أدب

اللقاء الأخير

هند يوسف خضر | قاصة من سورية
   وصل إلى منزل أهله فجأة دون إخبارهم كما كان يفعل في السابق ،فهو من اللحظة التي التحق فيها بصفوف الجيش العربي السوري كان يتصل بأمه ويخبرها بأنه آتٍ ،هذه المرة كانت مختلفة،غادر قصي القطعة العسكرية عند غروب الثامن عشر من تشرين الثاني عام ٢٠١١ متجهاً من حمص إلى طرطوس ،تحديداً إلى منزل والديه الكائن في قرية ضهر مطرو التابعة لمدينة الدريكيش ،بدا أمام عينيه الطريق واضحاً لا شيء يعكر صفوه إلا دخان الحرب ،رغم أن الجو كان خريفياً إلا أن جمرة اشتعلت في قلب أمه عندما رأته يدخل البيت بدل أن ترتسم البسمة على وجهها كما كانت في كل إجازة يقضيها بينهم -لاشيء أصدق من إحساس الأم –
قصي لماذا لم تخبرني أنك ستأتي كعادتك ؟
أردت أن تكون مفاجأة لكم
ومتى ستعود إلى القطعة العسكرية؟
يجب أن أغادر في الخامسة صباحاً يا أمي
جلس بين أهله وأشقائه و شقيقاته كأنه للمرة الأولى يراهم بعد طول غياب ، مازحهم بطريقة ملفتة، نظر إلى كل منهم وكأنه يلقي عليهم نظرة اللقاء الأخير ،كانت ضحكاته تعلو حتى أدرك جميع الجيران أن قصي قد أتى لينثر البهجة والفرح في أرجاء بيته وحارته ،كان محبوباً ،طيباً ،خلوقاً وعلاقاته متينة مع الجميع،كيف لا وهو لا يشبه أحداً من أبناء جيله ؟!
صباح التاسع عشر من تشرين الثاني ،الساعة الخامسة صباحاً حان وقت الوداع ،ودع أخوته وأخواته ،قبّل يد والده ،استدار إلى أمه ضمها بحرارة وأخذ يقبّل جبينها ،بدا المشهد كأنه ما من قدرة تستطيع إبعاده عنها..
قصي ما بك ؟تودعني وكأنك لن تأتي مجدداً
ربما لن أراكم بعد الآن
أدار ظهره و مشى ،بدأ يلتفت ويلوح بيده لأهله ولم يكن رفيقه في الطريق إلا دمع أمه الذي ما فارقه ثانية وكوى أضلعه ..
وصل إلى قطعة العسكرية ،اتصل نحو الساعة الثانية عشر ظهراً بأمه قال لها :سأخرج في مهمة للدفاع عن الوطن وعندما سأنتهي منها أطمئنك ،أنتظر دعواتك ،ردت عليه بغصة كادت أن ترميها أرضاً ولكنها أنهت المكالمة الهاتفية بالدعاء له ،أسقطت الهاتف الخلوي من يدها وقالت : لا أدري لماذا أشعر بصخرة تجثو على صدري …
الرابعة عصراً رن خلوي الأب ..رد بلهفة:
آلو ..قصي الحمدلله أنك بخير
صوت غريب يقول:أنت العم أبا قصي؟
نعم،من تكون أنت والرقم لولدي؟
أنا الضابط المسؤول عن الجنود ،ولدك قصي استشهد،لروحه السلام …
رباه كم هو صعب وقع هذا النبأ على قلب أب أمضى عمره ليرى ولده شاباً،يزوجه و يفرح به وكم هي حارقة تلك الدمعة التي سقطت من عينه وهو يعلل نفسه ويتمتم: الحمدلله على كل شيء..ابني بطل…
صرخة من حنجرة الأم لا مدى لها ،سقطت أرضاً وهي تقول :أتى ليودعني ،أخبرني بأنه لن يأتي بعد الآن وكنت أعتقد أنه يمازحني،في قلبي اشتعلت جمرة من تلك اللحظة،بأعلى صوتها:قصي أين رحلت يا ولدي ،تركتني باكراً ،اليوم أزفك شهيداً بدل من أن أزفك عريساً،سأحتفظ برائحة ملابسك و وسادتك وكل شيء يخصك ..
جو من الحزن خيم على تلك القرية باستشهاده ، المشهد الأكثر تأثيراً عندما استلمت الأم بقايا النقود الورقية المصبوغة بدمه،شاركت في مراسم الدفن والأمر الذي زاد حزني حزناً مضاعفاً عندما تقدمت من أمه لأقدم واجب العزاء و الذي يفترض هو عزائي أيضاً بحكم علاقة الأخوة التي كانت تربطني بالشهيد،استعادت قوتها بعض الشيء وقدمت لي كنزة سوداء رُسِم عليها تمثال الحرية قائلة:
جلبها قصي معه في آخر لقاء وأوصاني بأنها أمانة لك…
هو لم يأت ليودع أهله فقط بل أتى ليترك لي ذكرى منه ،تسارعت الصور أمام عيني عندما جلب لأخته كنزة فقلت له :ألست أنا أختك أيضاً ؟أريد مثلها،وعدني أنه سيجلبها لي في الإجازة التالية وصدق…
غابت الشمس بحزن كما غاب (قصي محمد) عن حياة أهله وأصدقائه ومحبيه ،لقد آثر ابن الرابع والعشرين ربيعاً من عمره أن يكون نجماً تتبارك به السماء…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى