لم يفخر المتنبي في مصر سوى بنفسه

د. هالة فرحان | ناقدة وأكاديمية مصرية

الفخر هو محور شعر المتنبي وغرضه الأسمى الذي كان يعتمده في كل قصائده تقريبا، لم يفخر المتنبي في قصائده بالصفات العربية سوى بنفسه  فهو لم يسر في فخره علي العصبية القبلية والمفاخرة بالأنساب والأصول ، ولكنه يفخر بالشمائل والشجاعة في نفسه ولم يفتخر بآبائه ولا بأجداده ولا قبيلته ولم يفرد للفخر قصائد كاملة بل أنه كان يضعه في أغراض أخرى كالمديح أو الهجاء “وأما مدحه،فما هو إلا فخر بكاف الخطاب لأنه يثني علي ممدوحه بما يريده لنفسه،ويحسه من صفاته،وربما نفس علي الأمراء مدحه الخالص،فيشركهم فيه  ويعطي نفسه قسطًا منه لا يقل عن قسط ممدوحه، وأما هجاؤه فهو فخر مقلوب، إذ كان يهجو أعداءه بضد ما يفخر به،أو يمدح به أولياءه ، فيصح أن يقال إن شعر المتنبي كله باب واحد هو باب الفخر “. ويفخر بعزة نفسه وبخبرته بالحياة والتمرس بالتجارب وذكائه وحنكته في أول قصيدة قالها في مدح كافور يقول:

وَإِنّي لَنَجمٌ تَهتَدي بِيَ صُحبَتي
غَنِيٌّ عَنِ الأَوطانِ لا يَستَفِزُّني
وَعَن ذَمَلانِ العيسِ إِن سامَحَت بِهِ
وَأَصدى فَلا أُبدي إِلى الماءِ حاجَةً
وَلِلسِرِّ مِنّي مَوضِعٌ لا يَنالُهُ
 

إِذا حالَ مِن دونِ النُجومِ سَحابُ
إِلى بَلَدٍ سافَرتُ عَنهُ إِيابُ
وَإِلّا فَفي أَكوارِهِنَّ عُقابُ
وَلِلشَمسِ فَوقَ اليَعمُلاتِ لُعابُ
نَديمٌ وَلا يُفضي إِلَيهِ شَرابُ

 

وكعادته لا يفخر سوى بنفسه ويشبه نفسه بالنجم الذي يُهتدي به في الفلوات فأصحابه يهتدون برأيه ودلالته فإذا ما نالهم شيء رجعوا إلي رأيه ، وإذا كانت السماء بلا نجوم اهتدوا به لمعرفته بالصحراء ، وهو لا يعشق الأوطان ؛ فكل البلاد عنده سواء إذا سافر إلي أي منها وهو غني أيضا عن الإبل فمن الممكن أن يقطع الصحراء من دون أن يحتاج إلي ما يحمله وأنه إنسان صبور فهو يتحمل العطش في الصحراء إذا ما اشتد وقع الشمس فوقه ومازال يفخر بنفسه بأنه حافظ للسر فلا يطلع ما في قلبه إلي أصدقائه وأن الرجل إذا سكر أذاع ما في قلبه بينما هو حتى إذا شرب لا يطلع ما في قلبه . ويفخر أيضا بصدقه وحلمه في قصيدة مدح بها كافور فيقول:

وَمِن هَوى الصِدقِ في قَولي وَعادَتِهِ
لَيتَ الحَوادِثَ باعَتني الَّذي أَخَذَت
فَما الحَداثَةُ مِن حِلمٍ بِمانِعَةٍ
 

رَغِبتُ عَن شَعَرٍ في الرَأسِ مَكذوبِ
مِنّي بِحِلمي الَّذي أَعطَت وَتَجريبي
قَد يوجَدُ الحِلمُ في الشُبّانِ وَالشيبِ

 

وأن أكثر صفة ركز عليها المتنبي في فخره بنفسه الشجاعة والقدرة علي مواجهة الأعداء؛ يقول في قصيدة يهجو بها كافور قالها عندما خرج من مصر، ودخل الكوفة:

وَبِتنا نُقَبِّلُ أَسيافَنا
لِتَعلَمَ مِصرُ وَمَن بِالعِراقِ
وَأَنّي وَفَيتُ وَأَنّي أَبَيتُ
وَما كُلُّ مَن قالَ قَولاً وَفى
وَلا بُدَّ لِلقَلبِ مِن آلَةٍ
 

وَنَمسَحُها مِن دِماءِ العِدا
وَمَن بِالعَواصِمِ أَنّي الفَتى
وَأَنّي عَتَوتُ عَلى مَن عَتا
وَلا كُلُّ مَن سيمَ خَسفاً أَبى
وَرَأيٍ يُصَدِّعُ صُمَّ الصَفا

 

وفي هذه الأبيات يفخر بشجاعته، وانتصاره علي العدو فعندما وصل إلي وطنه قبل سيفه ومسح عنه دماء الأعداء الذي قتلهم به حتى ليعلم أهل مصر والعراق وأهل العواصم، ويقصد به سيف الدولة أنه ذلك الفتى الشجاع الكامل الصفات ،وأنه وفى بما وعد من ترك أرض مصر فليس كل من قال قول صدق في فعله بينما هو فعندما قال صدق في قوله ، وأن جرأة القلب وحدها لا تكفي لكي تكون شجاعًا فلابد معها من رأي صائب وإلا أهلكته شجاعته .

