشري بمعزل عن تلك التيارات والاتجاهات التي أثرت في البشرية عامة… فظهرت أفكار وفلسفات ونظريات مختلفة ألقت بظلالها على النتاج الأدبي وأثرت فيه وتأثر بها، وتصادمت الحضارات وابتعدت ثم التقت، وأثرت كل منها في الأخريات وتأثرت بها، ولم تقف الثقافة العربية الإسلامية موقف المتفرج إزاء تلك الأمواج المتلاطمة من التيارات الفكرية المتعددة، بل تعرفت عليها وانتقت منها ما يتناسب مع مفاهيمها الأصيلة وقيمها النبيلة، فأخذت خير ما عند الآخرين، وهذبت كثيرًا من تلك الأفكار، وصححت كثيرا من المعتقدات الفاسدة، وجعلت تلك الثقافات تنطلق من مرقدها وتتحرر منها مائها الآسن الذي رقدت فيه سنوات طويلة إلى ظلال فيحاء وحدائق غناء، وقيما نبيلة ….. إلى أن دارت الأيام وأصبح الواهب ينتظر العطية، والمعلم يرجو نصح التلميذ، وران على الحضارة العربية سنوات عجاف فقدت فيها رونقها وتميزها، وعز فيها أصحاب الفكر المستنير، وخيم على الشعوب ستار من الجهل أشبه بظلمة الليل البهيم فرضته عليهم ظروف العصر وأحداث الزمان، وتخلى أهلها عن واجباتهم، وظلم وتجبر المستعمر، ثم جاء الأمل في البعث من جديد مع بداية عصر النهضة، واستيقظت الأمم والشعوب من سباتها العميق، وعرفت أن لها ماضٍ تليدًا ويجب أن تعتز به وتفخر بالانتساب إليه، وأن تحاول جاهدة أن تكشف ما ران عليه من جهالات السنين، فانتشر العلم من جديد وتيسرت سبله، وأبدع الأدباء وتغنى الشعراء وازدهرت العلوم والفنون مرة أخرى، إلا أنها في هذه المرة لم تكن عربية خالصة، بل شابها ما شاب غيرها وهبت عليها رياح التغيير مثل كل شيء في الحياة فتأثرت تأثرا كبيرا في بداياتها بتلك الأفكار الوافدة، وإن حاولت أن تحافظ على هويتها وأصالتها إلا أن الرياح كانت قوية عصفت في طريقها ببعض العقول ممن استهوتهم ثقافات الغرب وآدابه، فحاولوا النسج على منواله والسير على طريقته دون تفكير أو تمحيص، أو إمعان النظر فيما إذا كان هذا يتوافق مع قيمنا الثابتة وتراثنا التليد وأخلاقنا وعاداتنا وتقليدنا العربية الأصيلة أم لا…. فكانت النتيجة أنهم ضلوا وأضلوا… وجعل الله أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.
ومن بين تلك الأفكار الكثيرة التي وردت إلينا من ثقافات الغرب وتأثر بها بعض أصحاب الكلمة ممن ادعوا الأدب والأدب منهم براء ما يسمى بالغموض، وإدعائهم أن الأدب لابد أن يكون غامضا، وتشربهم هذا الفكر الضال جعلهم ينتجون كلاما لا معنى له ولا قيمة، بل كان أشبه بأضغاث أحلام، أو هلوسات جنون، يأبى القلم عند الحديث عنهم وعن كتاباتهم أن يسمي هذا النتاج أدبا أو يسمه بهذا الوصف.
وفي الصفحات التالية سأحاول أن أقدم تعريفًا للغموض ومفهومه في الأدب عند القدماء والمحدثين، وأبين أهم مظاهره في الأدب الحديث ومدارسه التي دعت إليه وأشهر الكتاب في هذا الاتجاه، وأبين ما جرته هذا الأفكار الشاذة على الأدب بصفة عامة وعلى اللغة بصفة خاصة. والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
مفهوم الغموض بين القدماء والمحدثين:
مفهوم الغموض عند القدماء:
الغموض في اللغة يرادف الإبهام والتعمية والخفاء والصعوبة والتعقيد، فكلام مغمض، أي: مبهم، أو معقد([1])، وهو يضاد الوضوح والإبانة، والإعراب.
ولا يكاد يختلف المعنى الاصطلاحي للغموض عن المعنى اللغوي، فهو يعني الخفاء وعدم الظهور، والاستتار، وصعوبة التوصل إليه.
وقد ورد المصطلح في التراث الأدبي العربي القديم ولدى النقاد العرب على مر العصور، ونفروا منه، وكشفوا عن مساوئه ومثالبه، وقد ورد الذكر الحكيم داعيا إلى الوضوح والبيان، وكان الوضوح هو السمة الغالبة على الفكر العربي والدعوة التي نادى بها النقاد والأدباء على مر العصور([2]).
والوضوح الذي نادى به النقاد القدماء لا يعني أن يأتي المعنى مبتذلا، أو سطحيا، كما لا يتنافى مع الإيحاء والإشارة، واستخدام الرمز، والأسطورة ولغة المجاز والتصوير([3]).
وقد فهم النقاد والأدباء القدماء هذا المعنى جيدا، وجاء إنتاجهم الأدبي موافقا له، فلا هو سهل مبتذل، أو سطحي عامي، ولا هو مغلق يصعب على الأفهام الوصول إليه، بل كان وسطا بين هذا وذاك.
وعلى العموم، فإن كلمة الغموض عندما ترد في التراث العربي القديم لم يكن يقصد بها انغلاق المعنى وعدم الاتصال مع النص أو مع المتلقي، بل كانت ترد بمعنى الغوص وطول التأمل والبحث للوصول إلى الغاية المطلوبة، وهي بهذا المعنى ذات صفة إيجابية فنية ولا تمنع المتلقي من وصول المعنى إليه([4]).
وفي هذا المعنى ورد كلام ابن أبي الحديد، حيث قال: “لسنا نعني بالغموض أن يكون كأشكال إقليدس والمجسطي، والكلام في الجزء، بل أن يكون بحيث إذا ورد على الأذهان بلغت منه معاني غير مبتذلة، وحكما غير مطروقة”([5]).
مفهوم الغموض عند المحدثين:
أما الغموض في العصر الحديث، فيعتبر ملمحا من ملامح الحداثة المعاصرة التي نقلتها الثقافة العربية عن الثقافات الغربية، ولا سيما تلك المدارس التي تبنت فكرتها وعادت الواقع، وتنكرت للعقل والمنطق والشعور أيضا، بل وادعت أن لغة الأدب وسيلة للإيحاء وليست لنقل معان محددة([6]).
يقول أدونيس وهو من رواد هذا الاتجاه: “ليس من الضروري لكي نستمتع بالشعر أن ندرك معناه إدراكا شاملا، بل لعل مثل هذا الإدراك يفقدنا هذه المتعة، ذلك أن الغموض هو قوام الرغبة بالمعرفة، ولذلك هو قوام الشعر”([7]). بل وصل الأمر بشاعر ممن تأثروا بهذا الاتجاه مثل محمود درويش إلى أن يقول:
“لن تفهموني دون معجزة
لأن لغاتكم مفهومة
إن الوضوح جريمة”([8]).
ومن ثم جنح أصحاب هذا الاتجاه إلى استخدام لغة رمزية، وتجريد كلمات اللغة وألفاظها من معانيها الحقيقية، واخترعوا صورًا شاذة غير مألوفة، فكان إنتاجهم يصعب فهمه على كثير من القراء وحتى عليهم أنفسهم، وبدل أن يعبروا عن الواقع بآلامه وأحلامه تقوقعوا إلى داخل أنفسهم وانسحبوا إلى عالمهم الخاص الذي يعادي الواقع ويرى فيه كل رزيلة، واخترعوا لأنفسهم عالمًا خاصًا بهم جعلوا منه مثلهم الأعلى، وكانوا أشبه بالمتصوفة الغلاة في استخدامهم الألفاظ في غير معانيها الحقيقية، وانغلاق المعاني والأفكار.
(وإلى لقاء قريب في الجزء الثاني بإذن الله تعالى)
مراجع المقال:
-الإبهام في شعر الحداثة، د. عبد الرحمن محمد القاعود، عالم المعرفة – الكويت، 1978م.
-الحداثة، د. وليد القصاب، دار القلم ، دبي- الإمارات العربية المتحدة، الطبعة الأولى، 1417هـ -1996م.
– الأدب وفنونه، د. محمد مندور، دار نهضة مصر، القاهرة، مصر، بدون تاريخ.
– الأسس النفسية للإبداع الفني، د. مصري عبد الحميد حنورة، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1986م.
-سيكولوجية الشعر (العصاب والصحة النفسية)، د. محمد طه عسر ، عالم الكتب، القاهرة، مصر ، الطبعة الأولى 1420 هـ – 2000م.
-في الأدب الإسلامي، د. وليد القصاب، دار القلم، دبي – الإمارات العربية المتحدة، الطبعة الأولى، 1419 هـ -1998م.
-لسان العرب، ابن منظور المصري، دار صادر بيروت لبنان، د.ت.
-الميزان الجديد، د. محمد مندور، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
– النقد الأدبي الحديث، بداياته وتطوراته، د. حلمي محمد القاعود، دار النشر الدولي، الرياض، السعودية، الطبعة الأولى 1427 هـ -2006م.
– النقد الأدبي الحديث، د. محمد غنيمي هلال، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الخامسة 1971م.
– النقد المنهجي عند العرب، د. محمد مندور، دار نهضة مصر، القاهرة، مصر، 2003م.
([1]) انظر لسان العرب لابن منظور مادة (غمض)، والقاموس المحيط للفيزوآبادي مادة (غمض).
([2]) انظر في الأدب الإسلامي للدكتور وليد قصاب، ص: (107-113).
([5]) نقلا عن السابق، ص: (110).
([6]) الحداثة في الشعر العربي المعاصر، د. وليد قصاب، ص: (166) وما بعدها، بتصرف.
أحسنت يا دكتور