موريسكيّ الأندلس والتمسك بالهوية
د. آية محمد الجندي | باحثة وأكاديمية في التاريخ
شهدت شبه الجزيرة الأيبيرية تطور خطير عقب تسليم مدينة غرناطة Granada للملكين القشتاليين فرناندو Ferrando II d’Aragón وإيزابيلا Isabel I في سنة 897ه /1492م، فما كاد النصارى يدخلون المدينة حتى نقضوا معاهدة التسليم، التي تقضي بأن يحتفظ المسلمون في غرناطة بكامل حقوقهم، فانتهج النصارى منهجاً معادياً للإسلام والمسلمين، ما أدى إلى تعرض الموريسكيون للاضطهاد والتعذيب والتنصير القسري، فحروب الاسترداد لم تكن حرباً للاستيلاء على الأراضي الخاضعة لحكم المسلمين فقط، وإنما حرباً على الدين والعقيدة، وعلى اللغة العربية، وكذلك على المظهر العربي المتمثل في طريقة اللبس والكلام والطقوس، فمن وجهة نظر ملوك أسبانيا والكنيسة هي أمور يجب تطهير المجتمع الإسباني منها، فظهر ما يُعرف بمحاكم التفتيش أو ” ديوان التحقيق- محاكم التحقيق ” La inquisición لتطبيق سياسة السلطة والكنيسة ضد المسلمين، ولتتبعهم ومطاردتهم، تلك المحاكم التي تعتبر وصمة عار في جبين ملوك أسبانيا والتي قامت بما يشبه التطهير العرقي للمسلمين، فمن قُبض عليه بتهمة إضمار الدين الإسلامي، أو بتهمة الصوم، أو الصلاة، تلقى كل أنواع التعذيب وأشدها وانتهى به الحال إلى الحرق حياً.
لقد أصبح الوضع كارثياً بالنسبة للموريسكيين في الأندلس آنذاك، ولكن كيف تعاملوا مع كل هذا العنف؟!
أمام تردي الأوضاع في الأندلس وانحدارها من سيء إلى أسوء، حاول هؤلاء التمسك بهويتهم الضائعة، فتحول موريسكيّ الأندلس لممارسة شعائرهم الدينية والمحافظة على هويتهم العربية في الخفاء، بعيداً عن أعين “محاكم التحقيق”، وأعلنوا النصرانية وتشبهوا بالأسبان، على أن ذلك لم يكن كافياً، فمع التصدي لكل ما هو عربي، ومع الاضطهاد والتنصير القسري والتضييق عليهم، كل ذلك أدى بهم إلى اختراع لغة الألخميادو: وهي كلمات إسبانية كُتبت بأحرف عربية، فكان ظهورها ظهوراً حتمياً أتى كنتيجة طبيعية لحياة صعبة ومزدوجة، ظاهرها التنصر والاندماج بين طبقات مجتمع غريب، وباطنها الإسلام ومحاولة التمسك بدين أصبح غريباً في أرض كانت ملكه من قبل، وتراث وحضارة أصبح تداولها نوع من أنواع الإجرام، ولغة عربية أصبح استخدامها محظور بعد حرق محاكم التحقيق لكل الكتب المخطوطة باللغة العربية، وأصبح التعامل باللغة العربية أو اقتناء كتاب باللغة العربية جريمة يستحق فاعلها العقاب عليها، وربما اقتيد إلى المحرقة بسببها، ذلك لأنها دليل على إضمار الديانة الإسلامية، وبسبب تلك الجريمة الهمجية خسرت الإنسانية الآلاف والألاف من الكتب العربية التي تُمثل خلاصة الفكر الإسلامي في الأندلس في مختلف المجالات، حيث تم جمع كل المؤلفات العربية من أهالي غرناطة وأرباضها، وتم حرقها جميعاً، ولم يستثني من تلك الجريمة سوى ثلاثمائة كتاب فقط في الطب وبعض العلوم كالفلسفة والتاريخ، وكانت أيضاً تُقدم لفحصها لضمان عدم إخفاء نصوص محظورة داخلها.
لم تكن تلك الحياة سهلة ولم تكن ممارسة الموريسكيين للشعائر الإسلامية بالأمر اليسير، ونلتمس ما كان يعانيه هؤلاء من خلال إحدى الرسائل الموجهة من أحد فقهاء المغرب إلى الموريسكيين، ويعود تاريخ تلك الرسالة إلى غرة رجب 910ه/ 28 نوفمبر 1504م، فنجد الفقيه خلال هذه الرسالة يُسقط الشكل المتعارف لكل الفرائض، فجعل النية والإنكار بالقلب أهم من أداء الفريضة جهراً، وجعل النية بحرمانية شرب الخمر حتى ولو أُجبر على شربها، فلتكن نيته حرمانيتها، وكذلك حرمانية أكل لحم الخنزير حتى ولو أُجبر على أكلها، وذلك حفاظاً على الأرواح، ويبدو من نهاية الرسالة أن ما أجازه الفقيه لهم ما هو إلا أسئلة بعثوا بها إليه، حيث يذكر في نهاية الرسالة “وما يعسر عليكم فابعثوا فيه إلينا نرشدكم إن شاء الله على حسب ما تكتبون”، وهو ما يدل على إصرارهم وتمسكهم بدينهم ومعرفة حكم الشريعة في إجبارهم على إعتناق دين مخالف لديانتهم، وأكل وشرب ما حرم الله.
لقد حفظ الموريسكيون لنا معاناتهم وحياتهم السرية من خلال المؤلفات المكتوبة باللغة الألخميادو التي عُثر عليها بعدة عدة قرون مُخبأة في أسقف وجدران المنازل، وقداشتملت على عدة مواضيع، منها: ما هو ديني وتشريعي، ومنها الخرافي والأدبي والشعري، لتتحول لغة الخميادو من كونها وسيلة اتصال سرية بين أقلية مضطهدة، إلى وسيلة للحفاظ على التراث الفكري والثقافي، ونقله للأبناء والأحفاد ممن لم يشهدوا عظمة أجدادهم وحضارتهم الإسلامية في بلاد الأندلس، وقد نجحوا إلى حدٍ كبير في ذلك، لكن لغة الخميادو لم تساعدهم فقط على التواصل فيما بينهم وحماية رسائلهم ومؤلفاتهم من الوقوع بأيدي محاكم التفتيش، وإنما حفظت لنا شكل المجتمع الموريسكيّ آنذاك، لنتعرف على حياتهم ومعاناتهم السرية.
لكن هل كان الموريسكيون يهدفون من اختراعهم للغة الألخميادو نقل معاناتهم لنا؟ .. بالطبع لا، فلم نكن نحن الهدف؛ وإنما أبنائهم، فهذا القمع بالطبع سيؤدي بالفرد الموريسكي إلى التفكير بمصير أبنائه وعلاقتهم بهويتهم المحظورة، وخاصة مع انقطاع مصادرهم للمعرفة العلمية والفكرية والثقافية، ومع حرق المؤلفات العربية، وأيضاً مع ضآلة معارفهم مقارنة بميراثهم الثقافي والفكري الكبير، لذا فكان حرياً بمن يمتلك معرفة ولو ضئيلة أن ينقلها للأجيال التالية ممن لم يعرف قط حقيقة هويته، وهناك عدة روايات تشير إلى اهتمام الموريسكيين بتعريف أبنائهم على هويتهم الدينية والثقافية وتلقينهم أن النصارى أعدائهم، وعلى الأغلب أن هذا كان يحدث إذا بلغ الأطفال فقط، فهو من الأحرص أن يتم إبلاغ الأبناء بحقيقة دينهم إذا بلغوا وليس قبل ذلك، اتقاءاً لسطوة محاكم التحقيق وتعقبهم، وإلا فإنهم مُعرضون للكشف من قِبل تلك المحاكم والمعاقبة إذا ما تركوا سراً كهذا بين يدي طفل.
أخذ المسلمون في فقد حقوقهم الواحد تلو الأخر، وتناسى ملوك أسبانيا أن المسلمين والمسيحيين بل واليهود أيضاً تعايشوا لقرون على هذه الأرض دون انتقاص حق من حقوق أي فرد منهم، ولم يعد هناك أي ملمح لروح التسامح بين المسلمين والمسيحيين، فاستبدلت محاكم التحقيق التسامح بالعنف والكراهية، وأصبح حتى المتنصرين موضع شك وريبة طوال الوقت، ففي وضع كهذا كان لابد من ظهور مُتنفس لهم، فكان التمسك بهويتهم وسط أضيق الظروف، بالإضافة إلى لغة الخميادو التي حافظت على رسائلهم ومؤلفاتهم، وحملت لنا أسرارهم، فالدين والأفكار لا يُعتنقون قسراً وإنما عن اقتناع تام.