يفخر بتطلعه إلى المعالي

كان المتنبي رجلًا طموحًا يسمو دائمًا إلي المعالي حيث إنه عندما أتي إلي مصر ومدح كافور كان لا يريد المال بينما كان يطمح إلي أن يوليه علي صيدا وهي أحد الولايات التي كانت تابعة إلي كافور كما ذكرنا سابقا، وهو يفخر بطموحه هذا وتطلعه إلي المعالي فيقول:

وَأَتعَبُ خَلقِ اللَهِ مَن زادَ هَمُّهُ
فَلا ينحل في المَجدِ مالُكَ كُلُّهُ
وَدَبِّرهُ تَدبيرَ الَّذي المَجدُ كَفُّهُ
فَلا مَجدَ في الدُنيا لِمَن قَلَّ مالُهُ
وَفي الناسِ مَن يَرضى بِمَيسورِ عَيشِهِ
وَلَكِنَّ قَلباً بَينَ جَنبَيَّ مالَهُ
يَرى جِسمَهُ يُكسى شُفوفاً تَرُبُّهُ
وَأَمضى سِلاحٍ قَلَّدَ المَرءُ نَفسَهُ
 

وَقَصَّرَ عَمّا تَشتَهي النَفسُ وُجدُهُ
فَيَنحَلَّ مَجدٌ كانَ بِالمالِ عَقدُهُ
إِذا حارَبَ الأَعداءَ وَالمالُ زَندُهُ
وَلا مالَ في الدُنيا لِمَن قَلَّ مَجدُهُ
وَمَركوبُهُ رِجلاهُ وَالثَوبُ جِلدُهُ
مَدىً يَنتَهي بي في مُرادٍ أَحُدُّه
فَيَختارُ أَن يُكسى دُروعاً تَهُدُّهُ
رَجاءُ أَبي المِسكِ الكَريمِ وَقَصدُهُ

 

وفي هذه الأبيات يتحدث عن نفسه كأنه هو أتعب خلق الله لزيادة همته فلا تنفق مالك كله في سبيل  طلب المجد فلا يوجد مجد بدون المال ؛ فهناك مجد لا ينعقد إلا بالمال فإذا ذهب مالك ذهب معه ذلك المجد الذي لا ينعقد إلا بوجود المال فدبر مالك كما تدبر محاربك فجعل المجد مثل الكف والزند مثل المال فلا يوجد مجد في الدنيا لمن قل ماله ولا مال في الدنيا لمن قل مجده كأنه ربط المجد والمال بعضهم لبعض فكأن الأول لا يتحقق إلا بوجود الثاني، وأنه من الناس من هو قليل الهمة يرضي بميسور عيشه وليس عنده الهمة أن يطلب المجد لكن المتنبي عكس ذلك فهو عالي الهمة وهو دائما يتطلع إلي الأعلى ؛ فعندما جاء مصر لم يطلب المال كما فعل غيره من الشعراء لكنه طلب ولاية صيدا وله قلب ليس له غاية ينتهي إليها ولا يجعل حد لمطلبه ودائما يريد المزيد .

كان المتنبي كثير الفخر بشعره عند سيف الدولة  حتى أنك لتجده صفة غالبة علي شعره  وأنه كان يعتبرها بمثابة الرد عليه ولكن عندما أتي إلي مصر وجاء إلي كافور لم يفتخر بذلك البته فأنك لا تجده يذكر شعره بلفظه لا للافتخار به إلا في موضعين مرة في مدحه لكافور ومرة عند هجاءه ، ويرجح أن ذلك يرجع إلي أن المتنبي كان يعلم أن كافور يعرف مكانة شعره ؛ فلا يحتاج أن يتباهى به أمامه وألا فلما أرسل إليه كافور في بداية الأمر عندما علم أنه ترك سيف الدولة ورفض المتنبي أن يذهب إليه ؛لأنه كان يراه عبدا دميمًا لا يستحق المديح؛ يقول في مديحه إياه ويذكر شعره :

وَبي ما يَذودُ الشِعرَ عَنّي أَقُلُّهُ
وَأَخلاقُ كافورٍ إِذا شِئتُ مَدحَهُ
وَلَكِنَّ قَلبي يا اِبنَةَ القَومِ قُلَّبُ
وَإِن لَم أَشَء تُملي عَلَيَّ وَأَكتُبُ
 

ويقول في هجائه:

وَشِعرٍ مَدَحتُ بِهِ الكَركَدَنَّ
فَما كانَ ذَلِكَ مَدحاً لَهُ

بَينَ القَريضِ وَبَينَ الرُقى
وَلَكِنَّهُ كانَ هَجوَ الوَرى

 لم يفتخر المتنبي بشعره عند كافور علي عكس ما فعل عند سيف الدولة لأن فخره بشعره هناك كان بمثابة رد علي سيف الدولة ولكن عندما جاء إلي مصر لم يجد ذلك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى