التعري النفسي: ماهيته، وأبعاده

إعداد: د. محمد السعيد أبو حلاوة | أستاذ الصحة النفسية المشارك، كلية التربية، جامعة دمنهور

 تصاب المجتمعات بالرعب من فكرة التعري البدني، وتعدها فكرة دالة في نشأتها وتطبيقاتها على انحراف سلوكي عاكس لخلل نفسي في شخصية من يندفع باتجاهه مهما كانت الرسائل المراد نقلها أو التعبير عنها، ومهما كان الغرض منه كتحقيق للذة أو جلبًا لمنفعة، أو تعبيرًا عن احتجاج، ويأتي الرعب المشار إليه في جزء منه على الأقل من الاعتقاد بأن التعري البدني مجاهرة بالسوء وتجارة غير رابحة بالبدن.

إلا أن التعري النفسي في صيغته المستهجنة أكثر تأثيرًا سلبيًا على المجتمعات؛ لكونه يصيبها في أخلاقها ووجودها ومصيرها ونوعية الحياة فيها؛ إذ أنه تجردًا من كل حياء ومن كل اعتزاز بقيم الفضيلة والعفة والحق والخير والجمال.

ويشير مفهوم التعري النفسي من المنظور السلبي في جزء منه إلى الاندفاع هكذا بتلقائية وتبجح تام نحو إطلاق الحرية للذات للتعبير عن رغباتها وبذاءاتها دون وجل أو خوف من عقاب.

كما يرتبط التعري البدني والتعري النفسي في صيغته السلبية بمفهوم الفضيحة ولا تأتي الفضيحة إلا من كل ما هو قبيح مذموم وتستاء النفس السوية من التعبير عنه أو الاقتراب منه.

وبالتالي يأتي تعبير الستر البدني والستر النفسي كتعبير أصيل عن ميل فطري لدى البشر لتجنب الافتضاح، وهنا ينتقل مستوى التناول لتعبير الستر من كونه تعبير لغوي عام يتردد ليل نهار على ألسنتنا إلى اعتباره قيمة أخلاقية تستأهل بكل تأكيد تمكين البشر من التعبير عن مضامينها سلوكيًا؛ وبالتالي تصبح مناطًا للتنشئة والتربية الأخلاقية.

وتحقيقًا لمفهوم الستر البدني تبتكر المجتمعات العديد من الألبسة لتغطية الجسد وإخفاء معالمه المثيرة للفتنة، ويشير ستيفن وليامز Steven J. Williams  (2003) إلى أن طرق تحقيق الستر النفسي وإن كانت معلومة نظريًا مازالت غير فاعلة بالدرجة الكافية لتحصين البشر من الوقوع في نقيضه في ظل عالم الكثير مما فيه يدعو إلى ذلك النقيض.   

ويستخدم مفهوم الحشمة أو الاحتشام في اللغة العربية بمعنى مواز للستر البدني ولا يؤصل هذا المفهوم في سلوكه إلا من هو جدير بكل تقدير واحترام، أما الخروج عن مقتضياته السلوكية فخليق بالاحتقار والازدراء، وهذا أمرٌ مألوف بطبيعة الحال عند تحدث رجل الشارع العادي عن ظاهرة التعري.

ويأتي مفهوم الزهد والاعتدال وضبط النفس والقناعة Temperance في التشريع الإسلامي كطرح مناقض تمامًا للتعري ببعديه البدني والأخلاقي وكإطار عام يمكن بتغليف أبعاده بقيمة الحياء Modesty   التوصل إلى ما يصح تسميته صيغ التحصين النفسي ضد مظاهر التعري النفسي والأخلاقي.  

في المقابل يأتي مفهوم الجدية والالتزام والوقار والصراحة الإيجابية على مستوى التفكير والانفعال والفعل كوضع مناقض للتعري النفسي في صيغته السلبية.

ولا يولى في عالم اليوم الذي يموج بأساليب الحياة ذات التوجهات العَلمانية Secular-based life styles أدنى اعتبار أو تقدير لقيم الطهر والعفة والحياء؛ إذ ينظر إليها كفضائل دينية غير ذات جدوى (Wall, 2013)

والتعري النفسي وفقًا لذلك سلوكًا مشينًا يصل إلى حد العهر Prostitution؛ لاقترابه من حد المتاجرة بالذات تركيبًا ومضمونًا بخلع عباءة الحياء بتحليق تام في فضاء بذاءة القول وفحش الفعل بتخلٍ مخزٍ عن الهوية الأخلاقية وبستر للجسم حياءً وهيبة ممن حولنا؛ وبالتالي جعل الجسد معرضًا تعرض عليه كل أنواع الملابس، وتبقى الروح بلا ستر ولا تحجب.

ويشير محمد عبد الفتاح المهدي (2013) إلى أن الستر الجسدي والنفسي والاجتماعي يعتبر مطلباً حيوياً للنفس السوية, ولذلك نجد الناس في المجتمعات الحضارية تتفنن في الملابس, وتبدى للناس من جسدها ومن نفسها ومن سلوكها فقط  ما ترى أنه مناسب لقيمها الدينية أو الاجتماعية أو الشخصية, أما إزالة الستار تماماً عن الجسد والنفس والسلوك فهو أبعد ما يكون عن التركيبة السوية للنفس البشرية، كما أن التعري ترفضه النفس حتى أثناء الحلم, لذلك يوجد رقيب في الجهاز النفسي يقوم باستبعاد لقطات ومواقف العرى الجسدي والنفسي في الحلم, وإذا حدث وأفلتت بعض هذه اللقطات من الرقيب يحدث حلم القلق أو حلم العقاب وفيهما يضطرب الجهاز النفسي نظرا لخروج دفعات غريزية غير مقننة أو منظمة أو منضبطة, وهكذا يحدث في المجتمع.   

وبالتالي فإن شيوع ظاهرة التعري النفسي في جانبه السلبي بمؤشراته البادية يتناقض مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها للدرجة التي دفعت بعض الكتاب إلى وصف الحال بأننا أصبحنا عراة من لباس التقوى والإيمان والعقل وأن التعري النفسي أزمة العقل المعاصر، يستلزم دراستها  وتبيان مضامينها وصيغها وديناميات تشكيلها بالوضع التي هي عليه.

وتحقيقًا لفهم أعمق لدلالات مفهوم التعري النفسي، يجدر التوقف عند دلالات بعض المفاهيم المرتبطة به والتي يتمثل أبرزها فيما يلي:  

 

– الستر Veil :

يعرف الستر لغة بأنه ” تَغَطية الشَّيء، وهو مَصْدَرُ سَتَر الشَّيء يَسْتُرُه ويَسْتِرُه سَتْرًا وسَتَرًا، أي: غَطَّاهُ أو أخفاهُ. وكلُّ شَيْء سَتَــرْتَه فالشَّيء مَسْتُور، والذي تَسْتُرُه به سِتْرٌ له.
والسِّتْرُ والسُّتْرَةُ والمسْتَرُ والسِّتَارُ والسِّتَارَةُ: ما يُسْتَتَرُ به، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا} (سورة الكهف، الآية: 90).

وقيل السَّتْـرُ هو: إخفاء العيب، وعدم إظهاره، فمن كان معروفًا بالاستقامة، وحصل منه الوقوع في المعصية، نُوصِح وسُتِر عليه.

وتستخدم في اللغة الإنجليزية كلمة Veil تعبيرًا عن معنى الستر والإخفاء، ويعنى بها حرفيًا قطعة من القماش يستر بها بعض من الرأس أو الوجه أو أي شيء له قيمة وأهمية خاصة المرأة والأشياء ذات الطبيعة المقدسة.

والستر من الوجهة الدينية فعلاً سلوكيًا ظاهريًا يعبر به عن الاعتزاز بشيء ما بحجبه وجعله غير مشاع للجميع ومن هنا يفهم مضمون كلمة “الحجاب” بالنسبة للمرأة، وأفاد (Murphy, 1964; Brenner, 1996)  أن الوظائف الثقافية الاجتماعية والنفسية للستر بالدلالة السابقة لم تدرس بصورة مرضية إلى الآن.

ويمكن فهم طبيعة العلاقة بين التعري النفسي في تناقضه مع مفهوم الستر كما يؤخذ به في الدراسة الحالية من خلال التوقف عند دلالات قول الله تبارك وتعالى ” إن الله لا يحب الجهر بالسوء من القول” (سورة النساء، الآية: 148)

 

– العفة Chastity:  

العفة لغة مصدر عفَّ يقال: عَفَّ عن الحرام يعِفُّ عِفَّةً وعَفًّا وعَفَافَةً أي: كفَّ، فهو عَفٌّ وعَفِيفٌ والمرأة عَفَّةٌ وعَفِيفَةٌ وأعَفَّهُ الله، واسْتَعَفَّ عن المسألة أي: عفَّ، وتَعَفَّفَ: تكلف العِفَّةَ. والعِفة الكَفُّ عما لا يَحِلُّ ويَجْمُل، والاسْتِعْفاف طلَبُ العَفافِ (ابن منظور،المجلد 9، ص: 253)، وهي حالة نفسية للشخص متوسطة بين الفجور الذي هو إفراط هذه القوة، والخمود الذي هو تفريطها، فالعفيف من يباشر الأمور على وفق الشرع والمروءة (الجرجاني، التعريفات، ص: 151).

وتعني العفة بهذا المعنى الابتعاد عن كل بذيء مذموم والكف عنه، وتحصل عفة النفس بتزكيتها وتطهيرها من الرذائل وفقًا لقول الحق تبارك وتعالى {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى  &وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} (سورة الأعلى، الآيتين: 14-15).

ويورد (ابن فارس) في مقاييس اللغة معنى آخرًا للعفة من الوجهة اللغوية؛ إذ يشير إلى أن أصل كلمة العفة تتكون من العين والفاء صحيحان، ويرجعان إلى أصلين صحيحين، الأول : الكف عن القبيح، والثاني الدال على قلة الشيء قناعة ورضا ” 

ويٌعْنىَّ بالعفة تنزه الشخص عن الشيء البغيض، فعفت عن الشيء يعني تنزهت وترفعت عنه، ويتضمن مفهوم العفة حفظ النفس عمّا يقبحها وعمّا يشينها في كرامتها، وعمّا يتناقض مع المرؤة.

والعفة والتعفف فعل إرادي يأتيه الشخص ويمتنع بموجبه عن الاقتراب من أي بذيء أو فاحش، وهي حالة تتناقض مع الخبيئة والدناءة والغدر بالآخرين والتشهير بهم زورًا واختلاقًا.

ويستخدم في اللغة الإنجليزية كلمة Chastity وتتضمن معانٍ متعددة وذات دلالات قريبة مثل إِحْصان؛ احتشام؛ تَحْصِين؛ حَيَاء؛ صَلاَح ؛ طَهَارَة؛ عِفّة وتعفف؛ نَزَاهَة، وتعكس قدرة الإنسان على ضبط وتنظيم ذاته  self-restraint وإبعادها عن كل قبيح. 

 

– الحياء Modesty :

وهو تغير يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به أو يذم عليه. والحياء هو تاج الوقار الذي يرتديه الإنسان ويحثه على إتيان الحميد وترك القبيح.

  • التعري النفسي Psychological nudity:
  • التعري النفسي في طابعه السلبي:

ويعرف بأنه “تجرد الشخص من الحياء وتخليه خبثًا ودهاءًا إراديًا عن هويته ولونه الفكري واندفاعه تعبيريًا عن رؤيته الذاتية دونما اعتبار لضابط قيمي أو أخلاقي مع تبجح ومجاهرة كاسرة لاحترام الذات والآخر والقيمة”. كما يقصد بالتعري النفسي “تجرد الفرد من كل شيء من الروح والشخصية وتخليه خبثًا ودهاءًا إراديًا عن هويته ولونه الفكري وانتمائه الديني والملامح واندفاعه تعبيريًا عن رؤيته الذاتية دونما اعتبار لضابط قيمي أو أخلاقي مع تبجح ومجاهرة كاسرة لاحترام الذات والآخر والقيمة هكذا سفهًا وبلاهة”، ويكتمل المعنى الاصطلاحي للتعري النفسي من ما هو متعارف عليه عن التعري كتجريد للعناصر القيمية داخل الذات لإضفاء صفات ما على العنصر المتجرد وجعل الشخص يتقمص فعل التجرد فتصبح الصفة المتجردة تمنح الفرد الحياة أو المعنى ويستمد منها وقود الاستمرار في توجهه نحو إقرار الخبث ومخاصمة كل قيمة إيجابية. 

وعبر الروائي إميل زولا في روايته الصاخبة “الوحش في الإنسان” عن ظاهرة التعري النفسي من المنظور السلبي بأوضح تجلياتها إذ يقوم في الرواية بفعل تعرية تامة للوجود الإنساني ويظهر فيها قوة وتأثير الغريزة على الإنسان، بؤرتها فكرة الوحش في الإنسان والذي يتمثل في الاندفاع باتجاه التبجح والاستهتار بكل ضوابط تحقيقًا لمآرب ذاتية لا علاقة لها بالآخر.

 

– التعري النفسي في طابعه الإيجابي:

يعرف التعري النفسي اصطلاحًا في بعده الإيجابي ” حيث يظهر كل واحد أمام الآخر بكامل حقيقته، بأفكاره وقناعاته مهما كانت، ومشاعره وعواطفه مهما احتدت، ونواياه وقراراته مهما بلغت. يظهر الشخص أمام الآخر عارٍ عن كل المظاهر الخادعة وألعاب البرستيج وفنون الإتكيت، أو باللغة العلمية متجرّدا من الدفاعات النفسية DEFENCE MECHANISEMS ” (ملهم الحراكي، 2013)  .

وتجربة التعري النفسي بالمعنى الإيجابي مخيفة جدًا بقدر ما هي ممتعة، فالتخلص من قناع الشخصية راحة قصوى لكن الفاتورة مكلفة في مجتمعنا الخجول الذي ينادي كل ما فيه بالتخفي والمدارة وأن لا تكن كما أنت، بل كن كما يريدك الآخرون، ويشير جورج كيلي إلى هذا المعنى بوضوح تام في فكرته عن التعري النفسي بالمعني الإيجابي والتي مفادها أن يكون المرء ذاته مهما كانت الضغوط الدافعة له باتجاه المدارة والتخفي ويرى أن فكرة التعري النفسي psychological nakedness  في الشئون الإنسانية فكرة بالغة الصعوبة فيما يتعلق بالتنفيذ إذ أن الغالب على البشر تحت إلحاح المسايرة الاجتماعية الإعراب عن الذات المزيفة Faked Self  تجنبًا للتهميش أو النبذ؛ والتالي عودة إلى فكرة إجبارية إلى فكرة الأقنعة المؤصلة في مقولة جارِهم ما دمت جارَهم ودارِهم ما دمت في دارَهم (KELLY,1964: 157-158).

وأفاد جورج كيلي أن التعري النفسي بالمعنى الإيجابي كمكاشفة صريحة ومباشرة عن الذات أمرًا بالغ الصعوبة ومن ثم فإن التعري النفسي والكشف عن الذات بجلاء ووضوح أمام الآخر، وانتظار حكمه أو تقييمه لما نفعل، هذا وحده كفيل بأن يلقي في قلوبنا الرعب.

كما أن التعري النفسي في صيغته الإيجابية في مجال الطب النفسي للإنسان المُتْعَب نفسياً راضياً أو مُرغماُ وكمكاشفة تامة من قبله أمام طبيب النفسي الذي يقوم بفعل الفرجة “المشاهدة” النفسية أمرًا بالغ القسوة وفيه إهانة لكرامته وربما لا ينجم عنه إلا التأزم والندم والانتظار للتصنيف تحت فئة ما من فئات الاضطرابات النفسية.

كما أن التعري النفسي حتى بالمعنى الإيجابي المشار إليه يتناقض بصورة ما مع ما يذهب إليه بعض الفلاسفة في تعريفهم الإنسان بأنه الكائن الوحيد الذي يأبى أن يكون كتابًا مفتوحًا يقلب صفحاته من شاء، متى شاء، وأين شاء، فالشخصية المعراة نفسيًا بصورة تامة تفتقد إلى سر الاندفاع إليها من قبل الآخرين وهو الغموض، الذي يغري الآخر أملاً في التعرف والاكتشاف إلى مدوامة التفاعل والاستمرار فيه.

وقد يٌقصدُ بالتعري النفسي من المنظور الإيجابي فيما يفيد (ملهم الحراكي، 2013) تجريد النفس من مكنوناتها وخواطرها الدفينة في اللاشعور، حيث يتوجه الشخص للظهور أمام الآخرين بكامل حقيقته، بأفكاره وقناعاته مهما كانت، ومشاعره وعواطفه مهما احتدت، ونواياه وقراراته مهما بلغت، يظهر الشخص أمام الآخر عارٍ عن كل المظاهر الخادعة وألعاب البرستيج وفنون الإتكيت، أو باللغة العلمية متجرّدا من الدفاعات النفسية Defense Mechanisms . يقول له هذا أنا، اقبلني أو لا تقبلني، تكيّف مع حقيقتي أو لا تتكيّف، قد تكون هذه مشكلتك وحدك.  

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى