الميدان

يكتبها : محمد فيض خالد

دأبه ينتزع القرشَ من جيوبِ زبائنهِ، انتزاع عزرائيل أرواحَ موتاه، تراهُ في هيئةٍ لا تتغيّر ، يَدبُّ في الميدانِ ، دبيبَ القطّ العجوز ، يتَفحص وجوه المارة ، يلقي بسهامهِ داخلَ المَحالِ وخارجها ، قديما عرفه المكان ، ألفهُ جميع من فيهِ شيبا وشُبانا ، تربّى القومَ على نغمِ صوته الأجَشّ ، يتناثرُ في اجتراءٍ ؛ يَشقُّ سكون الميدان الواسع معظم ساعات النّهارِ، يستجدي المارة يسألهم إلحافا :” لله يا محسنين ، حق رغيف عيش للغلبان “،يتحرِّك على إثرها ” عبده” المكوجي منفعلا ، يرميه من عينٍ حمئةٍ، يمصمصُ شفتيهِ ممتعِضا ، قبلَ أن يُلقي بالمكواةِ فوقَ جلبابٍ مفرود أمامه ، يُردِّد في جرسٍ راقص :” لله يا محسنين لله “، يظلّ يتغنى بها حتّى تبتلعَ زحمة الميدان خيال “وهيب ” ، ووهيب لمن لا يعرف ابنٌ بارٌ من أبناءِ الميدانِ غير أنّه يحيا مجهول الهوية ، لا يُستغنى عنه ، كيف ؟ لاندري ، كلهم يعرفونه كمتسولٍ قديم ، عُرِفَ كما عرف الكثيرين أمثالهُ ، بيد أنّهم ذهبوا بلا رجعة ، وأضحوا مع الزمنِ نَسيا مَنسيا ، أمّا صاحبنا فزادَ سهمه، وعَلا نجمه ، إذ تمكّنَ من أن يحفَظَ عليهِ هيبته ، ويُعزّز مكانته، ما إن يلتقطَ منك الحسنة ، حتّى يسارِع في عنجهةٍ فارغة ، لا يستريح حتّى يقذفك بنظرةٍ ملتهبة ، يتبعها ببرطمةٍ مكتومة ، بمرورِ الوقتِ تناسى الناسُ قسوته ، وتغاضوا عن سوء ِخُلُقهِ، فمن ذا الذي يلقي بالا لمتسولٍ أخرق وسط هذه الأمواج من الخَلقِ، الذين يعجُّ بهم الميدان ، منذ طلوعِ النَّهارِ وحتّى يعلن شيخوخته .
يتردّدُ على ألسنةِ أصحاب المَحال وعمالهم ، حكايات هي أشبه بالخرافةِ، عن بطلِ قصتنا ، فمن حالف برأس حماته ؛ بأنّه حَتما ولابُدّ هاربٌ من ثأرٍ قديم ، ورأي تَزعّمه ” سروجي ” الحلاق الذي استدعى فراسته التي لا تخيب في بشرٍ ، يصرّ في ثقةٍ قائلا :” وهيب دا ابن ناس فلت عياره “، تأتيه أمثال هذه الأحَاجي كُلّ يومٍ ، فيزمّ شفتين ، يطرِقُ مَليا ، يستغرق في نشوةٍ عجيبة ، سرعان ما يتخذ لنفسهِ مكانا قَصيا ، يرمقُ منه المارة في تيهٍ، يظل يقضمُ رغيف الفول ذاهلا في استسلام ، يبقى على حالهِ لدقائقَ ثم يَفزُّ مزعورا، ينهب أرض الميدان ، مختفيا لوجهةٍ مجهولة ،ولعلّ أكثرَ ما يميّز ” وهيب ” عن غيرهِ ؛ صمته المُحير ، واستسلام زبائنه لسحرِ يده الممدودة طوعا ، دونَ سؤال ، تدهشك بقايا ذكريات تتَلألأ في عَينيهِ المتوهجة ، تنبئ من يطالعها من أولِ وهلةٍ ، عن ماضي الرجل الذي يُجاهد أن يبقهِ سره مصونا ، في منأى عن المتطفلين وأسئلتهم التي لا تملّ، امسكَ بهِ يوما ” عبده فتلة” صبي المقهى ، يُطالِع مجلة فنية ، يخطّ تحت أسطرها بقلم كوبيا ، تهرّب لحظتئذٍ، قُوبِل المشهد بنوبةٍ استهزاءٍ عارمة ، سخر القومُ يومها من الشَّحاذِ المثقف ، مرّ الموقف مرورا سريعا ، فلم تصمد الذاكرة أمام تَصرّفٍ كهذا ، وانَساحَ صاحبنا مُندَمجِا في مهنتهِ وكأنّه ينفي عنه كل ريبةٍ.
في الفترةِ الأخيرةِ وعلى غيرِ المُعتادِ ، زَادَ انفعاله ، وارتفعت حِدّة صوته ، بعدها قلّت حركته بعدما بَاتَ مُنكِمشا على نفسهِ أغلبَ الوقت ، مُكتفيا من يومهِ بنظراتٍ فاحصةٍ ، يمسحُ بها الميدان مسحا دقيقا ، يُدقّق في ارتيابٍ وقلق الوجوه ، ما إن يظهر حتّى يختفي دونما سابق إنذارٍ ، ظَهَرَ بعدَ أيامٍ وقد تَردّت صحته ، واضطرب مزاجه ، ولاحَ شحوبا غَلَف وجهه بصفرةٍ مخيفة ، بوادر إعياء وسهر .
في تلجلجٍ تقدّمَ ذاتَ صباحٍ من محمصة المعلم ” شهدي ” الذي أوسعَ له مُرحِبا ، جمعهما حديثٌ مُطوّل ، لم يستطع إخفاء تأثره ، أمّا جليسه فقد ظَلّ مبهوتا حيران أسفا لا يتحرك ، حتّى بعد رحيلِ صاحبه ، لم يعرف أحدٌ إلى الآن تفاصيل ما جرى ، غيرَ أنّ الميدان صحا يوما مذعورا ، على وقعِ أقدام غُرباء ، جاؤوا بسيارتهم الفارهة ، أناس في هيئة مُريبة ، وسؤالهم الوحيد “: أينَ وهيب ؟!”، لم تكن الإجابات لترضيهم، انسحبوا على وعدٍ بلقاء ، وقفَ ” شهدي ” يُقلِّبُ كفيهِ في استعبارٍ، طالبا من الله السلامة ، اختفى ” وهيب ” للأبدِ، لم يعاود الظهور ثانية ، مرّت أيام وكأن شيئا ينقص الميدان ، افتقدهُ كُلّ شيء ، حتّى نفحات المحسنين ، صمّم ” عبده فتلة” على أن يحتفظ بكرسيهِ خاليا ؛ إلى أن يعود ، لكنّه لن يعود ، رجعت العصابة تزور الميدان ، بعدما وعدت بمكافأةٍ سخية ؛ لمن يدلهم على مكانهِ، بعدَ أيام يئسوا فغادروا بلا رجعةٍ ، هَربَ الصَّيد في الوقت المناسب ، أفلته قدرهُ من قبضةِ طريده ، اختفى ” وهيب ” للأبدِ وسره معه ، بعدما دفنه في صدرِ المعلم ” شهدي” شريك آلامه ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى