المرأة بين ثقافين (2)

محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري
فأي امراة لا تنشد طريق السعادة الأبدية وقد فطرت نفوس البشر عليها، والأنثى أحرص ما يكون على ذلك؛ لكن قد يخطئ البعض الطريق والبعض قد يصيب، فالذين يعلقون سعادتهم على عطاءات مخصوصة، ومنح حياتية متعينة هم من يبذلون طاقات نفوسهم “إثر كل قبيح وجهه حسن”، فيتحملون من عنت الحياة وملاقاتها ما لا يطيقون، فالحياة لا تبذل منحها لمخلوق كما يريد إنما هي مجبولة على المنح والمنع، والبذل والشح، والتبسط والانطواء.
ومن الخطأ تعلق النفوس بأسباب معينة إن وجدت، وجدت معها السعادة وإن غابت غابت، لكن الملهمين فقط هم يسلكون كما يسلك ماء النهر، ويميلون كيف يميل بين الفيافي والصخور والوهاد والوديان، كلما عرضت له صخرة، أو اعترضته كدية مال عنها إلى طريق غيرها.. وهكذا حتى يكمل النهر مساره ويصل هدفه، ويحقق بغيته.
فهل تتعلم نفس الأنثى من الطبيعة وهي جزء لا ينفك منها، وهل تجيد قراءة الجمال من حولها لتحسن التلبس به، وهي لاشك بعضه وصانعة أكثره، وهل تنساب مع تفاصيل الكون وتلهم إشراقاته وبراءاته ومناجاته التي يبثها بين أرجائه صباح مساء، في الإصباح والإشراق، وسكون الليل ، ومناجاة القمر، وأنس النجوم، وغدو الطير ورواحه، وحفيف الأشجار وبرد الشتاء ولطف الربيع ، وإزهار الخريف؟!
ظلت المرأة زمنا ليس بالقصير في الأدب العربي حاكمة سيدة لهذه المملكة، متربعة على عروشها، ثم جاءها الإسلام فأغدق عليها من العطايا والهبات مالم يكن لها إليه سبيل، فحولها من متاع وجمال ومعشوقة متغزلة، وأنثى ذات دلال وجمال، إلى صاحبة البيت والسكن، وحظية المودة والرحمة.. فجعل عماد البيت عليها، بل نسب البيت إليها، فقال” وقرن في بيوتكن”، وقال ” واذكرن ما يتلى في بيوتكن” .. والغريب أن هذا الخطاب الذي ينسب إليهن فيه ملك البيت، كان حال قيامهن في بيت سيد البشرية محمد صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم يقل “في بيت النبي” ولكن قال “في بيوتكن”.. ثم أكد على هذه الأحقية ثانيا فقال” واتقوا الله لا تخرجوهن من بيوتهن”!!
فهل صنعت ثقافة سابقة مثل هذا؟ نسب إليها هذا البيت وأوعز إليها القيام به، وبأهله، ثم يأتي من يهون من شأن البيت، ويحقر أنثاه القائمة عليه.. وهو مفرخ الأبطال ومنبت الأجيال، ومصنع المجتمع، واللبنة الأولى له، وكنف الرجال؛ وتحت عريشه يربى العظماء والكبراء والنجباء والعلماء!! وبين جدرانه يصنع المجتمع على عين إما بسعادة وإما بشقاء.
فماذا كانت تنشد المرأة قبل حضارة الإسلام؟ العلم؟، فها هن نساء النبي صلى الله عليه وسلم قد صرن أمهات المؤمنين وحملة العلم سنينا بعد موته، ولا يزال التاريخ يحفظ علمهن الذي انتفع به وإلى قيام الساعة.. أم البطولة؟!! فهؤلاء نساء الصحابة والصحابيات اللاتي خضن الحروب مع النبي ص وكن ردءا له من السهام والسيوف، ولم يدانيهن في شجاعتهن كثير من الرجال ممن أتوا بعد زمانهن.. بل ركبن البحر إلى القسطنطينية جهادا في سبيل الله !!
أم الاستقرار؟، فها هو قد جعل قرارها في بيتها وحسن تبعلها لزوجها يعدل أجر الجهاد والحج والعمرة والصدقة؛ وفي الحديث “يعدل ذلك كله”، أم أرادت المرأة التجارة والذمة المستقلة، فقد جعل لها الذمة المالية بعيدا عن زوجها وخصص لها نصيبها من الميراث ما يزيد عن الرجل أو يقل أو يعدل، وجعل لها الوصية في مالها بما تريد دون وصاية من أحد” من بعد وصية يوصين بها أو دين”، أم حسن الصحبة، فقد أوصى بها الولي والزوج والابن والأخ من حسن الصحبة مع التأكيد والوعيد والتهديد لمن يخالف ذلك أو يحيد عنه.
هذا البيت الذي لم تستطع الحضارة الغربية الزائفة أن تقوم بحقه، ولا أن توفيه قدره.. حين عجزت فأهملت وأهدرت فأخرجت المرأة من حصنها، وشوهت على إثرها صورة الأجيال القادمة ، فأخرجت المخنث والمعقد والمنحرف جنسيا ونفسيا وعقديا، ودعاة الحروب ، ومرضى النفوس، والمتوحدون والمشوهون خلقيا وخلقيا، ومغيروا الفطرة الربانية والمعتدون على الحرمات الاجتماعية والأخلاقية والعقدية .
ثم خرجت المرأة تنشد سعادتها في الحياة غير المأتلفة، المشوهة والمزينة بزينة الشيطان، فصارت النجمة السينيمائية ، والمعشوقة، والمبذولة، والمانيكان، وعارضة الأزياء، والجنس والإغراء، والتسويق والإعلان والحب والغرام .. ولم يغن عنها ذلك من السعادة شيئا إذ كان كل ذلك محض زيف، وقناع كذب، وخداع شياطين الإنسن والجن، ووهم سراب لا ينفك أن يزول فلا تجد بجوارها الرجل الغيور ولا الأب الحريص، ولا الابن البار، ولا الأخ الحميم ، ولا المجمتع الرحيم الذي يقدر رسالتها حق قدرها، ويعظم ما قدمت إما من خلال ثمرة البيت في الزوج والولد، وإما من ثمرة العمل الهادف والأثر الباقي.
لم تجد المرأة الغربية في حضارتها المدعاة بعد ذهاب زهرتها، وأفول نجمتها، لم تجد إلا بيوت العجزة والموت البطيء، والأمراض النفسية (الزهايمر والاكتئاب والانفصام والذهان)، ولم تغن عنها النجومية ولا البطولة ولا أدوار الإغراء شيئا حين أخذ الزمان من مفاتنها كل جميل، وأرخى عليها ثقله فلم يبق منها إلا غلالة في الكأس، أو بقايا أنفاس تخرج وتدخل، أو عظام واهنة وشعر مشيب.. وهاؤم نجمات السينما العالمية حين دار عليهن الزمان وجار.
ترى ماذا قدمت رائدات الحداثة العربية لمجتمعاتهن؟ إلا هذه الصورة الممزقة المشوهة، خليطمن صفات الرجولة والأنوثة، فلا هي استطاعت أن تبقى أنثى على حالها، ولا استطاعت أن تبز الرجل في عمله وقوته وجلده فيما هو ممكن فيه.. وجاءت حركات التحرر النسوي لتنقض عماد هذا المجتمع وتخويه على عروشة .. لكن رغم ما غيرت وبدلت إلا أن اعتصام المجتمع الذاتي بقيمة قد حال دون كثير من ورادات التجريف والتغيير.. ولا يزال الصراع محتدما بين الجديد والقديم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى