قراءة في كتاب د. المتوكل طه: “أيّام خارج الزّمن، نصف قرن من الدّم والحبر”

د. دورين نصر| ناقدة وكاتبة
“أيّام خارج الزّمن، نصف قرن من الدّم والحبر”، عنوان يحيلني إلى بيت شعر عند الياس أبي شبكة: اجرح القلب واسقِ شعرك منه​​فدم القلب خمرة الأقلام​
إنّ هذا العنوان غير المألوف “أيّام خارج الزّمن” شكّل حافزًا للغوص في أعماق هذا الكتاب، بغية اكتشاف أبرز المحطّات في حياة الشّاعر، والتي كانت رافدًا لإبداعه.
والواقع، إنّ “فنّ السّيرة” في إطار التعريف الأدبي هو نوع من الأدب يجمع بين التحرّي التاريخي والاتّباع القصصيّ، ويُراد به درس حياة فرد من الأفراد ورسم صورة دقيقة لشخصيّته. ويرى حاتم الصّكر أنّها “تقديم رواية الحياة منظومة شعرًا، بناءً على تشغيل الذاكرة بأقصى طاقاتها”.

وربّما كان أكثر التعريفات وضوحًا ودقّة لفنّ السيرة الذاتيّة هو تعريف (Philippe le jeune) في كتابه الميثاق الأوطوبيوغرافي إذ يقول: هي حكي استعاديّ نثري يقوم به شخص واقعيّ عن وجوده الخاصّ، وذلك عندما يركّز على حياته الفرديّة أو على تاريخ شخصيّته بصفة خاصّة.
أمّا أنا فأقول، واستنادًا إلى ما قرأت، إنّ سيرة المتوكّل الذاتيّة هي هروب من الزّمن وإقامة في الذاكرة بغية معرفة الذات بصورة أفضل. والواقع، إنّ في داخل المتوكّل، رغبة في الكتابة، وهذه الرغبة هي رغبة ذاتيّة من جهة ،نابعة من صراع الذات مع وجودها الخارجي، وخارجيّة من جهة أخرى أتت استجابة لدواعٍ وأعراف فنيّة وثقافيّة تقتضي الحضور الإبداعي لدى المتلقّي. وتجدر الإشارة بأنّ المتكلّم عند الشّاعر هو الذات التي صنعها لتعبّر عن تجارب حياتيّة تحكيها الكلمات ،ما يدفعنا إلى التساؤل: ما هي هويّة هذه الأنا؟ أهي النفس التوّاقة إلى الماضي والطفولة المفعمة بالذكريات التي تحنّ إلى حضن الأمّ والعائلة والطبيعة؟ أم هي العودة إلى الذات في بداءتها قبل أن تندمج بأنا الجماعة؟
المتوكّل في كتابه يأخذنا برحلة في زمن كان ملاذًا بالنسبة إليه على الرغم من الوجع الذي كان يعتريه في محطّات كثيرة من حياته. لكنّ الثابت عنده وعلى الرّغم من تقلّبات الزّمن صورة الوطن الفردوس. فبلاده هي “الفضاء غير المحدود”، هي “حاضرة وعميقة إلى حدّ أنّها تفيض بلادًا أخرى”. فتصير الطبيعة في بلاده جزءًا من كيانه وحياته، وعناصرها قضيّة من قضاياه النفسيّة والفكريّة، تعبّر عن شعوره هو، في آن. بالتالي لم يتوقّف الشّاعر عند النظرة الأفقيّة العابرة إلى الطبيعة، بل تعدّى ذلك إلى النظرة المتعمّقة والمشاركة الوجدانيّة. وما المناظر الخارجيّة سوى حالات نفسيّة، فشكّلت الطبيعة بذلك صورة الوطن المحفورة في كيانه، إذ مزج الموضوع بالذات، والفكر بالوجدان، وجسّد الطبيعة تجسيدًا يبعث فيه الحركة والروح والحياة، وهذا ما يغذّي النزعة الوطنيّة انطلاقًا من تحفيز العاطفة الريفيّة.
والمتوكّل التقط البدايات، واستشرف المستقبل وهو يقف على أرض الحاضر. من هنا، الذات عنده هي ذات عامّة، ذات إنسان هذا العصر، تتجوّل في الماضي منطلقة من الحاضر. وقد نسجت محطّات الطفولة المختلفة الخيوط المتناثرة من المشاعر والأحاسيس والحواس، فترافق هذا الشّعور مع مختلف المضامين، إذ رأينا المتكلّم ينتقل من اللّحظة الآنية ليعود إلى مرحلة الطفولة، يستحضرها ويبقى بابها مواربًا، يتلصّص عليه متى ألحّت عليه لحظة الكتابة.

ألقيت هذه الورقة في احتفائية بالشاعر المتوكل طه في لقاء افتراضي وكنشاط من أنشطة المنتدى العربي الأوربي للسينما والمسرح إدارة وتنسيق الشاعرة القديرة دوريس خوري وحميد عقبي شاركنا الشاعر السوري القس جوزيف ايليا، الناقدة اللبنانية د. دورين سعد، الناقد التونسي د. حمد حاجي، الكاتبة والناقدة اللبنانية د. درية فرحات، الشاعر الأديب السوري صبري يوسف، الناقد الأردني د. عاطف الدرابسة والأستاذة وفاة حزان والعديد من محبي الشاعر وأصدقاء وصديقات المنتدى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى