الروائية التركية إليف شافاق “من السياسة إلى الدين”
عزيز باكوش | إعلامي مغربي
اللوحة للفنانة السورية ديانا عباس
في روايتها الشيقة “قواعد العشق الأربعون” الصادرة عام 2019 في طبعة خاصة بمصر ترجمة خالد الجبيلي في 504 من الصفحات، تنتقل الروائية التركية إليف شافاق من السياسة إلى الدين،ومنهما إلى حقوق المرأة والحب، وهي الموضوعات المثيرة للجدل، والتي خاضت فيها وقدمتها بتقنية روائية يحسدها عليها كبار المؤلفين الروائيين “.
في تقديم جليل ونبيل خص به المؤلفة، يوضح الدكتور محمد الدرويش دوافع اهتمامها بجلال الدين الرومي وشمس التبريزي، معتبرا رائعتها «قواعد العشق الأربعون»تعزيزا لشهرتها الأدبية على نطاق عالمي، ليس بسبب نفاذها من السوق في ظرف قياسي فحسب، حيث بيع منها أكثر من نصف مليون نسخة فور صدور طبعتها الأميركية في أبريل 2010، وطبعتها الإنكليزية عن دار بنغوين للنشر في يونيو من العام نفسه، بل لأن الرواية جاءت تتويجا واستحقاقا وتعبيرا صادقا عن مجمل قراءاتها الأدبية والفكرية من جهة ثانية والصوفية الإسلامية على نحو خاص.
وتكشف المقدمة المستنيرة للدكتور محمد الدرويش عن مرتكز النظرية الفكرية المعاصرة للروائية التركية “إليف شافاق” حيث يتجسد العالم المتعدد الثقافات، وحشا أسطوريا مرعبا، وكابوسا مدمرا لطموحات البشر، حيث تبدو الصراعات المجتمعية، أشد شراسة من الصراعات الدولية، ليس لأن كل طائفة فيه تمحق من يخالفها من بقية المذاهب والطوائف، بقوة السلاح تارة، وبقوة الخرافة والأسطورة والميثولوجيا تارة أخرى،فحسب ،بل لأن الحاضر سيغدو کابوسا مقيتا ومرعبا يخرج الإنسان المعاصر من عصرانیته، ويدفع به إلى ظلامية أشد من ظلامية العصور الوسطى، تجرده من فكره، ومن عقله، ومن عواطفه، وقبل هذا كله من حبه للآخر.”
وعن التأثير العميق للصوفية في نفسية الكاتبة وروحها وعاطفتها تكشف ” عندما كنت أصغر سنا ، لم يكن يهمني أمر العالم ولا فهمه. كل ما فكرت فيه يومئذ هو تغييره بمساعدة ثلاثة عوامل هي “النزعة النسوية، والفكرة العدمية، والحركة البيئية.” لكن، كلما تعمقت في قراءة الصوفية وجدتني جاهلة أكثر من ذي قبل، وهذا ما ترمي إليه الصوفية تماما: إنها تجعلك تمحو ما تعرفه، وما أنت متأكد منه، لتبدأ التفكير من جديد، لتبدأ التفكير من جديد ، ولكن التفكير في هذه المرة ،لا يستند إلى العقل، بل إلى القلب”.
في روايتها “قواعد العشق الأربعون»، التي مزجت فيها بين قراءة الماضي المتجسد في شخصيتي جلال الدين الرومي وشمس التبريزي، وقراءة الحاضر المتمثل في شخصية إيلا؛ ربة البيت الأميركية التي تفتقر إلى الحب بعد عقدين من الزواج بطبيب أسنان منهمك في ملذاته قدر انهماكه في عمله، إن على الصعيد المهني أو الغرامي. ولكن، هل في وسع ربة البيت هذه أن تعوض عن حرمانها الحب بقراءة مخطوطة رواية موازية تتحدث عن زمن شمس التبريزي وجلال الدين الرومي؟ وهل تجد الأحداث المتنقلة بين بغداد والأناضول معوضا عن فراغها الروحي في منزلها في حي نورثهامبتون الراقي؟
وتعتبر مدينتي إسطنبول وأمستردام وبرلين ولندن محور ومركز اكتساب الشخصية الفذة لإيليف ،ثمة أشخاص كانوا مصدر إلهامها في تأليف هذه الرواية، بما قدموه لها من قصص وصمت. وتعتبر نفسها مدينة أيضا ل “بول سلوفاك” على إسهاماته التي لا تعد ولا تحصى، وعلى حكمته الباطنية، فضلا عن اقتراحاته الجوهرية عندما كانت المخطوطة تتنقل بين إسطنبول ونيويورك.”
تكتب الروائية التركية إليف شافاك أعمالها باللغتين التركية والإنكليزية، وتترجمها دور النشر العالمية إلى أكثر ثلاثين لغة، حتى أصبحت كتبها الأكثر مبيعا في الدول الأوروبية. لقد درست الصوفية دراسة مستفيضة وهي في العشرين من عمرها، فتأثرت بها تأثرا كبيرا، لا على صعيد السلوكين السطحي والخارجي، بل على صعيد الفكر والرؤية .وقالت عن الصوفية”
وترى الروائية إليف في التشبث بالماضي عند بعض الإثنيات عقبة كأداء أمام تطور بلدهم، لأن مثل هذا التشبث الأعمى، كما تسميه، يحول دون رؤية الواقع الراهن بما فيه من إيجابيات ومتغيرات. “ولهذا، تجدها تدعو كلا من الأتراك والأرمن إلى نسيان الماضي الموغل في القدم والعادات من أجل بناء عالم جديد تسوده المحبة وروح التفاني وقبول الآخر، فتراها منهمكة منذ زمن غير قصير في قراءة مؤلفات الصوفيين الكبار، الذين تساموا بمفاهيمهم ” وترى في الصوفيين في جميع أرجاء العالم، الذين التقتهم وما زال عليها أن تلتقيهم، والذين ربما يحملون أسماء وجوازات سفر مختلفة، أنهم يتمتعون على الدوام بالقدرة المدهشة نفسها على رؤية الأشياء من وجهتي نظر اثنتين، وجهة نظرهم ووجهة نظر الآخر.
وترتكز رؤيتها الفكرية المعاصرة، إلى حد كبير، على ما هو سیاسي وفلسفي وأدبي واجتماعي، في آن واحد.فوالدها هو الفيلسوف نوری بیلجین، ووالدتها الدبلوماسية شافاك أتايمان، وأخذت أليف اسمها الثاني من اسم والدتها الأول شافاك “الذي يعني بالعربية شفق “. وإذا كان الوالدان قد انفصلا ولها من العمر سنة واحدة لا غير، فإن تربيتها ، بغياب والدها، أثرت فيها تأثيرا كبيرا، أقله على الصعيدين الكتاب والأدبي.”
وأمضت المؤلفة سنوات مراهقتها في مدريد وفيلادلفيا، لكنها ستعود لتسكن مرة أخرى في تركيا، ولاسيما في إسطنبول ،ويبدو أن لمدينة إسطنبول أكبر الأثر في كتاباتها ، بل هي المحور الأساس الذي تدور في فلکه معظم أدبياتها. وهي ترى أن هذه المدينة تساعد المرء على أن يفهم منها غريزيا ، لا عقليا، أن الشرق والغرب ليسا سوى أفكار متخيلة. وقد أوضحت رأيها هذا في مقالة نشرت في مجلة «التايم»، قائلة إن الشرق والغرب ليسا كالماء والنفط ،لأنهما يمتزجان أساسا. ويمتزج الشرق والغرب في مدينة إسطنبول امتزاجا حقيقيا وقويا ومتصلا .”
فقد تنقلت، المؤلفة بين مدن متنوعة الأعراق والأجناس والشعوب، ومتعددة الثقافات والبني الفكرية والأيديولوجية. فولادتها في استراسبورغ بفرنسا ،والطفولة والمراهقة بين عمان ومدريد والمانيا . ثم الولايات المتحدة بعد ذلك. لكن مدرستها الداخلية كانت في ألاباما، وعاشت مدة من الزمن متنقلة بين مدينتين: تاکسون وإسطنبول، وهما مدينتان على طرفي نقيض؛ الأولى أميركية غارقة في هدوئها وسكونها وشدة تنظيمها، وإن كانت الصحراء التي تحيط بها هي التي خلبت لبها ، والثانية تركية لا تعرف طعم الراحة أو الهدوء بملايينها العشرة. فإذا تاقت إلى الصخب والعنفوان ذهبت إلى إسطنبول، وإذا اشتاقت إلى الهدوء والسكينة عادت إلى تاکسون. هي الروائية، نفس بشرية لا تستقر لها حال، ولا يستقر بها مقام، تسعى إلى الجمع بين الضدين قدر ما تستطيع، وإن كانت قد استقرت في العاصمة البريطانية ، لندن، منذ عامين، وكانت ذكرت مرة أنها معجبة بها ،لأن الناس تتحدث في شوارع لندن بما يزيد على ثلاثمئة لغة اليوم، وأن لكل لغة، كما تقول أليف، تعقيداتها ومتاهاتها وإيقاعاتها. وهي سعيدة باكتشافها الإمكانات التي تنطوي عليها كل لغة. والكتابة، بأكثر من لغة، كما هي حالها ، تنطوي على تحديات جمة، لغوية ووجودية ، وعلى الروائي أن يكتشف صوته الأدبي عندما يكتب بلغه ثانية”
وحازت الروائية التركية إيليف شافاك رسالتها عن «التصوف الإسلامي وفهم الزمان فهما دائریا» جائزة قيمة من معهد علماء الاجتماع. وكانت ولا تزال تواصل الكتابة بانتظام في عدد من الصحف والمجلات العالمية،مثل الغارديان» اللندنية و«اللوموند» الفرنسية و«برلینر زایتونغ» الألمانية والنيويورك تايمز» و«وول ستريت جورنال» و«الواشنطن بوست» و«التايم» الأميركية.
في الصفحة 65 من الرواية نقرأ “شاهدت قرى ضربها الفقر، وحقولا سودتها الحرائق، وبلدات سلبت ونهبت وباتت أنهارها حمراء اللون، ولم يعد فيها رجل يزيد عمره على العاشرة في قيد الحياة. ورأيت ما هو أسوأ وما هو أفضل في طبيعة البشر، ولم يعد أي شيء يثير دهشتي بعد اليوم.
بدأت، عندما كنت أعيش تلك التجارب، أؤلف قائمة لم يسبق أن دونها أحد في كتاب ما، بل دونتها في روحي. وقد سميت هذه القائمة القواعد الأساسية لمتصوفي الإسلام الجوالين». وأنا أرى أن هذه القواعد شاملة يمكن الاعتماد عليها، وثابتة مثل قوانين الطبيعة. وتشگل، في مجموعها، القواعد الأربعين لديانة الحب التي يمكن بلوغها بالحب ولا شيء سوى الحب. وتقول إحدى هذه القواعد:
“إن السبيل إلى إدراك الحقيقة عمل من أعمال القلب، وليس العقل. دع قلبك يرشدك أولا، وليس عقلك. إلتق نفسك وتحدها، سطر بالتالي عليها بقلبك. إن معرفتك نفسك ستقودك إلى معرفة الله» .
أولى رواياتها كانت «الصوفي»، التي نالت عنها «جائزة جلال الدين الرومي» في عام 1998، بصفتها أفضل عمل عن الأدب الصوفي في تركيا. أما روايتها الثانية «مرايا المدينة»، فهي عن التصوف الإسلامي والتصوف اليهودي في القرن السابع عشر .وجاءت روايتها الثالثة «نظرة محدقة»، لتنال عنها «جائزة اتحاد الأدباء الأتراك» في عام 2000 صدر لها بعد ذلك رواية «قصر البرغوث» التي أصبحت أفضل الكتب مبيعا في تركيا، وأعقبها کتاب يضم مجموعة من المقالات عن الأدب والثقافةوالجنس والانغلاق الثقافي. وصدر للكاتبة في عام 2004 أول رواية تكتبها بالإنكليزيةبعنوان «قديس الحماقات الأولى»، وجاءت بعد ذلك روايتها الثانية بالإنكليزية بعنوان «القيطة إسطنبول»، التي أصبحت أكثر الكتب مبيعا في تركيا عام 2009، وتسببت بإقامة دعوى قضائية ضدها بتهمة الإساءة إلى القومية التركية،وذلك على لسان إحدى شخصيات الرواية، عند الإشارة إلى موت مئات الآلاف من الأرمن في عام 1910، ووصف ذلك الموت بأنه إبادة جماعية. لكن هيئة القضاء أفرجت عن الكاتبة لعدم كفاية الأدلة ّ.”
على ظهر غلاف الرواية نقرأ “هذا الكتاب”
تمسك قطعة من الحجر بين أصابعك، ترفعها ثم تلقيها في مياه دافقة. قد لا يكون من السهل رؤية ذلك. إذ ستتشكل مويجة على سطح الماء الذي سقط فيه الحجر، ويتناثر رذاذ الماء، لكن ماء النهر المتدفق يكبحها. هذا كل ما في الأمر. ارم حجرا في بحيرة، ولن يكون تأثيرها مرئية فقط، بل سیدوم فترة أطول بكثير. إذ سيعكر الحجر صفو المياه الراكدة، وسيشكل دائرة في البقعة التي سقط فيها، وبلمح البصر، ستتسع تلك الدائرة، وتشكل دائرة إثر دائرة. وسرعان ما تتوسع المويجات التي أحدثها صوت سقوط الحجر حتى تظهر على سطح الماء الذي يشبه المرأة، ولن تتوقف هذه الدائرة وتتلاشى، إلا عندما تبلغ الدوائر الشاطئ. إذا ألقيت حجرا في النهر، فإن النهر سيعتبره مجرد حركة أخرى من الفوضى في مجراه الصاخب المضطرب. لا شيء غير عادي. لا شيء لا يمكن السيطرة عليه. أما إذا سقط الحجر في بحيرة، فلن تعود البحيرة ذاتها مرة”.