الشاعر المصري محمد القاضي وناصر أبوعون.. يتحاوران في جريدة عالم الثقافة
القاهرة | حاص
(1) عودة إلى البدايات.. متى اكتشفت قارة الشعر المفقودة داخل جغرافية روحك المتوثبة ؟ وكيف ولجت إلى أبواب القصيدة؟
||| البدايات الأولى تعود إلى الطفولة المبكرة، لكنها لم تكن أكثر من خربشات على هامش الإبداع وكنت حريصا جدا على إخفائها؛ ربما خوفا من النقد، وربما لضعف الثقة في المنتج الأدبي، وللأسف الشديد استمر معي هذا الخوف حتى وقت قريب لم أتخلص منه إلا عند عودتي للشعر على صفحات الفيس عام 2017. المهم وعودة على ما سبق استمرت هذه الخربشات منذ المرحلة الإبتدائية وحتى المرحلة الثانوية حيث بدأت الموهبة تنضج شيئا – وللأسف لا أحتفظ بشيء من إنتاج هذه المرحلة – لكنه عموما لم يكن بالشئ الكثير الذي أحزن لأجل فقده.
أما المرحلة الفارقة فهي مرحلة الجامعة؛ هنا وهنا فقط يمكن أن نتحدث عن انطلاقة جادة لإبداع متماسك نوعا ما والغريب أنه وبالرغم من جهلي شبه التام بقواعد العروض في هذه المرحلة إلا أنني كتبت نصوصا قريبة جدا من الإطار العمودي و- الحمد لله – أحتفظ بكل إنتاجي عن هذه المرحلة والتي استمرت من عام 2000 حتى عام 2007 – فترة الجامعة خمس سنوات، وعامين بعدها في انتظار العمل.
وعموما فمجمل هذا الإنتاج لم يتجاوز عشر قصائد تقترب كثيرا من الإطار العمودي أصلحت بعضها مؤخرا بينما بقي البعض الآخر على حالته الأولى، ثم ومن عام 2007، توقفت تماما عن الكتابة بسبب عملي بالهيئة القضائية، وما استتبعه ذلك من مسئوليات كبرى نحو العمل ووقت فراغ أقل يمكن توجيهه نحو الإبداع، واستمرت فترة الانقطاع لعقد كامل منذ عام 2007 وحتى عام 2017 تقريبا حيث عدت في هذا التاريخ الأخير للكتابة مرة أخرى على صفحات الفيس وبعد ذلك بقليل بمشاركات متقطعة على أرض الواقع، ولا أزال أتلمس طريقي حتى الآن.
أما كيف اكتشفت هذه الموهبة فمن خلال المرات القليلة التي تسربت فيها النصوص إلى خارج الدفاتر، وما أبداه الأهل والأصدقاء حينها من كلمات التشجيع والإعجاب على أن خوفي سابق الإشارة إليه لم يفارقني إلا مؤخرا بعد أن تجرأت على عرض نصوصي على الآخرين وتعودت شيئا فشيئا على تقبل النقد والرأي والرأي الآخر.
(النبض الباكي).. كانت هذه أول قصيدة شبه ناضجة أكتبها في حياتي، وذلك في مطلع دراستي الجامعية منذ ما يقارب عشرين عاما الآن، وهي واحدة من القصائد القليلة التي كتبتها أثناء هذه المرحلة المبكرة، ثم أعقبتها فترة ركود طويلة جدا منذ عام 2006 وحتى عام 2016م.
المهم أنني حين كتبتها لم أكن أعرف من العروض سوى اسمه مع أنني أزهري الدراسة، ولكن لا عجب!! العجيب أنني اكتشفت مصادفة بعد تنبيه أحد الأصدقاء لي خلال عام 2018 تقريبا أن هذه القصيدة منضبطة عروضيا على (نغم الكامل)، وأنا صدقا وحتى هذا التاريخ، لم أكن أسمع حتى عن هذا (الكامل)؛ فقد بدأ اتصالي بفن العروض منذ عام 2019 ولا يزال ولا أعرف كيف نظمت هذه القصيدة منضبطة على هذا النحو دون إلمام مني بقواعد العروض حينها، ولكن لعل نغمة البحر قد علقت في أذني؛ فنظمت عليها دون أن أدري بذلك، ولا أريد أن أطيل عليكم أكثر من ذلك، وإليكم نص القصيدة راجيا أن تنال إعجابكم الكريم؛ مع مراعاة أنها كانت أولى تجاربي شبه الناضجات: (النبض الباكي)
حل الجفاء محل قربي منكمو
وتبدل القلب الرفيق الحاني
///
ما كنت أحسب أن إلفي غادر
يئد المشاعر بعدما أحياني
///
ترك الفؤاد صريع جرح غائر
جرح قصي من حبيب داني
///
يا لحظة الأنس التي قد أدبرت
///
حب تجاهله الزمان فباعه
للوائدين بأبخس الأثمان
///
حب سما فسموت معه إلى العلا
ثم انزوى فتساقطت أركاني
///
ولكم ظننت الهجر منا قاصيا
بل لا أرى للهجر من إمكان
///
ولكم حييت مغيبا في حبكم
تعدو السنين كأنهن ثواني
///
آه على تلك المشاعر أصبحت
بعد الحياة صريعة النكران
///
تاهت على إثر انهزامي غايتي
ومحت دموعي واقعي وزماني
///
وخرجت من ليل تباطأ نجمه
فإذا بليل بعد ليلي ثاني
///
ماذا جنيت لتهدمي يا مهجتي
///
ماذا عساي أقول بعد هزيمة
تلت الدفاع عن الهوى بتفاني
///
لا أستطيع القول بعد شرودها
تاهت حروف في الجوى و معاني
///
إن كان لي قول فقولي أنني
سأعيش بعد فراقها لأعاني
///
سأظل أشكو للزمان حكايتي
ما أسمع الزمن الشرود أذاني
(2) تعريف الشعر بعيدا عن الأدلجة والخطابين القومي والعقائدي بما يدعم مرتكزات الهوية الثقافية؟
تعريف الشعر: هو هذه الرسائل الروحية التي ربما تتلمس نسائمها حتى قبل أن تفهم أبعادها الشعر شعور يفصلك عن الواقع أحيانا ويعيدك إليه أحيانا أخرى لكن حتى وهو يعيدك إلى أرض الواقع لا يتخلى أبدا عن عالمه الخاص الشعر هو أجود ما ينتقيه التاجر الماهر من ثمار القول وحدائق الإبداع ينساب إلى الروح بلا استئذان وكيف يستأذن منها وهو خارج منها وإليها يعود، وهو مع ذلك يحترم العقل ولا يخدش حياء المتلقين حتى وهو يتحدث عن أشد الأمور خدشا للحياء ليس شعرا ما تحرجت عن سماعه أو تعففت عن قوله الشعر قبس من وحي وشعلة من ضياء، وهو قبل هذا وبعده قلب الأمة ولسانها رسولها الأمين الذي يحمل آمالها وآلامها وخيباتها وحالم الطموحات يصحو معها ويبيت، ثم هو متنفس الذات يحمل عنها زفراتها ويلقي عليها نسمات من الأمل.
أما الثقافة واللغة فيدين لهما وله يدينان فلا تدري أيهم أثقل دينا إلى صاحبه الشعر مسبار هذا العالم إلى عوالم أخرى موازية له تغوص في أعماق الماضي أو تنطلق إلى آفاق المستقبل.
(3) يُطْعَنُ في الحداثة بوصفها إنجازًا غربيًّا، وهي كذلك بالفعل، أليس من حداثة عربية وكيف يسهم الشعر في تأصيلها؟
الحداثة لم أقرأ عنها ما يكفي؛ لأسجل رأيي الأخير عنها، ولذا فإن ما سأسطره الآن مجرد رأي مرحلي قد يتحرك في مرحلة لاحقة إلي اليمين دفاعا عن الحداثة أو إلي اليسار دفاعا ضدها ما فهمته عن الحداثة أنها ثورة ثورة على قيود الإبداع سواء أكانت قيودا شكلية، كقواعد العروض مثلا أو قيودا موضوعية؛ وهو ما يسمى بتحطيم التابوهات؛ فالحداثيون يرفضون أن تفرض على الإبداع قيودا من خارجه تحدد له مساره واتجاهه ويرون أن على الإبداع أن يحدد مساره بنفسه فلا تفرض عليه قوالب شكلية عليه أن يسير داخلها ولا محظورات موضوعية عليه ألا يتخطاها – هذا ما فهمته عن الحداثة حتى الآن –
حسنا أنا لست ضد الثورة من حيث المبدأ وهل كانت دعوات الأنبياء والمصلحين إلا ثورة. لكن السؤال الأهم: على أي شيء تثور فإن كانت ثورتك ضد الفساد؛ فأنت مصلح. وإن كانت ثورتك ضد الصلاح فأنت مفسد هذا هو حسام الأمر. وبشكل أكثر تحديدا
أما عن القواعد الشكلية؛ فربما لي أن تصالح مع الدعوة إلى مرونتها وقابليتها للتطوير دون هدم للأسس أو ما يسميه البعض التطوير من الداخل. أما إلغاء هذه القواعد بالكلية بحيث تذوب الفوارق بين الأجناس الأدبية فلا تكاد تميز بين الجنس وأخيه فلا سيبقى الشعر شعرا ويبقى النثر نثرا. وإن كنت لا أرى فضلا لأحدهما على الآخر إلا بجودة الصنعة ودقة الإبداع. وفي كلٍّ. متى تعهده خبير من الدهشة والإبداع ما فيه لكن يبقى هذا شعرا ويبقى هذا نثرا ولا خير في ذوبانهما في كأس واحدة تفسد مذاقهما معا.
وأما عن الضوابط الموضوعية؛ فكما قلت آنفا ما كان منها فاسدا، فالخير في طرحه، وما كان منها صالحا فالخير في أخذه مع الأخذ في الاعتبار أنه يتسامح فيه مع الأدب ما لا يتسامح فيه مع غيره وأما إلغاء الضوابط بالكلية؛ فهذا ما لا يطمئن إليه المنصفون ولا شيء في الدنيا يسير بلا ضوابط إلا عشوائية الأشياء أما إن كانت الحداثة تدعونا إلى التجديد في الموضوعات والأغراض الشعرية، واللغة الأدبية للنص بما يتفق مع متطلبات العصر ودواعيه؛ فنعم ثم نعم ونعم، وهي بهذه المعنى دعوة جديدة قديمة، وهل كان الشعراء الجاهليون يعبرون عن غير بيئتهم فجاء شعرهم يعبر عن واقعهم اليومي، وظرفهم المعاش. ولما تغير الحال في العصر الأموي والعباسي ألقى ذلك على الشعر بظلال نعم علينا أن نعبر عن أنفسنا وعصرنا؛ فالشاعر رسول عصره، وابن بيئته، ولكن حذار!! لا يعني هذا أن أرى المجتمع ينزلق إلى الأسفل فأنزلق معه، وأقول أنا ابن بيئتي، كذبت، لو كنت ابنها حقا لنفضت عنها ما لحق بها من غبار الزمن. نعم الشاعر ابن عصره؛ لا يتعالى على مجتمعه، ولا ينظر إليه من فوق السحاب، ولكنه أيضا – وانطلاقا من مسئوليته تجاه عصره ومجتمعه – إذا رآه ينزلق إلى الأسفل أخذ بيده وصعد معه، خطوة خطوة نحو سماء الإبداع. هذه رسالتنا، وهذه قضيتنا، ويوما عنها ستسألون.
(4) رزح الشعراء العرب في العقود الثلاثة الأخير تحت نير العديد من المتغيرّات السياسية والاجتماعية محاطين بسياج اقتصادي شائك مما خلّف آثارًا خطيرةً على الإبداع.. كيف يمكننا الانفلات من هذه الأزمة والخروج بأقل كلفة من الخسائر؟
المعوقات الثلاث؛ أما عن المعوقات السياسية فالحل معها في أدب الرمز الشاعر الحقيقي لن يعدم وسيلة لقول ما يريد فإن أتيح له جأر به وإلا التف حول المقصود وأتى إلى هدفه من باب خفي وحمل شعره من الرسائل المشفرة ما قد يكون أنكأ للجرح وأبلغ في الأثر وهنا تظهر المقدرة الحقيقة للشاعر فالكل يملك أن يصرح بما يريد فقط النابهون من يلمحون إلى مرادهم لمحا فيفهم السامع دون أن يملك المعني بالأمر الرجوع عليهم بالاحتجاج هذا عن معوقات السياسة.
أما القيود الإجتماعية فهذه تحتاج إلى إعادة النظر مرة بعد أخرى؛ لأن من هذه القيود ما هو جدير بالاحترام ولا خير للشاعر في هدمه ومنها ما هو جدير بالهدم ولا خير للشاعر في مهادنته ومنها ما يحتاج إلى الإصلاح إما دفعة واحدة وإما شيئا فشيئا ومنها ما يحتاج إلى المراوغة والالتفاف حوله تجنبا للصدمات المباشرة وفي كل ذلك يحتاج الشاعر إلى إعادة النظر مرة بعد أخرى حتى يرتدي لكل شيء ما يناسبه.
(5) ما أبرز ملامح قصيدتك الشعرية دونما التَّماس مع تجربة جيلك الإبداعي؟ وكيف يتحقق الشاعر في ظل تداخل السياسي الإقصائي مع الإبداعي الديموقراطي وتجاذبات الشللية المقيتة التي تستقطب أنصاف المبدعين والمتعلمين؟
الشللية وأنصاف المبدعين هي كارثة الإبداع في العصر الحاضر حتى صار الأدب صناعة من لا صناعة له وزاد الطين بلة أن وجدت هذه التجارة الكاسدة ما ساعدها على الرواج من مجاملات تنتفخ منها وسائل التواصل الاجتماعي ومنجزات وهمية يحققها أمثال هؤلاء عبر ذات هذه الأدوات ولكن الأخطر من ذلك الشللية على أرض الواقع بحيث لم تعد المجاملات قاصرة على بوست هنا وتعليق هناك ولكنها تعدت ذلك إلى الندوات والسهرات الأدبية، وأخشى أن يتجاوز الأمر ذلك حتى يصل إلى أقلام النقاد ودوائر صنع القرار في المؤسسات الثقافية محليا ودوليا. وهنا يأتي دور المخلصين من مثقفي هذه الأمة بأن يكشفوا اللثام عن حقيقة الأمر فيسلطوا الضوء على ما يستحق الصدارة ويسدلوا الستار على ما يستحق النسيان.
(6) لم يعد الشعر العربي يطرح أسئلة وجودية.. ما السبب؟ ولماذا صارت صارت “أسئلة الشعر حائرة بين منجزه التراثي، ووظيفته الاجتماعية والحياتية، وبين طارئ خلخل قواعد التعاطي الشعري العربي، بانفتاحه على التجديد والتطور الشعري” وفق تعبير عثمان حسن.
||| وظيفة الشعر؛ ما هي وظيفة الشع؟ ما هو دوره المأمول في إثراء الثقافية العربية التي هي جزء من ثقافة إنسانية كبرى.. حقيقة لا أستطيع أن أحصر دور الشعر في زاوية واحدة.. الأسئلة الوجودية الضاربة بجذورها في عمق الفلسفة؛ هي ركن أصيل من أركان النص المبدع، ولكنها أيضا ليست كل اهتماماته وقضاياه.. الشاعر يعيش بين الناس؛ يشعر مثلهم ويفكر مثلهم، وينهض ويعثر ويخور فطبيعي جدا أن يعبر عن ذلك في شعره، ثم هو يتأثر بالصراعات الفكرية الدائرة من حوله؛ فيحن تارة إلى الوراء، ويثب تارة نحو المستقبل، وهو في كل ذلك يبدع ويمتع ويصول، وغني عن البيان أنني أتحدث هنا عن المبدع الموهوب، المبدع الحقيقي، الذي لم يتشوه بألوان الزيف. – غاية ما في الأمر – أن الفلسفة والأسئلة الوجودية تحتاج إلى بيئة خاصة حتى ينضج ثمرها فهي ترتكز أساسا على إطلاع واسع ومثابرة في إعمال الفكر، وتقليب النظر، واستخلاص النتائج، وكل ذلك يحتاج بداية عقل هادئ وعيش هانئ، ومجتمع أكثر استقرارا.
أما حينما تموج تقلبات الحياة في عقلك وتدور طواحين العيش على جيبك، ويمور المجتمع تماما من حولك؛ فهنا سيجد الشاعر الواقع المعاش أقرب إلى قلمه من أسئلة الوجود. ولكن لا ينبغي الانبطاح أمام ذلك على الشاعر أن يعلم أن رسالته ذات شرائع شتى، وأنها لن تبلغ مجدها المأمول حتى يبذل في ذلك كل ما في جعبته من العرق، ثم إن المثابرة على الإطلاع على علوم وثقافات شتى لن يكون ثمة مناص منها إذا ما عزم الشاعر أن يطلب لإبداعه حد الكمال.
(7) هل من دور ووظيفة للشعر؟ وما أهم ملامح الأزمة التي يعيشها الشعر العربي؟ في ظل غياب المؤسسات التنظيمية؟
||| وظيفة الشعر؛ أظن أنه سبق التعرض لذلك بما يفي بشيء من الغرض.. ||| أزمة الشعر العربي المعاصر الحديث عن تلك الأزمة يستغرق أياما وأقلاما وعقولا شتى؛ لكن باختصار شديد فإن الدائرة الشعرية حتى تكتمل تحتاج إلى عناصر ثلاث: (شاعر – متلقٍ – بيئة مناسبة)، وأزمة الشعر تكمن في عناصره الثلاث. أما الشعراء فيعانون من كل اتجاه؛ من دخلاء على الأدب، يزاحمون بكثرتهم الكاسحة أصحاب القلم النظيف، ثم هم إذا تخلصوا من ذلك. – ولا أظنهم سيفعلون – أغرقتهم حياتهم الخاصة بتسونامي هائل من المشاكل والمتطلبات، وهو ما يؤثر عليهم سلبا؛ إطلاعا وإنتاجا ونشرا. ولعل الكثير منهم ينهزم في أي نقطة من نقاط هذا المسار الطويل، فيؤثر السلامة ويقلع عن الأدب. وأما المتلقي فحاله ليس بأفضل من سابقه بكثير؛ فهو يعيش معه ذات الظروف والمؤثرات، وإذا كان ثمة حافز ما يدفع الشاعر نحو الاستمرار حتى مع قناعته أحيانا بانعدام الجدوى؛ فإن حافزا كهذا يظل بعيدا عن متناول المتلقين. وأخيرا البيئة المناسبة، وأظنها قد صارت الآن مناسبة لأي شيء عدا الشعر.. تخيل كم عدد القنوات والبرامج التي تهتم بكل شيء عدا الأدب بالطبخ والرقص والغناء والرياضة والأخبار والدراما؛ وكل تافه وعظيم، وقارن هذه المساحات الهائلة بتلك الممنوحة للأدب نحن لا نطالب بالحجر على الآخر، ولكن أليس الأدب أولى بذلك وأجدر. ويقال في ذلك ما هو أكثر من ذلك بكثير. إذن ما الحل؟ مرة أخرى، سأعول على المخلصين من مثقفي الأمة، وأقول لهم: اطرحوا كل ذلك خلف أظهركم، وحّدوا جهودكم سوّوا صفوفكم، ثم ليوقد كل منكم شمعة على الطريق الصحيح، حتى لو خفت ضوءها فقد تترك خلفها من الأثر ما يغير وجه العالم، وليس ذلك على الله ببعيد؛ بل إن كل الأمور العظام بدأت بصيحة رجل واحد.
(8) تكاد القطيعة ما بين القارئ والشعر العربي الحديث أن تصبح شاملة.. ما العوامل التي أدت إلى هذه الأزمة؟
القارئ العربي، وبناء على ما سبق – وكما سلف القول – فإن المتلقي؛ هو أحد العناصر الرئيسة في الدائرة الشعرية دوره لا يقل مطلقا عن دور المنتج للنص، وبدونه يصبح الإبداع مجرد رياضة روحية لا تتجاوز دفاتر المبدعين؛ لكن الملاحظ مؤخرا عزوف المتلقي عن القراءة، ليس فقط قراءة الشعر؛ بل القراءة في عمومها ومجملها، عد بذلك إلى ضغوط الحياة:
– ربما.
عد بذلك إلى تحول اهتمامات المواطن العربي من الأدب إلى قبلات أخرى؛ كالدراما والغناء وغيرهما:
– ربما.
عد بذلك إلى ابتعاد بعض المبدعين عن القارئ العادي؛ سواء من حيث موضوع النص، أو لغة النص، أو قنوات توصيل النص إليه:
– ربما.
المهم الآن: أن احتياج المبدع للقارئ، ربما يفوق نوعا ما احتياج القارئ للمبدع، وعليه في سبيل الوصول إليه أن يتجاوز كل العقبات، وأن يقنعه مرة أخرى، بأولويته على قائمة اهتماماته. على المبدع أن يلمس بنصه نبض القارئ العادي، وأن يقرب لغة الأدب إليه دون أن يجنح إلى الترهل أو الإسفاف اللفظي؛ بل عليه أن يختار من صحيح اللغة، وقويم الألفاظ ما يقترب من فهم القارئ، ومفرداته المألوفة، وأن يخطو به رويدا رويدا نحو إثراء معجمه اللغوي، والارتقاء شيئا فشيئا بمستوى الحوار اليومي، والاقتراب به أكثر من اللغة الراقية. على المبدع أن يبحث عن القارئ ويبذل جهده في الوصول إليه؛ لا سيما مع تعدد قنوات التواصل في العصر الحديث بحيث لا يعدم صاحب الغرض وسيلة للوصول إلى غرضه.
(9) كثير من الأصوات تبشر بعودة القصيدة العمودية لتتسيّد المناطق المضيئة في المشهد الشعري العربي.. هل تعتقد أن هذه بشارة أم خسارة في ظل أزمة النمطيّة والتكرار في الرؤية واللغة والصورة والإيقاع التي أصابت قصيدة التفعيلة خاصة، في إطار حركة الشعر العربي المعاصر، منذ ستينيات القرن الماضي، إلى حالة من السأم و”الإرهاق الجمالي”.
||| القصيدة العمودية كانت ولا تزال وستظل سيدة المشهد على ساحة الإبداع العربي، – وهنا – لا نقلل من أهمية ومكانة الأجناس الأدبية الأخرى؛ فأنا شخصيا متصالح مع كل نص مدهش، أيا ما كان الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه، وأرى أن صنوف الأدب يكمل بعضها بعضا، وأن العلاقة بينها يجب أن تقوم على التكامل لا التزايح؛ بحيث يغطي كل لون منها المنطقة الأقدر فيها على الحركة والتأثير من غيره من الألوان الأخرى، ومن جماع ذلك تكتمل لنا الصورة المشرقة للأدب العربي من جميع زواياها غاية الأمر ألا نخلط الأوراق، فندعو التفاح عنبا، وندعو العنب تفاحا، أو نعجنهما معا؛ فنفقد رائحة التفاح، ومزازة العنب، ادعو الأشياء لآبائهم، ذلك أهدى و أقوم.
وعودة إلى النص العمودي. نعم هو سيد الموقف، وسيظل، وعن جدارة واقتدار؛ لا تحدثونا عن النص المانيكان، الذي يشبه الشعر شكلا، ويتخلف عنه روحا وحسا، حدثونا عن الشعر الشعر، ثم حتى هذا الشعر الجاد، لا يكاد يخلو من مذمة ونقيصة؛ فإن البشر بكل إنتاجهم ناقصون، والمبدع يبغي الكمال، ولكنه لا يكاد يصل إليه، وخير له ألا يصل؛ فليس بعد الوصول إلا المفارقة والوداع. أما عن أكثر عيوب النص العمودي ظهورا؛ ألا وهي التكرار، وإعادة تدوير الصور والألفاظ، والمعاني والأخيلة، والارتكان إلى الأغراض التقليدية والمستهلكة، وغير قليل من رتابة الحرس والإيقاع، كل ذلك وأكثر لا يعني أن نتنكر للنص الرائد، ونطالبه بالتوقف عن ريادته، وإنما الأنصف حكما أن نشد على شعراء العمود، أن يلفتوا أنظارهم إلى مثل هذه المنغصات، وأن يقوموا بدورهم المنشود في إثراء النص الرائد، وتخليصه مما علق به من منغصات الإبداع، وهم على ذلك لقادرون. فقط نحتاج أن نطلق العنان لخيالنا و إبداعنا لينمو في الفضاء الطلق بعيدا عن الصوبات والصناديق. فكروا خارج الصناديق المغلقة، واستقيموا يستقم لكم زمام الأمور
(10) هناك فشل للنظريات النقدية الغربية التي تمّ شِتْلُها في البيئة العربية وبتعبير فخري صالح (لا تتجذَّر في الواقع الثقافي وظلت مجرد أيقونات ثقافية نخبوية لا تتصل بحاجات حقيقية للثقافة العربية.. ما تقييمك للمنتج النقدي العربي المشتت بين الأكاديمي والصحفي الانطباعي؟
||| النقد المبدع – هكذا أرى النقد – إبداعا موازيا للنص، وليس مجرد ضيف علي هامشه، أو هكذا يجب على النقد أن يكون، وكثيرا ما قلت: إن الإبداع الأدبي ذو جناحان؛ نص ونقد. فإذا أصاب الخلل أحدهما أغلق أمام الإبداع مجال الطيران، وليس بخفي أن الإشكاليات التي يعاني منها النص ألقت لها على النقد بظلال، فما بين الدخلاء على النقد، والمغرضين فيه – مدحا وذما، والمعرضين عنه زهدا و اقتناعا – هُشِّم النقد بمطارق من حديد. وما أحوج الأدب العربي اليوم لناقد مخلص منصف جاسر خبير، والناقد الخبير وحده هو من يعي تماما؛ أي أداة نقدية يستخدمها، وكيف ومتى ولماذا وأين، فما يصلح لجني الجوز لا يصلح لجني العنب، والثقافة بنت بيئتها، ولعل نصا مقدسا عند بعض الشعوب إذا ما صيغ في غير لغة أهله سقطت عنه كل الهالات المقدسة.
(11) في ظل اتساع حرية التعبير على مواقع الإنترنت، وتحطيم جدار الاحتكار داخل الصحافة الورقية وظهور مصطلحات من قبيل: (المواطن الصحفي)، وشعراء (الفضاء الأزرق)، و(المؤسسات والصحف الإلكترونية)، و(الجوائز وشهادات الدكتوراه الفخرية) التي تتطاير في الفضاء.. ما ملامح مستقبل صناعة النشر.
النشر بين الورق والإنترنت طبعا النشر الورقي تضرر كثيرا، وتراجع كثيرا بسبب الثورة التكنولوجية الحديثة كان لدينا كتبة مهمة في المدينة، وكانت مكدسة بالكتب منذ فترة. طلبت منهم كتابا فلم أجده، فطلبت منهم أن يشتروه لي، وأتحمل كل المصاريف اللازمة لذلك، فكان الرد أنهم توقفوا عن شراء الكتب الجديدة، واكتفوا ببيع الأدوات المكتبية، ورصيد الكتب القديمة المحفوظ في المخازن، ولما سألت عن السبب كان رد صاحب المكتبة: لا أحد يشتري الكتب الآن. يكتفون بتحميلها من الإنترنت.
هذه أزمة إذن على قدر ما هي باب عريض نحو إتاحة الثقافة المجانية لملايين من البشر وفي ذلك خير كثير على قدر ما أضرت بحقوق النشر والطباعة؛ لكن تصوري الخاص أن ذلك لن يقضي على الطباعة الورقية، وإن وجه إليها ضربات موجعة، ولكن تبقى الفرصة قائمة بشكل أو بآخر أمام الإصدارات الورقية لتجد طريقها إلى مكتبات القراء فضلا عن ضرورة التفكير إلى جوار ذلك خارج الصندوق، ومحاولة الإستفادة من آليات الثورة التكنولوجية في هذا الإطار، أما الإعلام البديل، وصوره المختلفة، والتي تتفق جميعا في أنها كيانات رقمية لا وجود لها على أرض الواقع؛ فإن لها دورا مهما على المستوى التثقيفي، والتعليمي والتسويقي أيضا شريطة ألا تجنح، وتتجاوز هذا الدور إلى ما ليس من اختصاصاتها، وإذا كان من المقبول منها إصدار شهادات التقدير والتكريم على سبيل الحافز المعنوي؛ فإن منح شهادات الدكتوراة واعتماد المدربين والمصحيين اللغويين وخلافه ليس من اختصاصها في شيء معها حين تلتزم بدروها المنشود وهو كبير فعلا إن أجادت إدارته، وضدها متى تجاوزت ذلك إلى ما ليس في اختصاصها من شيء.