أحاديث على أرصفة وجع الشيخ جراح والقدس
يونس العموري | فلسطين
حيث أن القدس قد أضحت مستباحة بالشكل العلني ومخططات حكومة تل أبيب صارت الواقعية الواقعة وأورشليم عاصمة دولة إسرائيل، والبيت العتيق مقسوم مقسم والزمان زمانهم والمكان قد يصبح قبلة صلواتهم، والجراح الشيخ اصبح بؤرة من بؤر الاستهداف لتنفيذ المشروع الكبير بالاستيطان بقلب المدينة، والاستباحة هنا لها علاقة بالحيثيات اليومية التراكمية للفعل الاحتلالي بكافة أنحاء المدينة ومطاردة كل ما من شأنه مقدسي أو يمت بصلة لعروبة وفلسطينية القدس ببشرها وحجرها والموت يتربص بأزقتها والموت هنا هو موت الإحساس بنبضها وبمعاناتها وبمحاولة الاستشعار بواقعها الراهن…
القدس لا شك أنها تعيش واحدة من أحلك ظروفها حيث اشتداد الغزوة الاستعمارية على مختلف المستويات والصعد، والتساؤل المقدسي يكبر ويتأرجح معلقا على أعتاب الوهم ما بين الحقيقة والسراب، والاستفسار يصبح بلا معنى في ظل اللا إجابة، حيث الإهمال المتعمد والمباشر بمدينة الله على الأرض.
والشعار مجوف من معناه والقدس تراجعت من الاهتمام في أجندة أرباب المقامات العليا بعاصمة السراب، والفرح يغادرها والحزن يسكن أزقتها، ومواطنوها يجوبون بثنايا مكاتب أصحاب الياقطات لأصحاب المعالي والعطوفة، باحثين عن فتات الموائد العامرة بالكلام الفاقد للمعنى والدلالة، ورجالات القدس يتراكضون بكافة الاتجاهات ويطلقون استغاثة اللحظات الأخيرة واللطيمات الكربلائية تغزو أرض الحزانى، وقادة المدينة حائرون عاجزون مطاردون، مكفوفة أياديهم ويظل العجز هو الشعار الأبرز للمرحلة الراهنة في ظل لحظة الاستغاثة والهدم والقتل والتسريب والتخريب ، وصراع امراء المدينة محتدم والذباب الإلكتروني وانشطته بكافة الاتجاهات من يحدد مصير الزعامات اللحظية .
ويظل الشعار النظري بأن القدس عاصمة الدولة العتيدة، والقدس غائبة عن القرار، ذاك القرار بكل ما يتصل بحيثيات البيت العتيق وسيدة المدائن، والفشل بات العنوان الأبرز المخطوطة عنوانه على أسوارها الرابضة على أطراف المدينة، فشل في منظومة المفاهيم وفشل في منظومة القرارات الصادرة عن الباب العالي وفشل في التمكين لمرابطة فقراء الأزقة والحواري للعيش والحد الأدنى الممكن. والهياكل الخاوية المسماة بالأطر الوطنية والاجتماعية والمؤسساتية أعلنت عن إفلاسها وغادرت أمكنتها.
وجماهير الفعل باتت الكافرة بالدعوة للفعل وللعمل، والمواجهة أضحت أنتحارا منظما وجريمة مشككا بجدواها وإمكانياتها ، والبسطاء يعلنون عن عجزهم والبكاء نواحا سمتهم الأساسية المرتسمة ملامحه على محياهم.
حيث ذلك وفي ظل خربشة الموازين ومعايير الحق والباطل واختلاط الحقائق بعضها ببعض، تطل علينا الشعارات الكبرى التي لا يمكن فهمها واستيعاب حيثياتها ومفاهيمها بالظرف الراهن، حيث انقلاب هذه المفاهيم وتفريغها من محتوياتها، تلك الشعارات التي شكلت نبراس الفعل الجماهيري والوطني بتلك المراحل الصادقة مع الذات والمنسجمة والتوجهات التطلعية للجماهير التواقة للحرية والاستقلال، والحق بتقرير المصير، وإقامة الدولة ذات السيادة وممارسة الذات الفلسطينية في ظلها وكنفها، كل هذا كان في الخلفية البرامجية لجماهير الشعب الفلسطيني الذي تشكل وعيه على هذه الشعارات المنسوجة والقناعات التاريخية بالحق والحقوق وانتزاع هذه الحقوق من خلال الحراك النضالي الكفاحي بكافة أشكاله وأساليبه ووسائله.
وكانت أن انطلقت التحركات الشعبية وتمت برمجتها وصقلها في الإطار التحرري من خلال الفعل الكفاحي للتنظيمات الفلسطينية التي وابتدعت أساليب العمل في سبيل تحقيق غايات وآمال الفلسطينيين في مختلف أماكن تواجدهم، وبالتالي كان أن تشكل الإطار الفلسطيني الجامع الذي من شأنه احتضان الكل الوطني على أسس تلك الشعارات والمفاهيم لتحقيق الأهداف الاجتماعية لجموع الشعب المُشتت والمُشرد في شتى أنحاء المعمورة.
وبالتالي كان لصياغة مفهوم الدولة وممارسة السيادة على أرضها الركيزة الأساسية في الوعي الفلسطيني، تلك الدولة التي تعني باختصار اندحار الاحتلال عن الأراضي الفلسطينية بصرف النظر عن شكل وطبيعة تلك الدولة وصراع المفاهيم حول مدركاتها وشكلها ودستورها وطبيعة حكمها وقوانينها الاجتماعية.
وشكلت القدس على الدوام القلب النابض لتلك الدولة (الحلم) فما كان بالإمكان القول إقامة الدولة الفلسطينية فقط لا غير فلا بدّ من أن تتبع هذه العبارة مقولة و(عاصمتها القدس) وبالتالي تصبح الديباجة الطبيعية للمفهوم -الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس- ليستوي المعنى، وان أي كيان فلسطيني من الممكن أن ينشأ لابد أن تشكل القدس أساسه وبالتالي لا معنى لهذا الكيان ولا يمكن استيعابه دون القدس المحررة، إلا أن هذا الشعار قد أصبح فارغا ومجوفا وغير متصل بحقيقة الأمر في ظل الوقائع الفلسطينية الراهنة حيث أن الأراضي الفلسطينية المحتلة -الضفة الغربية وقطاع غزة- والتي تشكل في ثناياها كيانا فلسطينيا -السلطة الوطنية الفلسطينية- بغض النظر عن مدى واقعيتها وتجسيد حقيقتها على الأرض إلا أن الأمر المعلوم والمعروف أن ثمة كيانا فلسطينيا يُعرف باسم السلطة يمارس فعله على الأرض بشكل أو بآخر، وله استحقاقات معينة على الصعيد الدولي والعربي وهذا الكيان يسعى لتطوير ذاته من خلال ما يسمى بفعل البناء للمؤسسات على طريق إعلان الدولة المسماة فلسطين، ودولة فلسطين العتيدة يُصار العمل على ترسيخ وقائعها من خلال الفعل المؤسساتي وبناءها في ظل الهجمات المسعورة على القدس وفي ظل قضم القدس وإعلاء البنيان الاستيطاني التي انتهت خواتمه واكتملت مداميكه وتغيرت معه معالم القدس وصار الهجوم على القدس بوضح النهار أمرا طبيعيا وقد يكون روتينيا أمام بناة الدولة وضياع مساحات القدس وتحديث قوانين الاحتلال بما يخدم توجهات مخططاته صار الخبر الذي من الممكن أن يحتل المساحة الثانية وقد تكون الثالثة في أولويات الأخبار المنشورة عربياً وإسلامياً وان نشر كخبر رئيسي فسيأتي النشر في إطار الصراع الإعلامي المحموم ما بين أقطاب اللعبة الإعلامية وحرفيتها في القدس والتعاطي مع الصناعة الإعلامية لصناعة النجوم إذا ما جاز التعبير.
في ظل واقع القدس الراهن التي صار النضال في سبيلها إعلاميا بامتياز ومن خلال الندوات والمؤتمرات وصياغة أعتى أشكال الصراخ الكلامي ورفع الشعارات والتي كما أسلفنا أصبحت فارغة المضامين ومجوفة المعاني نلحظ أن ثمة خطى متسارعة جدا من قبل سلطات الاحتلال لحسم ما يسمى بيهودية القدس وتجسيدها كعاصمة أبدية وفعلية لكيان الاحتلال. وفي هذا السياق تأتي كافة المخططات على مختلف أشكالها وتنوع آلياتها التنفيذية وعلى مختلف الجبهات الاقتصادية والاجتماعية والمواطنة والسكان واللعب على سياسة الأقلية والأكثرية والتأثير بالديموغرافية المقدسية والتلاعب بأسس الجيوغرافية السياسية وابتلاع الأراضي لصالح التمدد والتغول الاستيطاني وابتداع وسائل الحرمان الجديدة من الإقامة في كنف القدس من خلال خلق قوانين الولاء والانتماء للدولة العبرية…
والكثير مما نسمع ونشاهد، وبناة الدولة الفلسطينية يصرخون كل لحظة بضرورة إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، ولا أدري عن أي قدس يدور الحديث الآن … فالقدس لم تعد عاصمة للدولة الفلسطينية العتيدة وفقا للمخططات الإسرائيلية الراهنة وهي تتجه بخطى حثيثة لتصبح وبلا منازع (أورشليم عاصمة الدولة الإسرائيلية اليهودية) والوقائع على الأرض تشير بهذا الاتجاه وبوصلة الحقائق المقدسية اليوم تؤشر بذلك… ومعركة الأقصى بتصوري هي المعركة الأخيرة لتحقيق المُراد الأخير لحكام تل أبيب.
وصراخ الشعارات يملأ الدنيا ضجيجا والضجيج هذا ليس له علاقة بترسيخ وتعميق المفهوم الشعاراتي الوطني… والكل يلاحظ حجم العمل في أراضي السلطة الفلسطينية لتعزيز مفهوم الدولة، وحيث ذلك اعتقد أن المفهوم هنا لا بدّ من إعادة النظر فيه من خلال قلب المفهوم في ظل انقلاب المعايير والتمرد على لغة الشعارات الفاقدة للمضامين الفعلية وحتى تستوي الأمور في نصابها الصحيح لابد من ثورة على كل ما يطرح الآن وبالظرف الحالي من قبل دعاة الضجيج، والثورة هذه لا بدّ أن ترسم لذاتها مفاهيم جديدة وشعارات تحقق غاياتها والغاية هنا هي القدس أولا وثانيا وعاشرا، وحتى نكون الصادقين مع الذات ومع المقدسيين ومع جموع الشعب كل الشعب فدولة القدس هي التي لا بدّ من التأسيس لها، وفعل التأسيس يتطلب مواجهة مع كل ما من شأنه أن يغير ويشوه القدس ويحيلها بالتالي إلى (أورشليم) وهذا يعني إعلان دولة القدس أولا، والعمل على إعلان دولة القدس بمعنى أن الفعل الوطني وكافة الجهود الشعبية والجماهيرية لا بدّ أن تصب في القدس، وأن تنطلق من القدس وأن يتم تعزيز صمود القدس وبناء مؤسسات القدس وترسيخ الوجود العربي الفلسطيني في القدس وضخ كل الأموال والميزانيات للقدس، ولا بدّ أن يكون محور العمل الفلسطيني وبكافة المناحي والاتجاهات أساسه القدس أولا، وهذا يعني أيضا أن البناء يجب أن يكون باتجاه القدس، وبناء مؤسسات الدولة في القدس، وفرض سياسة الأمر الواقع الفلسطيني في القدس، وأن هددوا بتفعيل ما يسمى بقانون الغائبين، فيجب أن نفعل وقائعنا بالنظر نحو القدس ككل لا الشرقية منها فقط، وأن قالوا إن قوانينهم تقول ما تقول فلابد من إصدار وتفعيل قوانيننا نحن أيضا، واستصدار هذه القوانين لابد من أن تجد لذاتها طريقا سليما وصحيحا فقانون العاصمة، وأحياء أمانة القدس الكبرى، والدعوة للعصيان، وعدم الرضوخ للقوانين، وليكن بكل حي مخيم للاعتصام ولتكن المواجهات الكبرى مع أدوات الاحتلال التنفيذية، سيدة الموقف ولتعد المؤسسات الفلسطينية إلى أماكنها في القدس، ولترتفع يافطات المؤسسات في القدس، ولنعيد افتتاح بيت الشرق من جديد، وليكن لنا بيوت شرقية وغربية وبأسماء متعددة الاتجاهات والمعاني… فليكن الشعار الأبرز يا سادة بناة مؤسسات الدولة ومخططاتها وخططها دولة القدس أولا..
ولعل الواقع الفلسطيني الراهن حيث الإدانات وبيانات الشجب والاستنكار الممهورة بتوقيع من الحكومة الفلسطينية والصراخ من على المنابر الإعلامية للناطقين المتمنطقين باسم الشعب الفلسطيني الشقيق المتضامن لفظيا مع شعب القدس الشقيق إنما ليؤكد حقيقة أن ما يجري في القدس وكأننا دولة أخرى .. رام الله تحتفي بأيامها كما هي دبي وعمان والقاهرة، والاستهجان والتأثر يبدو على الوجه صباحا وهم يرقبون اقتحامات الأقصى.