شيء من الفلسفة: حول حرية الإرادة
د. خضر محج | فلسطين
لوحة زيتية من مصر لمستشرق أوروبي
قلت كثيراً بأن الإنسان لا يعلم مقدار ما يمتلك من حرية الإرادة. وردَّ كثيرون فأوضحوا لي ما ليس واضحاً لديهم، فلم يتضح شيء، لأنهم ـ ببساطة ـ لم يكونوا قد اتضح لهم شيء، ويرغبون في أن يقولوا: بأن ما لم يتضّح لديَّ هو واضحٌ لديهم، باعتبار عقولهم توصلت إلى معرفة ما حيّر العالَمين.
سنرى ما يقول الشكاك الأكبر نيتشه:
إنه يقول بأن تاريخ الأخلاق يمر بالمراحل الكبرى الآتية:
1ـ المرحلة الأولى: فيها يتم تسمية الشيء في العالم جميلاً أو قبيحاً، بسبب نتائجهما النافعة أو الضارة فقط.
2ـ المرحلة الثانية: وفيها تستقلُّ التسميةُ عن الشيء المُسَمَّىٰ. وبذا تقوم اللغةُ بالحلول محل العالم.
3ـ المرحلة الثالثة: وإذ تحل اللغةُ محلَّ العالم، يصبح ما نسميه قبيحاً، قبيحاً، أي: يصبح الشيءُ في العالم قبيحاً، لأن اللغةَ قالت إنه قبيحٌ، فيما الحقيقة أننا نسينا أننا (في المرحلة الأولى) لم نثق بعدُ في كونه قبيحاً، وإنما مجرد سميناه.
4ـ المرحلة الرابعة:وفيها يصبح الجمالُ والقبح صفتين ملازمتين للأشياء في العالم، صفتين لغويتين مستقلتين عن نتائج الأفعال في العالم.
5ـ المرحلة الخامسة: وإذ لم نكتفِ بتسمية الأشياء، قبل إثبات كونها تستحق تسميتها التي أطلقناها عليها؛ ننطلق وراء تسمية الشيء، إلى تسمية الدوافع التي نراها وراءه: فنُسَمِّي الدوافعَ ـ التي لم نُثبت صحة ارتباطها بالشيء ـ دوافعَ جميلةً ودوافع قبيحة.
6ـ المرحلة السادسة: ولأننا انتقلنا من مرحلة إلى التي تليها، دون أن نكون قد فهمناها، نرى أنفسنا نواصل الانزلاق إلى اعتبار التصرفات ـ التي سميناها جميلة وقبيحة ـ غامضة أخلاقياً.
7ـ المرحلة السابعة: وهكذا نجعل الإنسان مسؤولاً عن النتائج التي يُثيرها، وعن تصرفاته، ثم عن دوافعه، وأخيراً عن كيانه نفسه.
8ـ المرحلة الثامنة: وفيها نعيد تأمل هذه السلسلة من المتواليات، فنكتشف أن هذا الكائن لا يمكنه أن يكون مسؤولاً: نظراً لكونه مجرد استتباعٍ حتميٍّ، ونتيجة لتشابك أشياء ماضيةٍ وحاضرة، ولتأثيرها في بعضها، بحيث لا يمكننا جعل الإنسان مسؤولاً عن شيء: لا عن كيانه، ولا عن دوافعه، ولا عن أفعاله، ولا عن نتائجها.
9ـ المرحلة التاسعة: وفيها نصل إلى نقطة الاعتراف، بأن تاريخ الجميل والقبيح هو ذاته تاريخ خطأ المسؤولية، الذي يقوم على الخطأ المتعلق بحرية الإرادة.
يخطئ من يظن أن نيتشه، المادي الملحد، وحده هو من توصل إلى هذه النتيجة، فسبينوزا المثالي المؤمن قد توصل إليها من قبل.
الطريف أن شيخ الماديين الملحدين ماركس ـ الذي كتب الفلسفة بلغة الشعر، وقاتل ببلاغة مُعجِبة في سبيل العدالة ـ قد لامس هذه النتيجة، في (الثامن عشر من برومير) إذ يقول: “إن الناس يصنعون تاريخهم بأيديهم؛ لكنهم لا يصنعونه على هواهم. إنهم لا يصنعونه في ظروف يختارونها هم بأنفسهم، بل في ظروف يواجَهون بها، وهي معطاة ومنقولة لهم مباشرة من الماضي. إن تقاليد جميع الأجيال الغابرة تجثم كالكابوس على أدمغة الأحياء”.