لماذا تنجح الأمم؟

سيد أحمد | باحث أكاديمي مصري
لعل هذا السؤال يجتر دون إرادة حقيقية، كل ما شابهه من أسئلة أثيرت على مدار عقود طويلة من التخلف والرجعية، والفقر، أي في تلك اللحظة التي أدرك فيها العرب والمسلمون تلك القاع التي يسكنونها وهي ليست واحدة ولا نهائية، الحقيقة أننا نصحو كل مرة على قاع جديدة أكثر خطرًا مما سبقها! وحيث يتساءل الدكتور علي مبروك (رحمه الله) بأكثر من موضع من كتاباته عن أحد تلك الأسئلة التي تبدو غارقة في التكرار إلى حد التسطيح التام، وهو لماذا تخلف المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟ وهو يشير إلى موضع التأزم الظاهر في الخطاب التنويري، إذ يجد الأخير الإجابة على ذات الأسئلة، بل وبذات الإجابات، والتي بدورها تبدو على حسب ما وصف علي مبروك إجابات غارقة في الشكلانية، التي لم تتعد بدورها لُعبة الاستيراد! بما يشمل كل ما يمكن استيراده، وبما في ذلك استيراد الأشكال الديمقراطية للدول واالمؤسسات دون أن تكون هذه الديمقراطية فاعلة بأي شكل.

في كتاب Why Nations Fail: The Origins of Power, Prosperity, and Poverty والذي كتبه الاقتصادي التركي-الأمريكي دارون أسيموغلو من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا والعلوم السياسية وجيمس روبنسون من جامعة هارفارد. يتكلم الكتاب عن نظريات الإقتصاديات المؤسسية، إقتصاديات التنمية والتاريخ الإقتصادي وذلك للإجابة عن سؤال لماذا تنمو الدول بشكل مختلف؟ حيث نجح البعض منها في مراكمة القوة والازدهار، في حين فشل بعضها الآخر. ويحدد المؤلِفَان أن المؤسسات التى يقيمها الإنسان، وليس الموقع الجغرافي أو التاريخي هي التي تُحدد ما إذا كانت دولة ما تصبح غنية أو فقيرة، إن التطورات المؤسسية، وانفتاح المجتمع ورغبته فى السماح بوجود الهدم الخلاق – الذي من شأنه أن يخلق مجموعات تتنافس على السلطة ضد النخب الحاكمة، والتي بناءً على ذلك ستفقد ميزة وصولها الحصري للموارد الإقتصادية والمالية- وحكم القانون يؤديان إلى التطور الاقتصادي.

وعليه فالدول تنجو فقط من شبح الفقر عندما تمتلك مؤسسات إقتصادية فاعلة ويكون لديها نظام سياسي تعدُدي. وهم يشيران بذلك إلى نوعين من المؤسسات داخل الدول، الأولى هي الإستخراجية/ الإستحواذية والتي تهدف إلى إستبعاد غالبية المجتمع من عملية صنع القرار السياسي وتوزيع الدخل وحتى الأرباح. والثانية هي الشاملة/ التشاركية والتي تهدف إلى تضمين أوسع لطبقات المجتمع الممكنة في الحياة الإقتصادية والسياسية وصناعة القرار. تلك هي المؤسسات كما حددها المؤلفان والتي على إثرها تصبح كل أمة مرهونة بمصيرها المُحقق، على أساس ما تتبنى من المؤسسات الإستخراجية أو الشاملة، وربما يتضح من مجرد اللفظ ما يمكن أن تفعله كل نوعية من المؤسسات داخل البلد الواحد، بل ربما يتضح التساؤل ليكون لماذا تنجح الأمم؟ ولعل قلب السؤال هُنا قد ينجح، عن ما كان لدى علي مبروك حتى لو الأخير أنكره من البداية، إلا أنه بحيلة بسيطة يضع مطرقة وأدوات البحث خارج الإطار الأيديولوجي من الأساس، إذ كان أمرًا عسيرًا دائمًا على المسلمين التفكير خارج إطار السلطوي الديني، ولعل ذلك كان عبر فاعلية السلطة التي تظن، أنها تحمل عبء الإسلام على عاتقها، بل وتُصدر لنا دائمًا عبر ما يمكن أن تحمله مفردات اللغة من متسعٍ لا يتوانى لحظة واحدة في السيطرة على تلابيب الوعي الفردي، وما يشكله من وعي المجموع، الذي ينبني بدوره عبر تشابكات متعددة من نوعيات الخِطاب المُقَدَم والفاعل.

صحيح أن المُساعدات التي تُقدم للدول الفقيرة بهدف تخطي عقباتها الإقتصادية، قد يكون حلًا، ربما لبعض الوقت فقط، إذا لم يتبع ذلك سياسات جوهرية من هدفها تعديل المسار إلى التشارك لا الإستحواذ، لكن بالنظر لبعض الأبحاث التي تشير لعلاقة مباشرة بين المساعدات التي تقدم من البنك الدولي وصندوق النقد على سبيل المثال بما يتبعها من سياسات تقشف صارمة يضيع على إثرها الفقراء ومحدودي الدخل متمزقين من التطلع لحياة الطبقات الأغنى إلى قلة الحيلة وضيق ذات اليد، وبين الزيادة اللاحقة في أرصدة الحسابات الآمنة ببنوك سويسرا وغيرها، فإنه يثير الشك لا محالة! وعليه فإن البحث عما يمكن أن يكون مشتركًا بين الأمم من شروط للنجاح، أو على الأقل العمل على إيقاف نزيف التخلف والفقر، عليه أن يضعنا بمنطقة بَرِحَة، تقبل الجميع بقاعة البحث، التي لا دين لها إن صح التعبير. بل ويفرض الرغبة الجادة في التغير الحتمي.

الفقر كحرمان من القدرة

وهو ما يشير إلى أهمية ما قاله الحائز على جائزة نوبل في العلوم الإقتصادية عام 1998م وعالم الإقتصاد الهندي آمَرتيا صن في كتابه “التنمية حرية”. إذ ربما عند تحليلنا للعدالة الاجتماعية نجد مبررًا قويًا للحكم على الميزة الفردية في ضوء ما لدى الفرد من قدرات، أي الحريات الموضوعية التي يحظى بها لبناء نوع من الحياة التي لديه الأسباب لإضفاء قيمة عليها. وحسب هذا المنظور يمكن إعتبار الفقر حرمانًا من القدرات الأساسية وليس مجرد تدنيًا في الدخل وهو المعيار الأساسي والسائد لتحديد الفقر، وهو سائد حد الفقر المدقع عن كفاف العيش. ولا يتضمن منظور فقر القدرة أي أفكار للنظرة المعقولة التي ترى الدخل المنخفض أحد الأسباب الرئيسية الواضحة للفقر طالما وأن نقص الدخل يمكن أن يكون سببًا رئيسيًا لحرمان الشخص من القدرة.

وعليه يكون الحرمان النسبي من حيث الدخل يمكن أن يفضي إلى حرمان مطلق من حيث القدرات! ففي الوقت الذي يكون فيه الفرد فقيرًا نسبيًا في بلدٍ غني يمثل عقبة أكثر وهذه الحال، أكثر منها في بلد فقير. حيث يكون ثمة حاجة أكبر إلى الدخل لشراء ما يكفي من سلع لبلوغ المستوى الاجتماعي المتعارف عليه في بلدٍ بعينه. وهذا يفرض بدوره ضغطًا متزايدًا على الفرد الفقير في بلد غني نسبيًا، وهو أيضًا ما يفسر بشكل ما ظاهرة الجوع المثيرة للتناقض في بعض البلدان الغنية. وهكذا يكون تحليل الفقر تأسيسًا على منظور القدرة من شأنه أن يعزز فهم طبيعة وأسباب الفقر والحرمان، إذ ينأى بالاهتمام الأول بعيدًا عن الوسيلة (الدخل) إلى الغايات التي يتطلع إليها الفرد ويملك لها مبررًا. وهو ما يدين جميع قيم العالم الرأسمالي/الاستهلاكي بامتياز.

وإذ نربط ذلك بأن إحدى المؤسسات لا تسمح على الأغلب بحرية الفرد، وتهميش ما يمكن أن يكون له من فاعلية نحو التقدم بأي مستوى، إقتصادي أو ثقافي، تحت فضاء السياسي المسيطر دائمًا حسب ما نظن، وذلك عبر مساحات من تأويل الحرية وفق إطار معين، يكبل الفرد بالمطلق، بينما يحافظ في الآن ذاته على الإطار الشكلاني لممارسة الحرية! وحيث لا يوجد ضمانات موثوقة لحقوق الملكية وفرصة لتلقي الدخل -وكذلك العدل في توزيع الفرص على إجمالها- من تلك المؤسسات بين قطاعات واسعة من المجتمع إلى توقف النمو الإقتصادي. أي أنه في ظل غياب مؤسسات سياسية تعددية يكون تحقيق التنمية المستدامة، حسب المؤلفين، أمرًا مستحيلًا. لم نهدف من هذا الطرح سوى السؤال، الذي هو بطبيعة الحال عرضة للتغير المستمر، كما أنه غير نهائي، وربما قاصر، لكن، انظر إلى مؤسساتنا رحمك الله تعرف نهضتنا النافقة من قبل أن تولد!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى