بورتريه: وداد أبوشنب.. رحلة في “هشيم العالم الأزرق”
منال رضوان | إعلامية وأديبة مصرية
ولدت الشاعرة والناقدة والقاصة وداد أبو شنب في الجزائر لأب فلسطيني وأم تنحدر من أصول أمازيغية، وداد التي تكتب بمداد القلب على صفحات الروح، فتنساب كلماتها دافئة طازجة كاملة الاختمار، وكأنها تذكرنا برائحة الخبز الذي عدنا لنتشمم عبيره الممزوج برائحة الشتاء، فنستشعر الدفء، وتدب الحياة في أوصالنا بلمسات أرغفة الحانيات من قديسات ترانيم البوح اللائي صنعن أرغفتهن من طحين ودموع.
رضعت وداد معاني الحرية من الجبال الشامخة، وتعلمت اللغة العربية وأولى أبيات الشعر لمحمود درويش من أبيها، وكلما ولّت وجهها شطر عثرات الحياة، تفتحت قريحتها على نص شعري أو نثري، درست النقد ومارسته عشقا وهواية واحترافا، وما بين غربة واغتراب صقلت موهبتها الإبداعية، فعلا صوت الأنين في قصيدها كما في نثرياتها، إلا أن رؤاها كانت دوما تصاعدية وتفاؤلية.
أنهت دراستها إلى ما بعد الماجستير في الجزائر، حيث عملت مدرسة في المدرسة الأساسية وفي جامعة مولود معمري، ثم انتقلت إلى الأردن فعملت مدرسة في جامعة فيلادلفيا، اشتغلت في مجال الترجمة بثلاث لغات، واشتغلت في ضبط المحتوى والمراجعات اللغوية. شاركت في ندوات عديدة، وأدارت أمسيات ومهرجانات متنوعة في الأردن وعلى منصات الأولاين. ناقدة وأديبة لديها أربعة إصدارات: هواجس ورد، وهشيم العالم الأزرق وترنيمات على هامش الحياة، وإيفا، ولديها عدة إصدارات قيد التنقيح ورواية قيد الإنجاز.
وعن “هشيم العالم الأزرق” فهي مجموعة قصصية لليافعين صادرة عن دار فضاءات للنشر والتوزيع، وبين دفتيها خمس قصص طويلة أقرب إلى جنس النوفيلا، تتناول فيها مشاكل الفيسبوك كعالم افتراضي فيه الجيد والرديء حيث كل وحظه، وفيه من الاحتيال والنصب ما يفوق وجودهما في الواقع. كما جاءت فكرة حوسبة المشاعر والأثر السلبي الذي تتركه في الإنسان فأجادت وداد التعبير عنها والولوج إلى مشاعر أولادنا في هذه السن التي يصعب فيها النفاذية إلى عقول اليافعين، فجاءت كتابتها بعيدة عن المباشرة ولهجة النصح التي قد يعزف الصغار عنها؛ نظرًا لما يعرف بنظرية رفض الأب التي تتسم بها هذه المرحلة شديدة الحساسية في عمر الإنسان.ومن نصوص وداد أبو شنب نقرأ هذا النثري:
أزرق:
لا أدري لماذا جال في خاطري هذا المساء الطيف الأزرق، وأعادني ألف بعد كوني من الحنين، إلى نقطة البداية، إن كانت هناك فعلا نقطة بداية، أنا منذ جنوني الأول وأنا على اقتناع وإدراك أن الكون هلام أميبي الشكل، لا يثبت على مظهر، ولا على شكل ولا على لون، لكنني منذ انبثاقي عنه وأنا أتشظى وأتجمع بين درجات الأزرق الصافي، ورحم أمي ذلك المهبط الاضطراري الذي ولجت إليه لأتلعثم ساعة الولادة وأتردد كثيرا في أن أكون ديسمبرية تضع قرار النهايات لبداية أخرى، أو ينايرية أرسم وعد البداية لعام يحلم بالخير الكثير، وما بينهما، تحرقصت أمي على اعتباري بكرها وقررت أن تنجبني قبل الدخول في شهرها التاسع.. ومنذ ذلك اليوم أصبحت أتواجد في أماكن ليست لي، وأحارب وحوشا ليست لي بها أدنى صلة، وأتكور على ألم لأحدهم ليس مني وليس لي به أدنى علاقة..
عانقني الأزرق الصافي منذ الميلاد، وبدأ إدراكي به يتبلور عند أولى الانتفاضات المتعلقة بالوضع المجتمعي الذي يعلي الذكر الأزرق ويقصي الأنثى الوردية، ولما كنت البكر، قررت عصف الألوان ومعانيها: لا أريد التنورة الوردية، أريد الزرقاء، وكانت ماما وقتئذ لا تقتني لنا من الثياب -لي ولأختي- إلا الأزرق (babyblue) والوردي ((rose-pink ، ورويدا رويدا أصبحت أتمرد على ألعاب أخوتي الذكور، وأركز على الألعاب التي لا لون ولا جنس لها، فمنذ نعومة أظفاري وأنا شغوفة بالبازل والليغو والسكرابل وألعاب التركيب والتفكيك، وبدأت عمليا على هذه الأرض عملية إحلال الأزرق وإزاحة بقية الألوان.
ذات ثقافة، اصطحبنا خالي (ربما كان خالي فعلا، أو ماما، لم أعد أذكر جيدا) اصطحبنا أختي وأنا إلى السينما، وكان أول فيلم حضرته بعنوان البرتقالة الزرقاء l’orange blue، وكانت أول مسرحية قرأتها باللغة الفرنسية بعد مسرحيات موليير، مسرحية الطائر الأزرق لموريس ماترلينك، ولم أفهم منها إلا الشيء القليل ولم أعد إليها، لا أدري لماذا لم أعد إليها!!
في مساء عطر جدا بكولونيا حوش صديقتي ليندا، دخل خالها الأنيق الدونجوان، علينا وألقى سلاما أزرق يليق بفتيات العمر المبعثر، وكان عائدا من إسبانيا -فيما أذكر- أو فرنسا، جلس بيننا، وأخذ يحدثنا عن أهمية الشغف في الحياة، وعن أهمية الحياة (إرادة الحياة ومعرفة الحياة) (savoir vivre – vouloir vivre) ، ثم انتقل إلى حقل آخر بعيدا كل البعد عن عالم الفلسفة والمعرفة، حيث طفق يسأل عن أبراجنا، ويضع استراتيجيات لنا، علينا أن نضعها نصب أعيننا، فعرفت أنني من برج الجدي وحجري الأساس هو الزفير، نوع من أنواع الياقوت الأزرق، لكن الياقوت الأحمر أيضا من الأحجار التي تناسبني، قد تكون مصادفة؟ عشقي الأزرق الصافي؟ وحبي للأحمر القاني!!
وفي الجامعة أو ما قبلها، في أيام الثانوية المتمردة، كنت أتشح بالسواد حينا، أو أصطبغ بالأزرق حينا آخر، ولم يكن مفهوم كسر اللون لإظهار جماليته قائما عندي، فقد كنت أصمم على الاصطباغ التام، حتى جاءني من أسماني بزرقاء موبي ديك، والموبي ديك كان أبيض اللون!!
والجدير بالذكر في رحلتي الحياتية الزرقاء، هو أن الحظوظ عندي لا تأتي إلا كالقمر الأزرق، نادرة الحدوث، فارتبط اسمي بالحظ العاثر، ومع ذلك كله، مازلت أبتسم بكل الألوان إلا الأصفر، وأُقبل على الحياة بين موجها وغيمها وسوسنها وكل الزرقة التي تلف الجمال وتسيّره إلى عوالم مختلفة، كأثير يستدرج كل من خطت إحدى قدميه إليه، فأصبغ من زرقة التوت البري منابت الشعر عندي، وألوِّن الحب الأثيري التي يجتاحني ما بين الغصة والغصة، فأغرد على جناح الطير الأزرق ذاته، سيمفونية البقاء على أوتار شيللو أرهقه الحنين.
بالعمق الذي تبتلعني فيه زرقة بحر الحياة، وقت حزني وألمي، وقت انشطار العوالم التي أحيا بها، وباتساع حضن زرقة السماء التي أناجي فيها إلها كبيرا، أتأرجح بأزرق ما أوتيت من قوة وحب، وتبتليني عضات الدهر، فيحاول استدراجي أزرق الناب، أخرق الفكر، أحمق البصيرة، فتنقذني زرقة السماء، فهلاكي ونجاتي لا يعدوان درجات اللون الأزرق، الذي علمني صفته أحد الأصدقاء المؤمنين بعلم الألوان والطاقة، حيث قال: لا أعجب يا بنيتي أن طاقتك زرقاء، وأن هذا اللون شديد الارتباط بك، فكما تقولين أبيض ناصع وأحمر قان وأخضر ناضر… لا تقولين إلا أزرق صاف، وهي صفتك، ذلك الصفاء الذي يلازمك وينبثق عنك دوما، الصفاء والأزرق هما أنت!!
وما زال الأزرق يتجدّد بموجه واتساعه فيغمرني حدّ الكون الذي لفظني إلى هذه النقطة التي أطل عليكم منها. وما زال لأزرق الحديث معكم بقية!!