صواريخ لبنان وجثة وزارة بائسة
توفيق شومان | لبنان
في التاسع من الشهر الجاري، أعلنت دولة الإمارات العربية المتحدة، دخول “مسبار الأمل ” مدار كوكب المريخ، وفي الرابع عشر منه ، أرسل ” المسبار” صوره الأولى عن الكوكب ، وفقا لما قال مركز الفضاء الإماراتي .
هذا الإعلان ، يعيد إلى الذاكرة القريبة ، ما أورده محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس دولة الإمارات العربية وحاكم إمارة دبي عن بيروت في كتابه “قصتي” الصادرعام 2018 ، إذ يقول : ” بيروت أذهلتني صغيرا وعشقتها كبيرا ، كانت شوارعها النظيفة وحاراتها الجميلة وأسواقها الحديثة في بداية الستينيات مصدر إلهام لي، وحلم تردد في ذهني أن تكون دبي كبيروت يوما ما ” .
تلك الصورة عن بيروت ، أو عن لبنان عموما قبل أن تأكله الحرب ولم يستطع بنوه أن ينتزعوه من بين أنياب الذئاب أو من تحت أقدام الفيلة ، تعيد استحضار ما كان عليه لبنان في تاريخ مضى ، ربما لايعرفه كثيرون أو أن كثيرين يفترضون أن الحالة اللبنانية الراهنة والمحطمة هي ذاتها الحالة التي عاشها اللبنانيون ولم يعرفوا عنها بديلا ولا تبديلا.
ذاك حديث الإفك
فبيروت هي “درة تاج آل عثمان” كما وصفها غليوم الثاني امبراطور ألمانيا عندما جال على “المدن العثمانية ” عام 1898.
لكن ماذا عن الصواريخ اللبنانية ؟
في عدد كانون الثاني 1964، نشرت مجلة ” الجندي اللبناني ” على غلافها الخارجي صورة لتجربة صاروخية لبنانية ، وجاء في التفاصيل ” في الساعة الحادية عشرة والنصف من يوم 21 تشرين الثاني الماضي ، أي في اليوم السابق لعيد الإستقلال ، أطلق الصاروخ اللبناني أرز 4، إن هذه التجارب العلمية التي تجري بإشراف قيادة الجيش ، هي ما يضع لبنان في مصاف الدول المتقدمة التي تسير بخطى واسعة إلى غد مزدهر “.
صحيفة ” الحياة ” ، كانت نشرت تحقيقا مطولا بعد يوم واحد من التجربة الصاروخية المذكورة آنفا ، فقالت : ” جرى ظهر أمس الخميس إطلاق الصاروخ اللبناني الأرز4 ، وهو الصاروخ الرابع الذي يطلقه لبنان عبر الفضاء معتمدا على الخبرة اللبنانية وحدها ، وهو يشكل مرحلة من عدة مراحل وتجارب يقوم بها النادي اللبناني للصواريخ “.
وبحسب ” الحياة ” أيضا أن لبنان ” أطلق صاروخين : هنيبعل السائل والأرز الجامد ، وقد انطلق هنيبعل عبر المنجنيق من منطقة ضبيه ، وهنيبعل يندفع بالوقود السائل ، والأرز وهو من سلسلة صواريخ تندفع بالوقود الجامد “، وأما صحيفة ” الأنوار ” فعنونت على رأس صفحتها الأولى ” الأرز يقطع 425 كلم ويقع جنوبي قبرص”.
لم تنقطع التجارب الصاروخية اللبنانية إلا بعد سنوات تحت وطأة ضغوط غربية ثقيلة ، وقيل قبل العام 1967 وقيل بعده ، وإنما بعدما وصل مدى الصواريخ إلى 600 كلم ، وفي واقع الحال ، أن هذا الجانب من التصنيع اللبناني لم يكن فريدا ، بل إن مجالات التصنيع الأخرى ، لم تكن أقل شأنا، وجاء عنوان صحيفة ” لسان الحال ” في الثالث عشر من نيسان / ابريل 1960 ” أول سيارة لبنانية ” مع صورة للسيارة المصنعة والمجمعة لبنانيا على كامل الصفحة الأولى .
في مجال التصنيع ، نشرت مجلة ” الرائد العربي ” في عددها الرابع والصادر في شباط / فبراير1961 ، وقائع ندوة اقتصادية ، قال فيها طلحة اليافي المدير العام ل “بنك التسليف الزراعي والصناعي ” إن لبنان يُعتبر اليوم ، من أكثر بلدان الشرق الأوسط تصنيعا “، وعلى ما يقول اليافي :” يعطي الاحصاء الصناعي قائمة ب 1861 مؤسسة تبلغ قوتها العاملة الكلية 25013 عاملا ، أي أكثر من 10 بالمئة من القوة العاملة للسكان”.
وكتب سمير مقدسي في ” الرائد العربي ” أيضا ( كانون الثاني / يناير 1961 ) ” ان قيمة الانتاج الصناعي بقياس الأسعار الجارية ، قد ارتفع من 190 مليون ليرة لبنانية عام 1947 الى 400 مليون ليرة لبنانية عام 1957 ، بينما ارتفعت الأموال الموظفة في الصناعات المختلفة في الفترة ذاتها من 110 ملايين ليرة لبنانية الى 375 مليون ليرة لبنانية ، وفي عام 1959 ارتفعت هذه التوزيعات الى 434 مليون ليرة “.
وفي تقرير منشور( 29 آب / اغسطس2020) على موقع ” عربي 21 ” ورد أن ” خلال عقد الستينيات حقق الاقتصاد اللبناني مؤشرات قوية ـ كانت بمثابة العصر الذهبي للبنان ـ حيث فاق المعدل السنوي للنمو الـ 5 بالمئة ، وفي عام 1963، سجل لبنان المركز الرابع عالميا في النمو الاقتصادي بعد الولايات المتحدة، وفرنسا، وسويسرا، وظل معدل التضخم دون مستوى 1.5 بالمئة، ونما قطاع الزراعة 6.3 بالمئة، وساهم بنسبة 12 بالمئة من الناتج المحلي، كما نما قطاعا الصناعة والخدمات 5 بالمئة، وبلغت نسبة مشاركة هذين القطاعين في الناتج المحلي 68 بالمئة، وارتفعت الصادرات سنويا بمعدل 14.5 بالمئة مقابل 5.1 بالمئة فقط نموا في الواردات، وتراوح سعر صرف الليرة مقابل الدولار بين 3 و3.5 ليرات للدولار الواحد”.
هذه المؤشرات والنسب ، كان أشار إلى نظائرها الخبير الإقتصادي توفيق كاسبار في كتابه عالي القيمة “اقتصاد لبنان السياسي 1948 ـ 2002 ” حيث يقول : ” بقي ميزان المدفوعات فائضا في كل عام ، من 1951 إلى 1975، ما عدا عام 1967 الذي حدث فيه عجز بسيط ، وكانت الموازنات في فائض معظم الأوقات في حين ان العجز كان عادة نادرا وضئيلا ، لذلك بلغ صافي الدين العام أقل من واحد في المائة من إجمالي الناتج المحلي عام 1974″ .
ماذا عن الليرة اللبنانية ؟
في الخامس والعشرين من نيسان / ابريل 1953، جاء عنوان صحيفة ” الحياة ” على الشكل التالي ” بيروت تحتل مكان القاهرة والإسكندرية عالميا وتتحول إلى مركز لدفع رؤوس الأموال والبورصة ” ، ونقلت ” الحياة ” عن الدوائر المالية قولها ” إنها تتوقع أن تشهد بيروت تحولا أساسيا في مركزها المالي والإقتصادي بالنسبة للدول الأجنبية وتحويل لبنان إلى قاعد لدفع الأموال الأجنبية في منطقة الشرق الأوسط “.
وفي عام 1965، نشرت ” الحياة ” تقريرا لمندوبها الإقتصادي بعنوان ” النقد اللبناني يصبح نقدا عالميا ” ، قال فيه :
” اهتمت الأوساط المالية اهتماما كبيرا بمشروع الإتفاق المالي الجديد ، الذي نشرت الحياة تقرير الرئيس العويني عنه ، واعتبرته كفالة دولية بضمانة وسلامة النقد اللبناني ومعاملته على قدم المساواة مع الدولار ، والواقع أن هذا المشروع هو خطوة تمهيدية نحو رفع النقد اللبناني إلى مستوى النقد النادر الحر المماثل للعملات الدولية الصعبة ، أو القابلة للصرف والتعامل في مختلف المصارف والبيوتات العالمية المالية ، كما هي حالات الدولار والإسترليني والفرنكات الفرنسية والسويسرية “.
وفي واقع الحال ، أن سلامة النقد اللبناني ، مثلما ورد في تقرير ” الحياة ” ، كان سبقه تدفق مالي أجنبي ضخم إلى لبنان وأدى إلى تحويل كبير في الودائع المالية في المصارف الوطنية من العملات الأجنبية إلى العملة اللبنانية ، وحول ذلك كتبت مجلة ” الرائد العربي ” في عددها الصادر بتاريخ تشرين الأول / أكتوبر 1961 فقالت :
” أدى دخول الأموال الأجنبية بكثرة الى لبنان ، وبالتالي ارتفاع الودائع بالعملات الأجنبية لدى المصارف الوطنية وارتفاع قيمة الليرة اللبنانية المستمر في السوق الحرة خلال عام 1960 وما رافقه من فائض كبير ومستمر في الخزينة العامة ، أدى ذلك الى ضغط غير متوقع على السيولة بالنسبة للعملة المحلية لدى البنوك ، ولكن ، كلما بدأت قيمة الليرة اللبنانية في الإرتفاع فان اتجاها للتحول من العملات الأجنبية الى الليرة اللبنانية يأخذ بالظهور ، مما يسرع في ارتفاع قيمة الليرة اللبنانية ، وإن توقع ارتفاع قيمة الليرة اللبنانية قد يؤدي الى زيادة كبيرة في الطلب على الليرة اللبنانية “.
حسنا ، تلك هي الحال مع ارتفاع سعر صرف الليرة اللبنانية في الستينيات ، وبصرف النظر عن تقلبات الأسعار وعدم الثبات بالنسبة للأسعار المرتبطة بالمواد الإستهلاكية أو ما يمكن أن ينعكس من تداعيات معينة ، إلا أن الأمر الجدير بالتوقف عنده ينحصر بقوة النقد اللبناني ، تلك القوة التي كادت تحوله إلى عملة دولية صعبة ، او على الأقل إلى عملة إقليمية على مستوى دول الشرق الأوسط ، أي ما يشبه ” اليورو ” وقبل ظهورالأخير بعقود ، وفي ذلك لا بأس من العودة إلى نقاشات تلك الفترة ، وبالتحديد إلى ما دار على صفحات ” الرائد العربي ” التي كانت تجمع في مدارها نخبة الأقلام والعقول الفكرية و المالية والإقتصادية اللبنانية والعربية من مثل : سمير المقدسي وأمين الحافظ والياس سابا ونقولا زيادة وبرهان الدجاني وبهيج تقي الدين وعبد الرزاق السنهوري وعصام عاشور والشيخ جابر الاحمد الصباح وحسن عباس زكي وصلاح مصطفى الدباغ وادريس بن بركة ووليد الخالدي وموريس الجميل وقدري حافظ طوقان وجاسم بن خالد آل ثاني و عبد القادر بن العباسي، وغيرهم من أمثالهم .
يقول إلياس سابا في عدد ” الرائد العربي ” المؤرخ في شباط / فبراير1961 :
” يعتز اللبنانيون بقوة نقدهم شبه الاسطورية ويعتبرونها مظهرا أمينا من مظاهر مناعة لبنان الإقتصادية وسببا جوهريا من أسباب رفاهيتهم المادية ، واللبنانيون عمومام قلما يفاخرون بما أحرزوه كشعب وكمجتمع منذ الإستقلال ، وبمعزل عن أي تأثير خارجي ، حتى ولو غير مباشر ، مثلما يفاخرون بما تمكنوا بدهائهم وقدرتهم من تحقيقه في الحقل الإقتصادي ، فالجهد هنا والتفوق لبنانيان “.
ويتابع الياس سابا قائلا : ” حان للبنان ، في رأينا ، ان يرى ان الوقت قد جاء ليخلع عنه ثوب التراخي وتمشية الحال واتباع سياسة عدم التدخل والتخطيط والتدبير في الحقل الإقتصادي لدرجة الفوضى العامة ، وأن يبدأ باتباع نهج جديد يصحح حياته الاقتصادية ويؤمن مستقبله الاقتصادي والإجتماعي ، أما في مجال تثبيت قيمة نقده الخارجية ، فعليه ان يقوم بكل ما من شأنه ان يعزز الليرة اللبنانية كنقد مناطقي يشمل الشرق العربي بكامله “.
نقد مناطقي على مستوى الإقليم ، ” يورو عربي” من لبنان قبل اليورو الأوروبي ” بعقود وسنوات .
لنترك جانبا العيوب والنواقص التي اعتورت النظام الإقتصادي والمالي حتى العام 1975، ومعها عورات النظام السياسي ، حيث يمكن أن يوجد مماثلات ونظائر لها في كل انظمة العالم ، ولكن ماذا عن النجاحات والمميزات التي عرفها لبنان حتى لحظة اشتعاله في حروب اهلية لا تعرف نهايات ولا خاتمات ؟ ،أين غدت تلك النجاحات ؟ وماذا أضاف اللاحقون إلى ما نجح به السابقون ؟
لا شيء
كأنها حفلة انتقام مما سبق ، أو حفلة جماعية تشترك بها الجماعة ب ” لحس المبرد ” وعلى قاعدة التلذذ بالدم الذي يتدفق من داخل البطون والأوردة .
كتب الخبير الإقتصادي لويس حبيقة في صحيفة ” الشرق ” القطرية بتاريخ 19 ـ 12ـ 2012: ” في سنة 1960 بلغ الناتج المحلي الإجمالي اللبناني 830 مليون دولار، وكان دخل سنغافورة 700 مليون دولار “.
وفي أيار / مايو 1975، ، أي بعد حادثة باص عين الرمانة ، وقبل اشتعال لبنان بالحرب الأهلية أصدر البنك الدولي تقريرا عن لبنان تضمن الآتي : ” لبنان يهدف إلى مستوى معيشي أوروبي ، ويجب مقارنته ببلد أوروبي منخفض الدخل “.
وقبل سنوات الحرب بقليل ، راحت شركات مثل ” سوناطراك ” الجزائرية ، و رينو ” الفرنسية ” ، فضلا عن شركات كبرى في الهند ، تدرج تعاملاتها التجارية بالعملات الدولية الكبرى ومن ضمنها الليرة اللبنانية .
يبقى قول أخير عن مطار بيروت :
في عام 1957، كتبت صحيفة ” الحياة ” فقالت : ” مطار بيروت سابع مطار في العالم “.
أين بيروت حاليا ؟ أين مطارها ؟ أين الصواريخ اللبنانية ؟ أين العملة الوطنية؟ أين لبنان من العالم ؟
بل : أين لبنان من المريخ ؟
أين لبنان الآن ؟
الآن … يتحارب السياسيون على جثة وزارة فيما الناس تصرخ وتسأل : أين الرغيف؟