خطبة الموت
أحمد نسيم برقاوي | شاعر وأكاديمي فلسفيّ
وطل الموت صوتاً بهياً زاهياً ضاحكاً ساخراً
من كل من اعتلى منصات الخطابة
مادحاً راثياً مشتهي الحضور
متوعداً واعداً كاذباً أو صادقاً
طل الموت
واعتلى قبة السماء مخاطباً أهل الأرض فقال:
يا أهل الأرض:
تخافون مني وكأن أجسادكم لم تكن يوماً سكني
وتقلقون وكأنكم لا تدرون بأني مصيركم الأبدي
أحقاً إنكم لا تدرون يا أهل الأرض من أنا
أنا لست إله الموت الذي كتبتموه في أساطيركم
ولا أنا الذي رسمتموه على اللوحات
وعلقتموه على جدران معابدكم
ولست عزرائيل الذي يتسلل إليكم
في الليل أو النهار ليقبض أرواحكم
فما أنتم أرواحاً تسكن أجساداً لأستلها
أنتم الجسد الذي يحيا ويفنى
أنا الذي في داخلكم يحب الحياة
ويخاف من ذاته
أتدرون من أنتم ؟
أنتم أنا وأنا أنتم
أنا الطفل الذي راح يلهو
أنا المراهق الذي عاش انفجار الجسد
أنا النبي الذي بلغ الأربعين
أنا الحكيم الذي ضحك منكم وعليكم
أنا صانع الماضي
كل آثاركم هي حضوري
بل ،أنا مستقبلكم الذي لا مستقبل له.
تفرحون راقصين بالمولود احتفالاً بالحياة
ما من أحد منكم بكى حزنا على المولود
الذي ولد معه الموت
وكبر معه الموت
وشاخ الموت
ومات الموت.
فتندبون وتلبسون السواد
وتذرفون الدمع
وترثون صادقين وكاذبين
احتجاجاً عل موت الموت.
ولست غريباً يعيش في داخلكم
فمن نطفة واحدة ولدنا معاً
وانتم الموت نفسه الذي ينتظر
العودة إلى التراب الذي جلبتم منه
انتم يا من صنعتم السيوف
من أجلي
واكتشفتم النار لتحرقوني
وأعليتم السجون كتماً لأنفاسي
وصنعتم العروش من جماجمي
وأشعلتم بالحروب من عظامي
ونسيتم بأن الدود في انتظاركم،
أنا أنتم يا أهل الأرض
فحين تخافون مني تخافون منكم
أنا قلوبكم التي كفت عن الخفقان
أنا جماجمكم التي خلت من ادمغتكم
أنا أفواهكم الشرهة التي ماعادت تقوى على الإلتهام
أنا أيديكم التي سرقت وقتلت
ونصبت حبل المشنقة ثم تعظمت
انا قضيبكم الذي الذي اغتصب وأحب
وترهل
تكرهوني كرهكم لذاتكم
وخوفاً مني على بقائكم
وتحبوني كرهاً بأعدائكم.
انا انتم
وانا أنتم
يامن تظنون بأنكم نجوتم مني
فيا أيها الغارقون في المستنقعات الآسنة
لا تقربوا من ينابيع الحياة النقية
ابقوا حيث أنتم وانتظروا الجفاف
فالشمس لا تطيق دناسة الأرص
الكائن المتكون من خلطة اشباه
موت لا يتذكره الأموات
انا الموت النبيل أحياناً
تمردت على ذاتي
وقررت أن أبقى معالمَ على هذه الأرض
صرت رسمة على جدار كهف
وثمثالاً في ساحات معبد
ولوحة معلقة على جدار كنسية
ورُقماً يكتب سيرتي
وكتاباً يسكن أرشيف المكتبة
ثم صرت معزوفة لا تبلى
تختزنها ذاكرة من معادن الأرض
وفلماً
وقصيدة
كنت موتاً يحيا ويشعر،
وصرت موتاً من عظام
يا أهل الأرض
أنا أنتم
انا قبوركم التي سخر منها أبو العلاء
أعمى البصر وعبقري البصيرة
بيوت عظامكم
لا تسكنها حياة تنتظر
والأوصاف التي خلعتموها على الموتى
لا تسمعها عظامهم
ألطموا كيف شئتم ومتى شئتم
وموتوا من أجل ما قدستم
واحلموا بالمنكوح والمأكول والمشروب بعد الموت
كما يحلو لكم
ولكن أوصيكم :
لا تستعجلوا حضوري
فلا تَقتلوا
ولا تُقتلوا
طمعاً وهبشاً وفجعاً وحقداً
الطاغية الذي خفتموه وعبدتموه
ومتم من أجله مات
ولن يعود
الأسم الذي قدستموه
ثم ألهتموه
قتل وقاتل
مات ولن يرجع
الأكاليل التي تزينون فيها قبور الأحبة
تسخر من موتها فوق الموت
المال الذي كدستموه لم يعد لكم
البيوت التي شيدتموها
تسكنها أجساد غير أجسادكم
لباس الأموات التي تتزينون بها
تجعلكم أضحوكة على مسرح التاريخ
يا أهل الأرض:
أنا أنتم وأنتم أنا
فأين المفر
على هذه الأرض ولدنا معاً
وعلى هذه الأرض نفنى معاً.