الكتاب نوعان: كتاب تقرؤه وكتاب يقرؤك

محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري
أما الكتاب الذي تقرأه فذاك الذي يطوف بك في عوالم من خارجك، وعقول بعضها ظريف، وبعضها حصيف، وبعصها خفيف.. تقرأ معه عقل صاحبه ونفسه وفكره.. كيف يرى الكون، كيف يحب وكيف يبغض،كيف يحيا وكيف يفكر.. علمه، ثقافته، روحه التي ينفعل بها مع الكون والحياة؟!
أما الكتاب الذي يقرؤك.. فهذا الذي ترى فيه نفسك وكأنه يحدثك عنك، وكأن صاحبه اطلع على ما بك فراح يوصف لك تفاصيلك.. لا تحتاج أن تبحث كثيرا عن الكتاب الذي يقرؤك، فربما صادفك أو صادفته على رفوف أحد المكتبات، أو أهدي إليك من صديق رائع كانت فيه مسحة من روحك فقرأك بين دفتي الكتاب ثم أهداه إليك، أو محب مازجت روحه روحك، فكان عينا لك أخرى ترى بها نفسك، وتستبطن بها دواخلك، وربما علمت به عنك مالم تكن تعلم.
وقد تعجب لكتاب كيف يقرأك ويصفك، أو يصف بعضا منك..!!
ولكن يزول العجب حين تعلم أن الكتاب كما ذكرنا عقل بشري يطوف في أرجاء الكون وجنبات النفس، وما النفس إلا صورة كامنة من عالم الكون، وما الكون إلا عالم منشور من صورة النفس، فاقرأ إن شئت بينهما ودقق النظر، وارجع البصر حائرا بين المكنون والمنشور .. يكن لك فتح ومنح..
وتحسب أنك جرم صغير .. وفيك انطوى العالم الأكبر!!
فما أنت والكاتب الذي شابهك أو شابه بعضك إلا محض إنسان متقلب من طور إلى طور، وقد انتقلت من عالم الذر في علم الغيب والعهد إلى عالم ال(كن) ، وتلك غربة الأرواح التي ذكرها ابن عربي التي فارقت بها الحضرة، حتى وطأت أرض الغيبة ، ثم من عالم كن إلى طور التكون، ثم إلى المهد والطفل، ومن الضعف إلى القوة، ثم إلى الضعف والشيبة.
وأنت بين ذلك كله من الأطوار والأشكال والأمثال، عالم من التكون والتحول، والتصور ، والنفس والعقل، والعلم والجهل، والقدرة والعجز، وأحسن تقويم وأسفل سافلين.
وما الكتاب الذي أشبهك إلا صورة مخطوطة أو بعض من صورة هذه النفس الذي أُلهٍمتَ، فكانت بين الأمارة واللوامة والمطمئنة، فالكتاب انعكاس النفس وتقلبها بين الأحوال والأمثال.. فإذا ما أُلهٍمتْ ملكة اللغة ، ومنة البيان، وروعة التبيان جاء ما ترجم عنها لمحة من عقل صاحبها، ونفحة من روحه، وهاجس من تصوره، وطائف من عالمه العلوي والأرضي.
في رواية: (موت صغير) ل:محمد حسين علوان[حياة الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي]، ورواية: (الجنيد .. ألم المعرفة) ل:عبد الإله عرفه [حياة الإمام الجنيد]، يعيش الكاتب زمنا بين أوراق الشيخ وأحواله، ومقاماته، وتقلباته ، وعلمه، وعمله، وحياته العلمية والفكرية والنفسية، حتى يصل كل منهما إلى ما يشبه التوحد، أو التمثل؛ وكأنه تحول روحي وقلبي وعقلي، وانتقال بالجسد والروح عبر الزمان والمكان.
وكأنه سفر بين حقب تاريخية قد طواها الفكر طيا، وحلق الخيال في أروقتها، وتمثلت النفس عالما غير العالم، وبشرا غير البشر، حتى استطاعت أن تخط من عالم الشيخ الفكري والنفسي ما لا أظنه يبعد كثيرا عن لغته التي استلهمها الكاتب من كثرة مطالعة الأوراق والأحوال.. ومن حالة التمثل والاشتباه التي حلت في الكاتب حتى أجرى بقلمه على لسان الشيخ ما قد تخال أنه إما خاطر طاف بعقله، أو كأنه فقط ترجم ما طوته النفس من علم (ما لا يقال)، فأفصح عن مراد الشيخ في بعض ما لم يرد الإفصاح عنه، إما ضنا بما تقذف به الأحوال في الروع فيطوى عمن لا يطيقه من أهل الفن و الذوق.
وإما ضنا بحال مسه من العشق فٱثر كتمان الطوى، وإحراق الجوى عن أن يصرح باسم من قد هوى ووصفه، فآثر لغة الرمز واعتمد التعريض دون التصريح.. ربما يكون هذا بعض مع حدث مع ابن عربي في حاله مع محبوبته (نظام) بنت شيخه زاهر الأصفهاني، التي لقيها في مكة، والتي كتب لها كثيرا من أشعاره في ديوانه الذي سماه (ترجمان الأشواق)، حتى علم ذياع سره، وانكشاف طيه، وتحدث الناس به بعد وصوله (دمشق)؛ فاضطر أن يخط تأويلا لما كتب من شعر في كتاب “فتح الذخائر والأغلاق في شرح ترجمان الأشواق”.
لكن الكاتب قد حدث على لسان الشيخ ما لا أظنه ورد في كتاباته ولا صرح به، إنما كان محض خيال تراءى للكاتب فكأنه تصور حديثا جرى بين الشيخ وبين نظام.. فيقول في بعض الرواية: “وقالت لي يوما: يا محيي، هب أنك ترجمتني يوما، ماذا ستكتب في سيرتي؟ فاستغرقت ثم قلت: سأقول إنك نظام قرة العين بنت المحدث أبي شجاع زاهر الأصفهاني، ولدت وعاشت في قلب محيي الدين ابن عربي، ولا تموت فيه قط.. عذراء هيفاء تقيد النواظر، وتزين المحاضر، عالمة عابدة سائحة.. ساحرة الطرف، إن أسهبت أتعبت، وإن أوجزت أعجزت، وإن أفصحت أوضحت”.
وفي قصة (الجنيد): يُصرّف الكاتب على لسان الشيخ هذه الكلمات التي استشعرها بقلبه، ولا أظنها كذلك من لغة الشيخ إلا أن حالة التمثل هي التي أوحت إليه بهذه العبارات ذات العلامات والإشارات، فيقول في حوار دار بين الجنيد وبين خاله (السري السقطي):
فقال لي : “لقد كره القوم أن يتجاوز اللسان معقد القلب..فقلت: أيكون لسان بلا قلب؟ قال: كثير.. وأغلب الناس يتحدثون بلا خبرة لما انطوت عليه قلوبهم .. قلت: أفيكون قلب بلا لسان؟ قال : نعم قد يكون.. قلت فما الفرق بينهما؟ قال: لسان بلا قلب بلاء، وقلب بلا لسان نعمة .. فقلت: فلعل حالي هكذا اليوم .. فقال: وإذا كان قلب ولسان فذاك زبد وعسل.. فقلت: لعلك تقصد ذكر اللسان وذكر القلب للمحبوب؟ فقال: نعم .. فقلت صفاء القلوب على حسب صفاء الذكر.. فقال: إن المحبوب يخلص إلى القلوب بقدر ما خلصت القلوب إليه من ذكره، فانظر في قلبك ، هل صفا له أم خالطه أمر آخر؟”.
وهكذا.. تتشاكل الأرواح، وتتواضع النفوس، وتتلاقح الأفكار.. يبين الكاتب عن نفسه في كتابه، ويوصف ويؤصل ويدقق، ثم لا يدري على أي نفس تقع هذه الكتابة، حتى إذا ما لاقت شاكلتها من النفوس باتت كأنها تحدث عنهم وربما تشاهبت الحوادث أو بعضها أو كثيرا أو قليلا بين النفوس وأشباهها، فيصدف القارئ ضالته وبغيته، ويظن أنه وقع على ما في نفسه..وما هو إلا التقارب والتشاكل والتماثل.. ولذا كان الملهمون هم أكثر الناس عناء وشقاء كما قال باسكال”لا شك أن أكثر الضمائر سموا، هي بالضرورة أعمقها شقاء”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى