من رينيه غينون إلى عبد الواحد يحي، رحلة فلسفية نحو عظمة الإسلام

منتصر لوكيلي | المغرب

كتبت هذا المقال منذ أيام، عقب إتمام قراءتي لكتاب الفيلسوف عبد الواحد يحي: أزمة العالم الحديث، وهي القراءة الثانية بعد أن انمحى كل ما قرأته منذ أزيد من عشرين سنة عن ذاكرتي… كنت سمعت عن ريني غينون أول مرة في تسعينيات القرن الماضي من أحد أساتذتي، فاحتفظت باسمه ولم أعثر على كتبه، وفي سنة 2000، وقع بصري عليه في إحدى مكتبات الجزائر فاقتنيته، وقرأته، وشق علي فهم مضامينه… وما زلت أتحين الفرص لقراءة كتبه الأخرى، ومقالاته – لا سيما تلك التي كتبها أصلا باللغة العربية- فالرجل غاص عميقا في فهم باطن الثقافات الشرقية، لكني تركت هذا المشروع إلى حين وانشغلت عنه .. ولم أكن أفكر في كتابة هذه السطور لولا أن نبهني أحد الأصدقاء إلى مقالين أخيرين كتبتهما عن خرافة إسلام الشاعر الفرنسي فيكتور هوغو واعتناق الأب محمد بن عبد الجليل للمسيحية، إذ ثار نقاش بيننا حول الحضارة الغربية ومعينها المسيحي وتفوقها، وبدا الأمر وكأننا مسلوبو القوى، وليس لحضارتنا العربية الإسلامية إلا أن تستسلم لهذا الجبروت ولا لمثقفينا إلا الانصياع لهذه السيول الجارفة القادمة من الشمال… حينئذ تذكرت عبد الواحد يحي أو رينيه غينون والكتاب الذي قرأته منذ أزيد من عشرين سنة، فعدت أدراجي إلى: أزمة العصر الحديث، واندهشت لمدى بعد نظر الرجل وشجاعته في البوح باستنتاجات لا يجرؤ عليها إلا من لا يخاف في الحق لومة لائم. فمن هو هذا الرجل؟ وما قصة رحلته نحو الإسلام وما هي مضامين كتبه التي جعلت بني جلدته “يصنفونه” ضمن المفكرين “الخارجين عن التصنيف” inclassable.


ولد ريني غنون في مدينة بلوا الفرنسية الواقعة على ضفاف نهر اللوار لأبوين كاثوليكيين سنة 1886 في عائلة أنجوفية يعيلها الوالد المشتغل بالعمارة والبناء، وتغدق الوالدة والخالة عليه من فيض حنانهما الكثير لاسيما وأنه كان ذا صحة متدهورة، لكن الصبي أبان عن تفوق في الدراسة جعله محط إعجاب الجميع فانتقل إلى باريس في عام 1904 حيث درس فيها الرياضيات والفلسفة وقد كان طالبا ممتازا، خاصة في الرياضيات.. ولم يكن من المستغرب أن يحصل على جائزة المباراة الأولى التي تنظمها فرنسا لثانوياتها منذ 1747. ويبدو أن الشاب اليافع لم يفرق بين علوم وآداب، فاندفع يلتهم كل ما يجد في طريقه، سواء كانت رياضيات أو فلسفة أو آدابا، وكأنها رحلة بحث عن الحقيقة في المعرفة، ولات حين مناص، فالزخم الذي اصطدم به الشاب في باريس دفعه إلى طرق العديد من الأبواب، ففي عام 1906م كان يدلف المدرسة الحرة للدراسات الغيبية ليابوس، ثم انتقل إلى منظمات أخرى كالمارتينية والماسونية، وفي عام 1908م انضم إلى المحفل الماسوني الكبير في فرنسا، ثم انضم إلى الكنيسة الغنوصية التي لا تؤمن بتجسّد الله عز وجل في صورة بشر، وفي نفس هذه الفترة التقى العديد من الشخصيات التي سمحت له بتعميق معرفته بمذهب الطاوية الصيني وبالإسلام، وقد نشر العديد من المقالات حول التصوف الإسلامي في مجلة النادي التي رأس تحريرها صديقه الرسام جان جوستاف أجلي ليصل رينيه بعد استفاضة واسعة في دراسة الديانات إلى اعتناق الإسلام عام 1911 أو 1912.
بعد ذلك، وفي 1915 حصل غينون على شهادة الإجازة في الآداب (شعبة الفلسفة) من جامعة السوربون الباريسية ثم أتبعها بدبلوم الدراسات العليا، وفي عام 1917 عُيِّن أستاذًا للفلسفة في مدينة سطيف الجزائرية فقضى فيها ردحا قبل أن يعود إلى مدينة بلوا الفرنسية، ولكن المقام لم يطب له فقد شب عن الطوق ولم تعد مراتع الصبا توفر له الفضاء الذي يبحث عنه، فغادرها إلى باريس من أجل الإعداد لرسالة الدكتوراه حول موضوع “ليبنتز والحساب التفاضلي”، وفي سنة 1921 نشر كتابه “مدخل لدراسة العقائد الهندية”. وتتوالى بعد ذلك كتب ومقالات الفيلسوف في مختلف الجرائد، حتى كانت سنة 1925، حيث شهدت رحاب السوربون محاضرته المرجعية التي لا زالت لم تفقد شيئا من راهنتيها تحت عنوان “الميتافيزيقا الشرقية”، والتي أوضح فيها الفرق بين الشرق والغرب في المجال الغيبي، منطلقا من كون الميتافيزيقا تكاد تكون في الأصل واحدة لا شرقية ولا غربية (وهنا نستحضر النص القرآني : كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ)، مثل الميتافيزيقا مثل الحقيقة الخالصة، وربما اختلف تناولها في الشرق أو الغرب، واختيار ريني كينون لعبارة شرقية يعني به دراسة المجال الغيبي في الشرق نظرا لاستمرارية نفس الحضارات الشرقية في الوقت الذي تبين أن الحضارات الغربية تفتقد هذه الأصول، وهو فقدان تسبب فيه جنوحها إلى المادية. وفي عام 1927م نشر كتابه “ملك العالم” ثم أتبعه بكتاب “أزمة العالم الحديث” الذي يعد دعوة إلى الفهم الصحيح لماهية الإنسان مع النظر إلى الحضارة الغربية نظرة نقدية بوصفها عملاً إنسانيًّا يمكن انتقاده وإبراز مواطن خلله، فهي الحضارة الوحيدة التي خلقت نمطاً من العلم لا يهدف إلا إلى المصلحة المادية، وتكديس الثروة تنكب انكبابا شبه تام على الأهداف الصناعية، أما الفلسفة الغربية الحديثة، فيرى أنها تضع حدودا تعسفية في العلم، ولا ينصب اهتمامها على إلا على بعض التفاصيل التي لا تمس الجوهر.
وقد جر ريني (أو عبد الواحد يحي كما أطلق على نفسه بعد إسلامه) غضب النقد الفلسفي، فالكتابات الفرنسية على الخصوص لا تعتبره فيلسوفا، وإنما باحثا في الغيبيات يعسر تصنيفه. فالتآليف عنه لا تعتبر أعماله فلسفة مكتملة الأركان، أنما مجرد طلاسم أو تدوينات في علم غيب الأرواح يتم نعتها اتفاقا بالميتافيزيقيا. ولعل أحد أبرز وجوه التعارض بين حضارات الروح والمادة هو أن الفلسفات الروحانية الشرقية حتى الوثنية منها فلسفات تأملية، بينما يكاد الغرب ينكر الحدس العقلي، معولا فقط على القناعات الفردية. بأنماطها المتعددة. فتطغى النزعة الفردانية التي طبعت مدنيّة العصر الحديث، وتتجه نحو الفوضى الاجتماعية، وهكذا يستنتج كتاب “أزمة العالم الحديث” إلى أن هذا العالم الحديث مصاب بأزمة عميقة مما ينذر بتحولات عميقة على وشك الحدوث على مختلف المستويات الاجتماعيّة، وكيف لا؟ والحضارات القائمة على أسس مادية ماحقة للأسس الروحانية تقضي على أي قبول للحضارات الأخرى، فالقبول بل والتوافق لا يكون إلا إذا كان مصدره مبدأ علويّا أي من الجهة التي لا تؤمن الحضارات المادية بقوتها بله بوجودها، ويقصد به المصدر الرباني، أما المصدر المادي فمرجعيته “الإنسان” الذي لا يضبط عقله معيار مطلق.. وهذه إحدى سمات العالم الحديث.
