إشكالية الإعلام الديني: الوَلْسُ والتَّضْلِيلُ في كَبِدِ الشَّهْرِ الفَضِيلِ!(2) 

د. آصال أبسال | أكاديمية وإعلامية تونسية – كوبنهاغن (الدنمارك)

قلتُ من قبلُ، في القسم الأول من هذا المقال، إن ثمَّةَ، من بين المبتذَل والبَخْس ممَّا يمكن أن نعرِّفه بشكل من أشكال «الأسلوبيات» التي يتمُّ تمويهُها وتوجيهُها في العوالم السياسية والصحافية والإعلامية وما شابه ذلك، إن ثمَّةَ ما يُصْطَلَح عليه سخريةً وتهكُّمًا مُدَوْزَنَيْنِ بـ«اللغة الخشبية» Langue de Bois، هذا الاصطلاح المجازي المركَّب الذي قيل إن السياسي الفرنسي، جورج كليمنصوه، قد صاغة لأول مرَّة إبانَ اندلاع الحرب البولندية-الروسية (السوفييتية) في بداية العام 1919 (أو هكذا يُظَنُّ، إثرَ انتهاء الحرب العالمية الأولى، أو الحرب العظمى، في العام 1918).. وقلتُ أيضا إن هذه اللغة الخشبية بالذات لا يستعملها في أيٍّ من تيك العوالم المذكورة للتَّوِّ سوى مَنْ يحترفُ الكذبَ والنفاقَ حرفتَيْن متلازمتَيْن لكيما يستمرَّ اعتياشُه الماديُّ و/أو المعنويُّ كواحدٍ من أولئك الكَتَبَةِ الكَسَبَةِ الوُضَعَاء الحُقَرَاء الذين لا يجيدون من النقل، لا من العقل، من تيك العوالم إلا قولا مدمَّسًا في سباخ الخيانة والإبطال الصَّارخَيْن وما يترتَّب عليهما من أقوالٍ مدنَّسةٍ في مستنقعاتِ «الوَلْسِ والتَّضْلِيلِ» الأشدِّ صَريخًا ممَّا قد يخطر، أو قد لا يخطر، على أي بالٍ من البالاتِ – فما بالُ حتى بَآلَةِ، أو بُؤُولَةِ، القولِ من هكذا كاتبةٍ صحافيةٍ «قدساويةٍ» دَيِّنَةٍ لاهَيِّنَةٍ، متحجِّبةٍ لامتعجِّبةٍ، كمثل إحسان الفقيه، ممَّا هو حتى الأشدُّ الأشدُّ صَريخًا من صَريخِ حنجراتِ «الوَلْسِ والتَّضْلِيلِ»، وفي هكذا كَبِدٍ من شهرِ رمضانَ بالذاتِ، هذا الشَّهْرِ الفَضِيلِ (وعلى الأخصِّ حين كان الحديث يسري، بادئ ذي بدء، وسطَ قدسيَّتِهِ قبل أسابيعَ قد خلتْ في حيِّز التمثيل).. وهكذا، إذن، وما بين تاريخ صُدور القسم الأول وتاريخ صُدور القسم الثاني من هذا المقال (والأمر، هنا، ليس مصادفةً بتَّةً)، ثَمَّةَ عددٌ لا بأسَ بهِ من تقاريرَ إنبائيةٍ من الأنموذج المصطنع المصنَّع الذي أُشيرَ إليه في العَرْض التمهيدي ساعتَئذٍ، تقاريرَ إنبائيةٍ لم تَجِئْ، بناءً على تكليفِ عينِ الكاتبةِ الصحافيةِ «القدساوية» المعنيَّةِ من لدن رهطِ أسيادِهَا (المذكورينَ ورهطَ أسيادِهِمْ هناك، بدورهِمْ هُمُ الآخرونَ)، إلا لكي تثبتَ كلَّ الإثباتِ، وبالدليل الدامغ مفردا وجمعا، ما جاء في ذلك القسم الأول من توصيفٍ، أو من توصيفاتٍ، حتى بالحذافير..

وهكذا، بصريح الكلام إيرادا ههنا بالمثال المناسب، ففي تقريرها الإخباري الذي بُدئ منه صادرا إذَّاك تحت العنوان الاستفهامي أولا، «هل نحن عبيد الأمر الواقع؟» /18 نيسان (أبريل) 2021/، تلجأ الكاتبة الصحافية «القدساوية» المعنيَّة إلى انتحال نبرة التذمُّر الزيفي اللافت للانتباهِ من عبودية الرضوخ إلى هذا «الأمر الواقع»، في حين أنها لم تتوقف بتَّةً، من طرفها هي ذاتها، عن عبادة ما تورده في الفواتح من حكايا «قدسيةٍ» وأمثال «تقديسيةٍ» وعظات «مقدَّسةٍ» عن نظام الخلافة الإسلاميِّ في وَقْعِ المآلِ، لكنِ المتأسلمُ المتفيقهُ المستفتي في واقعِ الحالِ، وسواء كان مُنتقًى لإرضاء أنظمة الهاشمي من السلالات أم العثماني من العائلات أم القطري من «الآلات»، وما شاكل ذلك، مخالِفًا (وبالإتباع، مخالِفَةً) كل الخلاف أول توصية نبوية بالنَّهْيِ عن التوريث المقيت من آلٍ لآلٍ.. وفي تقريرها الإخباري الذي أُتبع صادرا كذاك تحت العنوان المَثَلي ثانيا، «رمتني بدائها وانسلّت: بايدن إذ يتحدث عن إبادة الأرمن» /25 نيسان (أبريل) 2021/، تتابع الكاتبة الصحافية «القدساوية» المعنيَّةُ اللجوءَ انتحالا بالاسترقاق إلى المعادل الذهاني لتنزيه وتبريء فَلِّ أسيادها الأتراك (ومن ثم، فلول أسلافهم العثمانيين) من ارتكاب مجازر الإبادة الهمجية تلك بحق أكثر من مليون ضحية أرمنية قبل قرن من الزمان، أو يزيد (إبانَ الحرب العالمية الأولى)، وذلك عن طريق محاكاة «الرَّدِّ» بالمَثَلِ المذكورِ في العنوانِ، لكنِ الموجَّهُ بالمحاكاة ذاتها من طرفٍ واحدٍ ليس غير، هذا المَثَلِ المردود الذي أُريدَ منه أن «يذكِّر» بايدن، في المقابل، بقيام أمريكا في الأصل بارتكاب مجازر إبادة وحشية كذلك بحق عشرات الملايين من السكان الأصليين ممَّن يسمِّيهم الباحثُ العلميُّ الشريفُ بـ«الأَمَرْ-هنود» Amerindians، تحديدا (وليس بـ«الهنود الحمر»، كما يسمِّيهم كلُّ عبدٍ، أو متحدِّرٍ من عبيدٍ، عنصريٍّ بدائيٍّ جهولٍ من أولئك الرويبضات والإمَّعات والحاطبين في الليل والناتفين من الحواجب ما قد يقرَّبهم في الظنِّ من الإنسان، لكن في اليقين من شبه الإنسان).. ومن هنا، بالطبع، ينجلي جهلُ الكاتبةِ الصحافية «القدساوية» المعنيَّة (أو تجاهلُها) بالمُراد الموضوعي الذي يشير، في هذه القرينة دون سواها، إلى مسألة اعتراف أمريكا بجرائم الإبادة الهمجية تلك التي اجترمها الأتراك بحق الأرمن آنئذٍ، على وجه التحديد: حقيقةُ أن أمريكا قد اقترفت جرائرَ إبادةٍ وحشيةً بحق الأَمَرْ-هنود لا ينفي، ولا حتى يبرِّر أو يسوِّغ بأيتما هيئة كانت، حقيقةَ أن تركيا قد اجترمت جرائمَ إبادةٍ همجيةً بحق الأرمن – ناهيك عن اجترامِها (اجترامِ هذه الأخيرةِ) إذَّاك جرائمَ إبادةٍ حتى أكثرَ همجيةً بحق العرب والآشوريين والكلدانيين والأكراد، وغيرهم، وغيرهم.. وبالتالي، فإن ما يُسْعَى إلى تعتيمه وتعميته سعيًا حثيثًا حَثُوثًا، من هذا المنظور، إنما هو بالتساوي واقعُ كونِ أمريكا وتركيا كلتيهما دولتَيْن مجرمتَيْن في اجتراح تلك الفظائع والشنائع بامتياز، وإنما هو بالتوازي واقعُ كونِ كلِّ من «تدافع» استعبادًا واستذلالا ومداهنةً ومماذقةً عن إحداهما نِكَايةً بالأخرى، واقعُ كونِها مجرمةً لاأخلاقية ولاإنسانية بامتياز كذلك!!..

وهكذا أيضا، وفي تقريرها الإخباري الذي أُوصِل صادرا بذاك تحت العنوان الاستكشافي (أو حتى الكشفي) التهكُّمي ثالثا، «ما وراء مواعظ الشيخ أفيخاي» /2 أيار (مايو) 2021/، تواصل الكاتبة الصحافية «القدساوية» المعنيَّةُ اللوذَ إيهاما بأحابيل ما يُمكن أن يُسَمَّى في اصطلاح علم النفس بـ«الإسقاط الذاتي الاِلتوائي» Tortuous Auto-projection، أو بما معناه.. ذلك لأن هكذا كاتبة صحافية تحاول أن تستكشف أيًّا و/أو كُلا من أساليب التحريف والتشويه في سلوكيات الشخص المعني (أي أفيخاي أدرعي بالذات، وهو الناطق الرسمي باسم الجيش العبري لوسائل الإعلام العربي)، وإذ بها تكشف في الآن ذاته عن جل أساليب التحريف والتشويه في سلوكياتها الإمائية، هي ذاتها، من جرَّاء ما تُؤْمَر به في تصنيع، لا بل في ترقيع، نوع «الكتابة الصحافية» الذي بات يميِّزها أيما تمييز باكتظاظه حتى بالعبارات المسروقة من هنا ومن هناك، وإلى حد تماديها السافر في النقل الحرفي دونما وازعٍ ضميريٍّ، في كثير من الأحايين.. ومن بين تيك الأمثلة الملموسة التي تدل بالإسقاط المعني على هكذا أساليبَ تحريفيةٍ وتشويهيةٍ مُتَّخَذَةٍ بالتداعي من لدن كل من الناطق الرسمي الإسرائيلي والكاتبة الصحافية «القدساوية»، ومن بينها يبرز للعيان مثال تبنِّي ذلك التصريح الجزافي الذي يُخْرَج به مستديما على جمهور السامعين من العرب المسلمين (في حال الأول) وجمهور القُرَّاء من العربان المتأسلمين (في حال الأخيرة)، فيُخْرَج من ثم «مستصحبا سمت الواعظ المتحدث بتعاليم الإسلام»، تماما كما أنف ذكره في القسم الأول من هذا المقال.. ومن بينها، كذلك، يبرز للعيان مثالُ تظاهرٍ آخرُ معتدٌّ بذلك الخطاب التقديسي مرتكزا على شواهدَ منتقاةٍ من النص القرآني والنص الحديثي على حدٍّ سوًى، وذلك من أجل اصطناع صورة ذهنية لدى كل من الجمهورَيْن هذين عن طبيعة الكيان الصهيوني، صورة ذهنية تتجلى فيها «روح التسامح الديني» لكيما تعكس بالإسقاط المعني، كالمعتاد، صيغةَ رسالةٍ «تبشيريةٍ» لا تختلف، من حيث المبدأ، عن أيٍّ من صيغ تلك الرسائل، أو «الفرمانات»، البونابرتية (نسبةً إلى نابليون بونابرت) التي كانت تفتتح الخطابَ الموجَّهَ للشعب المصري، مثلا، بالبسملةِ الحكيمةِ عن عَزْمٍ مسبَّقٍ، والتي كانت تختتمه بقبسٍ من آيِ الذِّكْرِ الحكيمِ و/أو الحديث المستقيم عن تصميم حتى أكثرَ تسبيقًا، أيامَ الاستعمار الفرنسي وحملته الذميمة على مصر، تماما كما سبق ذكره في القسم الأول من هذا المقال كذلك – فلا فرقَ جوهريًّا، إذن، بين ما يتذرَّع به الناطق الرسمي الإسرائيلي من ألاعيبَ «تطبيعيةٍ» تجعلُ الاحتلالَ الصهيونيَّ محبَّبًا إلى قلوب الشعب الفلسطيني (والعربي)، من جانب أول، وبين ما تتسلَّحُ به الكاتبة الصحافية «القدساوية» من أكاذيبَ «تَتْبِيعيةٍ» تصيِّر الاحتلالَ العثماني مُوَدَّدًا في نفوس الشعب السوري (والعربي)، من جانب آخر!!..

والأنكى من كل هذا، أخيرا وليس آخرا، أن الكاتبة الصحافية «القدساوية» المعنيَّة، في تقريرها الإخباري الذي أُلْحِقَ صادرا بذاك تحت العنوان الطافح بالشعور الوطني (أو حتى القومي) الافتعالي رابعا، «إن لم تكن القدس بحاجة إلينا: فنحن بحاجة إلى القدس» /9 أيار (مايو) 2021/، أنها ما فتئتْ تتشدَّق بالتعظيم والتبجيل المفرطَيْن لمن يصنِّعون أشكالَ الخطابِ الإنشائي (الصرف) حول مَرْكَزَةِ «القضية الفلسطينية» مَرْكَزَةً، وهي مسوَّرَةٌ إذَّاك بهالاتِ بطولاتٍ منتَجَةٍ توصيفيا (أو حتى شعريا) من جوفِ رحمٍ ولَّادٍ دونما كفٍّ أو توقُّفٍ، وأنها ما برحتْ في ذاتِ الآن تتنطَّع بالتصغير والتحقير الأشدِّ إفراطا حتى لمن يخلِّقون أشتاتَ الخطاب الإنشائي المضادِّ (المحض) كذلك حول تهميش هكذا «قضيةٍ فلسطينيةٍ» تهميشا، وهي مُكَوَّرةٌ كذاك بـ«آلاتِ» عَمَالاتٍ مستترةٍ و/أو مُعْلَنَةٍ توليفيًّا (أو حتى أمريًّا) من عوفِ خَمَمٍ بَلَّادٍ دونما عفٍّ أو تأفُّفٍ، بدورهِ هو الآخر.. كما كتبت معلقة فطينة ذات يوم، كان هكذا كلام تعتيميٌّ وتَعْمَوِيٌّ سَيُصَدَّقُ كلَّ التصديق، بمعزلٍ عن أيما إنتاج توصيفيٍّ (شعريٍّ) أو أيما إعلان توليفيٍّ (أمريٍّ)، لو لم تكرِّسِ الكاتبةُ الصحافية «القدساوية» المعنيَّة جلَّ تقاريرها الإخبارية هذه من أجل التطبيل النفاقيِّ والتزمير الريائيِّ للنظام القائم في تركيا أردوغان ذاتًا، هذا النظام الفاشي الإجرامي الهمجي الذي كان، وما زال، يجسِّد في أجزاءٍ متفرِّقةٍ من عالمنا العربي الكئيب كلَّ تجسيداتِ الباطل «الظافر» بالعَيْن وكلَّ تجسيداتِ البهتان «المنتصر» بعَيْن العَيْن!!..

[ولهذا الكلام بقية فيما بعد]

———–

تعريف بالكاتبة 

ولدتُ في مدينة باجة بتونس من أب تونسي وأم دنماركية.. وحصلتُ على الليسانس والماجستير في علوم وآداب اللغة الفرنسية من جامعة قرطاج بتونس.. وحصلتُ بعدها على الدكتوراه في الدراسات الإعلامية من جامعة كوبنهاغن بالدنمارك.. وتتمحور أطروحة الدكتوراه التي قدمتُها حول موضوع «بلاغيات التعمية والتضليل في الصحافة الغربية» بشكل عام.. ومنذ ذلك الحين وأنا مهتمة أيضا بموضوع «بلاغيات التعمية والتضليل في الصحافة العربية» بشكل خاص

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. روعة وتألق وألمعية بكل معاني الكلمات من الأخت الجميلة آصال أبسال أدامها الله لنا في قول الكلمة الحرة
    عمق مدهش في تحليل حقيقة الصحافة المأجورة والإعلام الموجه وجمال آسر وخلاب في الأسلوب الأدبي الرفيع
    كل التحيات والمودات

  2. كلام موزون وتحليل عميق ومنور وثاقب من كل الزوايا المعرفية والسياسية الممكنة كما عودتنا الدكتورة الرائعة آصال أبسال والحق لا بد أن يقال
    كل الشكر والتقدير موصول إلى الأخت الكريمة آصال أبسال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى