شعر الشكوى للمتنبي في مصر
د. هالة فرحان | أكاديمية مصرية
الشكوى من الأغراض التي تحدث فيها المتنبي في مصر، فتحس أن الشاعر قد تحطم في نفسه شيء؛ ففي حزنه لا يصطنع سوى لغة الشكوى والأنين “أكان مصدر ذلك أن شيئًا قد انحطم في نفس المتنبي حقًا مع تقدم السن واختلاف الأحداث، ففارقه شبابه، وتفرقت عنه خصال القوة والجرأة والبأس، وبقي له عقله المفكر، وقلبه الحساس ونفسه الشاعرة؛ فهو يرى الألم ويحتمله، ولا يرى في نفسه القدرة علي دفعه؟ أم كان مصدر هذا أنه أسير في مصر قد ضربت حوله مراقبة شديدة وأرصدت له العيون والجواسيس؛ فهو مضطر إلي الحذر وهو مكره علي القصد والاعتدال ” وأن الأمرين كليهما حق فهو أسير سجين ترصده العيون؛ فعليه أن يتحفظ ويحتاط وفي الوقت نفسه نضج عقله المفكر فأدرك ضعفه وفتور نفسه الثائرة فليس له إلا طريق الشكوى .
شكوى الزمان :
فعندما وصل إليه أن قوما نعوه في مجلس سيف الدولة بحلب قال يشكي حاله:
بِمَ التَعَلُّلُ لا أَهلٌ وَلا وَطَنُ أُريدُ مِن زَمَني ذا أَن يُبَلِّغَني لا تَلقَ دَهرَكَ إِلّا غَيرَ مُكتَرِثٍ فَما يَدومُ سُرورُ ما سُرِرتَ بِهِ مِمّا أَضَرَّ بِأَهلِ العِشقِ أَنَّهُمُ |
وَلا نَديمٌ وَلا كَأسٌ وَلا سَكَنُ ما لَيسَ يَبلُغُهُ مِن نَفسِهِ الزَمَنُ مادامَ يَصحَبُ فيهِ روحَكَ البَدَنُ وَلا يَرُدُّ عَلَيكَ الفائِتَ الحَزَنُ هَوُوا وَما عَرَفوا الدُنيا وَما فَطِنوا |
يشكو الزمان ويقول بما أعلل نفسي وأنا بعيد عن أهلي ووطني وأصدقائي وسكني، ويطلب من الزمان استقامت الأحوال ولكن الزمان لا يبلغ هذا من نفسه لأن الزمان به الأضداد فالليل عكس النهار والزمان به شتاء وصيف وربيع وخريف فهو غير مستقيم فكيف يستقيم له من نفسه وأنك ما دمت حيا فلا تبالي بصروف الزمان ونوائبه؛ فإنها تزول ولا تبقي، والذي لا عوض منه هو الروح فقط ، فلا تبال بما يحدثه الزمان؛ لأن الشيء المفرح لا يديم الفرح ولا الحزن علي الغائب لا يرده عليك وأن ما أضر الذين يعشقون الدنيا أنهم ما عرفوا الدنيا بصروفها وأقدارها ،واستسلموا لأهوائهم .
الشكوى في القصائد التي مدح بها كافور:
ونجد ريح الشكوى في القصيدة التي مدح بها المتنبي كافور في عيد الفطر فيقول:
يا أَيُّها المَلِكُ الغاني بِتَسمِيَةٍ أَنتَ الحَبيبُ وَلَكِنّي أَعوذُ بِهِ |
في الشَرقِ وَالغَربِ عَن وَصفٍ وَتَلقيبِ مِن أَن أَكونَ مُحِبّاً غَيرَ مَحبوبِ |
وذلك قالها وأنه لم يمض على مكوثه في مصر أكثر من أربعة أشهر.
وفي عيد الأضحى أنشده قصيدة مطلعها ناطق بالشكوى والتحسر فيقول:
أَوَدُّ مِنَ الأَيّامِ مالا تَوَدُّهُ يُباعِدنَ حِبّاً يَجتَمِعنَ وَوَصلُهُ أَبى خُلُقُ الدُنيا حَبيباً تُديمُهُ |
وَأَشكو إِلَيها بَينَنا وَهيَ جُندُهُ فَكَيفَ بِحِبٍّ يَجتَمِعنَ وَصَدُّهُ فَما طَلَبي مِنها حَبيباً تَرُدُّهُ |
ففي هذا البيت يبث المتنبي أحزانه وشكواه وهمومه التي لا تنقضي؛ فينعي حظه ويتذكر آماله الضائعة فمن صفات الأيام أنها تفرق بين الأحباب، فهذه هي الدنيا لا تستطيع أن تلبس غير هذا اللباس؛ فقد بنيت علي التغيير والتنقل فالإنسان المعذب هو الذي تعظم آماله وتكبر أحلامه ولكن لا يستطيع الوصول إلي ما يريد لقصور طاقته فيقول:
وَأَتعَبُ خَلقِ اللَهِ مَن زادَ هَمُّهُ فَلا يَنحَلِل في المَجدِ مالُكَ كُلُّهُ وَدَبِّرهُ تَدبيرَ الَّذي المَجدُ كَفُّهُ فَلا مَجدَ في الدُنيا لِمَن قَلَّ مالُهُ |
وَقَصَّرَ عَمّا تَشتَهي النَفسُ وُجدُهُ فَيَنحَلَّ مَجدٌ كانَ بِالمالِ عَقدُهُ إِذا حارَبَ الأَعداءَ وَالمالُ زَندُهُ وَلا مالَ في الدُنيا لِمَن قَلَّ مَجدُهُ |
في هذه الأبيات إبانه عما يختلج في نفس الشاعر من الأسى، وأنه قد طمح إلي المجد وقصر عنه ماله وقد طوف في الآفاق يبتغي ما يبنى به مجده فلم يظفر بشيء، فالمال عنده هو الوسيلة الأولى لبلوغ المجد وهما توأمان؛ المجد قريب من المال والقوة التي كان يعيشها المتنبي قرينة بالمال.
وقال أيضا في مصر ولم ينشدها الأسود ولم يذكره فيها:
صَحِبَ الناسُ قَبلَنا ذا الزَمانا وَتَوَلَّوا بِغُصَّةٍ كُلُّهُم مِن رُبَّما تُحسِنُ الصَنيعَ لَيالي وَكَأَنّا لَم يَرضَ فينا بِرَيبِ ال |
وَعَناهُم مِن شَأنِهِ ما عَنانا هُ وَإِن سَرَّ بَعضُهُم أَحيانا هِ وَلَكِن تُكَدِّرُ الإِحسانا دَهرِ حَتّى أَعانَهُ مَن أَعانا |
وهذه القصيدة ” يتبين فيها تفكيره في الناس والدنيا ، ويقول فيها مصائب الزمان كثيرة، ولكن الناس لا يكتفون بها فيخلقون لأنفسهم مصائب بالقتال والنزال وإن مطلب النفوس أصغر من أن يتقاتل الناس عليها ” فبعد أن فشل في أن يحقق أي شيء في مصر يرفع به رأسه أمام حساده وأعدائه فإنه يجد في شعره لذعة حزن عميق فالتشاؤم واضح في القصيدة والمرارة غير خافية، وهذا كله مغلف بحكمة بالغة فهو لم يعرف الحياة الهادئة التي تملؤها الهموم سوى في مصر، فعندما كان في مصر أتيحت له الحياة الهادئة الساكنة؛ فلم يدبر له أحد مكيدة ولا حسد ولم يضيق عليه في حياته المادية وإنما وضع على نار هادئة مع الوعد والإخلاف به هذا ما جعل نفسه تنضج ببطيء فتعلم في مصر كيف يطيل التفكير دون أن تشغله الثورة عن التعمق والاستقصاء .