وما زاد الطين بلة في الحضارات الغربية المادية هو مفهوم الزمن، والذي تم الإجماع على كونه زمنا موصوفا بالحركة المستمرة والسرعة الفائقة، والتيه في اللامتناهيات، فالفلسفة تبتعد عن الكليات وتتجه إلى التفكيك ثم تفكيك التفكيك وهكذا دواليك حتى يتفكك النشاط الإنساني ، وهذه هي العواقب الطبيعية للنزعة المادية المطردة، لأن المادة في الأساس تقاس بالكمّ والكثرة، وتفتقر إلى معايير أكثر رسوخا. ، وهكذا يستنج عب\ الواحد غينون أن الغرب أحوج ما يكون إلى الدفاع عن نفسه ضد نفسه وضد نزعاته الخاصة التي ستجره إلى الخراب والانحطاط الحضاري والروحي ى سيما وأن وإعلاء العقل على كل شيء أدى إلى الحرص على الاستبدال، فاستبدلت المنفعة بالحقيقة، وهذا هو جوهر الفلسفة النفعية أو البراغماتيّة، فلا يستغرَب أن يحكم الأدنى الأعلى، وأن يفرض الجهلُ حدوداً على الحكمة، وأن يتقدّم الخطأ على الحقيقة، وأن يحلّ الإنساني محل الإلهي، وأن يصنع البشرُ مقاييس متحركة خاصة به ويملونها على الكون على الرغم من أنهم يستمدونها من عقلهم الخطّاء. وكل هذا أدى إلى إنتاج الفوضى في صلب الحضارة الغربية، فالطبقات المتمايزة فيها انقرضت تحت شعار يروّج لمبدأ “المساواة”، وبناء على هذا المبدأ بات كثير من الناس يشغلون أماكن ليست ملائمة لهم أصلاً… ولكنهم وضعوا فيها تحقيقاً للمساواة في النتيجة. علما أن مبدأ المساواة لا يمكن أن يتحقق في أي مكان لتعذر وجود كائنين متمايزين ومتشابهين في الوقت نفسه.. إن اجتياح أفكار الحضارة الغربية للعالم -برأي فيلسوفنا عبد الواحد غينون- ليس أمراً نهائيّاً، فهي مجرد فوضى في مسار التاريخ، سببها محاولة الغرب اختراق العالم برؤاه هذه ومحاولته أن يجر البشرية جمعاء معه في سقوطه، إلا أن هذا لن يتحقق ما دام الإسلام يقدّم هديَه للناس في وجه روح العالم الحديث “الشيطانية”.
في ثلاثينيات القرن الماضي، شد عبد الواحد يحي رحاله إلى القاهرة، فعاش فيها مسلما منتسبا إلى الطريقة الشاذلية، وكتب باللغة العربية، وعاش حياة متقشفة بسيطة، وصادق شيخا صوفيا اسمه محمد إبراهيم في القاهرة، وتزوج ابنته في فأنجبت له من الأبناء أربعة، ثم توفي في القاهرة يوم 7 يناير 1951 بعد أن كانت «الله» آخر كلمة نطق بها…
لقد كانت رحلة غينون إلى القاهرة بمثابة إعلان استقلال عن الأكاديميات الغربية التي كان يهمها أن يتحول فكره الاستشراقي نحو ما تصبو إليه، أي أن يعرض الشرق بمرجعية الاستشراق الغربي، كما فعل ماسينيون، حيث يفرض على الشرق أن يكون في مقام المريد أمام العلماء من الغرب. وهي تلمذة قهرية، سببها السياسة الاستعمارية القائمة منذ حملة نابليون على مصر، فكيف ستسمح هذه السياسة للنزعة المعرفية الإسلامية بالمجادلة فلسفياً؟ واليوم، ونحن نتذكر هذا الفيلسوف المتميز الذي قادته رحلة البحث عن الحقيقة إلى اعتناق الإسلام، فإن شعورا يختلط فيه الأسف بالفخر يدفعنا إلى التفكر في عظمة الدين الإسلامي، وقدرته على أن يخلص العالم الحديث من خيوط العنكبوت التي أوقعه الغرب فيه، وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى