الأسر السورية المهاجرة والتوعية الاجتماعية
بقلم: حواس محمود
أدت الحرب الجارية في سورية إلى هجرة الملايين من السوريين، إلى دول الجوار والدول الأوروبية وكندا وأميركا وغيرها، حيث الأجواء الاجتماعية والعادات والتقاليد والقوانين وأنماط الحياة مختلفة جذريًا عن الحياة السابقةالتي كانوا يعيشونها في سورية، حتى في المناخ والطقس، وبالرغم من حيويتهم ورغبةالغالبية منهم في الاندماج في المجتمعات الجديدة، فإن الوضع الذي هم فيه الآن يحتاج إلى رعاية اجتماعية ونفسية كافية، لمساعدتهم في التأقلم واستيعاب المتغيرات الكبرى التي حدثت في حياتهم، سواء من خلال أفراد واعين ضمن الأسر نفسها أو أفراد متطوعين للدعم والمساندة الاجتماعية من ذوي الاختصاص، أو حتى من خلال منظمات ومؤسسات أسست لهذه الغاية.
حول هذا الموضوع، قالت الكاتبة شيرين بارافي، المقيمة في ألمانيا: إن “السؤال الأول والأهم هو كيف يمكن للاجئ أن يتفهم الواقع الجديد والتأقلم معه، وكيف سنتخطى الحواجز التي تواجهنا في هذا المجتمع من لغة وعادات وأنظمة عمل وتغيرات ثقافية؟ في البدء كان اللجوء نوعًا من الاغتراب النفسي والاجتماعي، على الرغم من الحريةوالاستقرار المادي والمعنوي، إلا أن التأقلم أصبح صعبًا، ومع مرور الوقت أصبح هناك إحساس بالابتعاد الجذري عن كل شيء يخصنا أو يشبهنا، وبرزت صعوبة الانتماء إلى المجتمع الجديد والاندماج به وتعلم اللغة، ولا سيما للأشخاص من النصف الثاني من العمر، والبعض أصابهم إحباط أثّر على اندفاعهم وطموحهم إلى بناء حياة جديدة، والبعض من فئة الشباب أبدع وأثبت وجوده، لكن الصراع سيستمر بين الآباء والأبناء، الآباء يتمسكون بالعادات والتقاليد ويخافون من فقدان إرثهم الثقافي والاجتماعي، ويحاولون تطبيقه على الأبناء الذين وجدوا أبواب الحياة مشرعة أمامهم بكامل الحريات، لذلك نجد أن العلاقات بينهم غير متوازنة، وهنا تكمن المعاناة الحقيقية بين الأسر”.
أما الناشطة النسائية مهوش شيخي، المقيمة في ألمانيا، فقالت: “حال العائلة السورية في الشتات والداخل هو صورة مصغرة عن حال سورية نفسها، قبل 2011 كانت عبارة عن علبة مغلقة مضغوطة تحتوي كل أنواع الظلم والاستلابات، وبعد 2011 بدأت مرحلة التغيير وقد رافقها الكثير من الخسارات والألم، وهذا حال السوري في المغترب، إنه التغيير ولا يوجد أي تغيير من دون معاناة ودفع ثمن، استمرت مشكلات الأسر السورية، وتبين وجود مستويات مختلفة ومتنوعة بحسب السوية الاجتماعية الثقافية للعائلة نفسها وجذرها، فمن المغتربين من اعتبر أنه وصل إلى بر الأمان وحقق حلم حياته، ومنهم، وبخاصة جيل ما بعد الأربعين، من وجد أنه قد خسر الكثير كرمى لأبنائه، ومنهم من اتهم بمنطقه البلدَ المضيف له بأنه بلد فجور وفلتان، ومنهم من فقد توازنه وضاع”.
وتابعت: “الكثير من الأزواج تفرقوا، لكن هناك أيضًا من استطاع أن يحقق التوازن ويتابع بهدوء وصبر ليحقق مبتغاه، وهناك حالات إيجابية رائعة تكاد تكون أمثولة، خاصة أولئك المنحدرين من الطبقة الوسطى الحقيقية، النساء اللواتي كن مكافحات في بيوتهن وعملهن ودراستهن هن أنفسهن في أوروبا تابعن المسيرة نفسها بالحفاظ على العائلة على الرغم من المظلومية الواقعة عليهن، لكنهن بسبب خطورة المرحلة تحملن المسؤولية بشجاعة، على حساب متطلباتهن الذاتية، لهذا لا أجد الصورة سلبية كثيرًا، وربما كنا نحتاج اجتماعيًا إلى هزات كبيرة حتى نعيد ترتيب أولوياتنا ونعيد للعلاقة داخل الأسرة وجهها الأرقى، سواء بين الأزواج أو بين الآباء والأبناء”.
وأضافت:“لنا من دعاة الحرية للأوطان والأفراد، لكنني أيضًا من دعاة تحمل المسؤولية والتعقل والإيثار، ومن حق النساء اليوم في بلاد القانون وفرص العمل والمساواة أن يرفضن استعبادهن، لكن عليهن أن لا يبالغن بمتطلباتهن ويعين واقع أسرهن. كذلك على الآباء تفهم الظرف الجديد للأبناء وهامش الحرية المتاح لهم، وعليهم أن يحتضنونهم ويتفهمونهم، ونستطيع على مستوى أسرنا الصغيرة وعلاقاتنا الاجتماعية الضيقة أن نخلق واقعًا أفضل، خاصة في أوروبا حيث المجال متاح، وليس ضروريًا أن نعيش في جلباب آبائنا كما أنه ليس جيدًا أن نرتدي جلباب الآخرين”.
من جهته، قال الناشط فريد حمو المقيم في ألمانيا: “في المغترب وجدلية التعاطي، علينا أن نعي أن ليس ثمة دولة كجمهورية أفلاطون، على وجه المعمورة، وعلينا أن نعي أيضًا أن ليس ثمة نظام اجتماعي اقتصادي إلا ينفي حقوق طبقات اجتماعية لصالح حقوق طبقات اجتماعية أخرى، وعليه يمكن القول إن العدالة الاجتماعية والحقوق مسائل نسبية ما بين المغترب والمواطن الأصلي. على ضوء ذلك؛ علينا أن نكون داخل التاريخ لا خارجه، المغترب أمام نماذج مختلفة بالتعاطي مع المجتمع الجديد، الاندماجي، الانغلاقي، الذوباني، وهنا أتفق مع تيار المغتربين الذين يتخذون نموذج الاندماجي، كأنسب نموذج للتعاطي مع المجتمع الجديد، وهذا النموذج من شأنه تحفيز المغترب بالانفتاح على محيطه الاجتماعي والثقافي الرحب الذي يفضي بدوره إلى كسب المزيد من المعارف والثقافات العالمية المختلفة، وإلى المزيد من اتساع الأفق لدى المغترب، وهنا نصل إلى بيت القصيد، النموذج الاندماجي الذي يعول بصورة محورية على عنصر المعرفة والثقافة العالية التي من شأنها أن تسهل للمغترب عملية الاندماج الإيجابي التي تعود تداعياتها الإيجابية على سيكولوجية وسوسيولوجية المغترب. والمغترب ذو الثقافة العالية ينمو لديه الانتماء الإنساني الكوني ما يؤهله لتخطي الانغلاقات والعصبيات الدينية والقومية الموروثة، والمغترب العالي الثقافة يستطيع التركيز والتفاعل مع المزايا والجوانب الإيجابية في المجتمع الجديد، ويستطيع صقل موروثه الثقافي والاجتماعي، وفي نهاية المطاف يستطيع دمج وصقل الثقافتين الشرقية والغربية في شخصيته، ويصبح أنموذجًا للإنسان المغترب الحضاري الإيجابي والمجدي لمجتمعه وللمجتمع الجديد، وإذا لم يتوفر لدى المغترب ثقافة تأهيلية ترشحه لممارسة سلوكيات إيجابيةفعالة على النقيض من التطرف أوالانغلاق على الذات أو الذوبان في المجتمعات الجديدة؛ فإنه يصبح ضحية عقدةالنقص والدونية السيكولوجية”.
أما أفين محمود، وهي طالبة جامعية مقيمة في النرويج، فقالت: “على الأب والأم أن يُدركا أن التغيير في نمط الحياة قد حدث أثناء الانتقال الحياتي الكامل من بلد شرقي مسلم إلى بلد غربي، إذ تختلف كل الأمور على الأسر، فالأسر التي تفتقر للوعي تقع ضحية المشكلات الاجتماعية بين الوالدين أو بين الوالدين والأبناء، وقد ينحرف أحد أو بعض الأبناء، وقد تنطوي الأسرة على نفسها، فتفتقد فاعليتها الإنتاجية على كل الصعد، وتبقى منعزلة عن كل النشاطات وكل العمليات التفاعلية في المجتمع الجديد، أما الأسر التي تتميز بوعي الوالدين، فيكون التفاعل عبر عملية التوازن بين نمطي الحياة في الوطن والمهجر الحفاظ على الهوية الشرقية مع التفاعل مع النمط الجديد من الحياة في الغرب، ويؤدي الوالدان عمومًا دورًا كبيرًا في توعية الأبناء وتعليمهم كيفية إجراء التوازن بين نمطين من الحياة والثقافةوالأساليب والسلوكيات الاجتماعية”.
أما الكاتب والشاعر إبراهيم اليوسف المقيم في ألمانيا، فقال: “كنت أرصد عملية الهجرة من قبل، من داخل الوطن، لتعلقي بإنسان المكان، وحرصي عليه، ثم وجدتني على حين غرة في موقع الضحية/ المهجّر نفسه، بعد أن صمدت طويلًا لئلا أكون رقمًا مهمشًا في سجلات اللاجئين التي أمقتها، لذلك فقد غدا لزامًا عليّ أن أعني بواقع المهاجرين، لكوني قد غدوت مكرهًا أحد هؤلاء، ولا سيّما عندما أتابع واقع بعض الأسر التي سبقتنا إلى هذا المكان بربع قرن أو ثلاثين سنة، وهم أصدقاء ومقربون، وأرى كيف أن آلة الاندماج تبتلع أبناءهم بدرجة ما، بل إن أحفادهم قد غدوا -إلا في حالات قليلة- على شفا حفرة من الضياع، ليكون الاندماج محوًا لخصوصية ثقافة الوطن الأم، لا بوصلة للتفاعل اليومي المرتجى في المكان الجديد”. وأضاف: “علينا أن نعنى بأسرنا من جهة، وأن ننشر الوعي بين مجتمعنا المهاجر إلى هذا المكان، لئلا يغرق بنا بلم المكان الجديد، كما غرقت بكثيرين منا بيالم بحار العالم، وهو ما يتطلب إنشاء مؤسسات معنية، وحث أسرنا على التفاعل معها، لا سيما تلك الأسر المتضررة من آلة الحرب، والتي ينبغي أن يعنى بها على أكمل وجه، نحن جميعًا أمام مهمات جديدة، لا سيما أن الحرب لن تضع أوزارها على المدى القريب، وإن علينا أن نحمي ملامحنا من الضياع، لئلا نحقق ما رُسم لنا لنكون أضحيات الحرب اللعينة مرتين”.