حوار مع شاعر عربي
الشّاعر الجزائري يوسف الباز بلغيث في حوار مع الشّاعر الجزائري علاء الدّين قسّول
عالم الثقافة | الجزائر
هُوَ الشّعرُ كمَا أراهُ كُتلَةً مُوسيقيّةً، زَمنيّةً مُهَرَّبَةً عَبْرَ اللّامَرئِي تُتقاذَفُ مِن أيَادِي الانفِعَالات الشُّعُورِية الإنسَانِيّة الْمُتّصلة بِجِذْعِ الشّاعِر إلَى حَبْلِ التّشبّث الجَمَاليّ المُتدَلّي مِن أَسقُفِ الْهيكلِ النّفسانيّ لِكُلّ إنْسَانٍ حُقَّ لَهُ الإنْصاتُ تَحت وِصايَة اِلْتِقَاطٍ حَدسِيٍّ مَحض”، يتدفّقُ من أعماقِ الشّاعرِ مثلَ حبّاتِ السّكّر، ليستقرَّ أخيرًا عند ضفّةِ النّهرِ، حَيْثُ الأرواحُ تجتَمعُ لملاقاتِه حلقَةً.. حَلَقَةً، ذائقَةً.. ذائقَة… ها هو الشّاعر الجزائري “يوسف الباز بلغيث”، حارسٌ من حُرّاس هذا النّبع الفيّاض على الجمْعِ الإنسانيّ، جمالا وارتقاءً وتَطْهيرًا، يتقَدّمُ بِقربَتِهِ لِيَسْقِيَ كُلَّ ذَوَّاقٍ “حُقَّ لَهُ الإنْصاتُ تَحت وِصايَة اِلْتِقَاطٍ حَدسِيٍّ مَحض”.. وقد التقيناه ودار الحوار التالي……
_س1/ بِدَايَة شاعرنا، أقدّم لك ريشة ذهبيّة وقطعة رخام بيضاء لتطبع علَيها صورتك الأدبيّة مثلما ترتضيها، تُرى كيف ستُجسّد/ تُشخّص هذه الصّورة الجامعة لِلأديب الإنسانِ داخلك؟ من هو “يوسف الباز بلغيث”؟
_ج1/ السَّلام عليكم؛ معكم “يوسف الباز بلغيث” أنا شاعرٌ وروائيٌّ جزائريٌّ من مواليد مدينة الجوابر “بيرين” ولاية “الجلفة” 1974، أعمل حاليا أستاذًا مكوِّنًا بسلكِ التَّعليم، وحاصل على ماستر في الأدب الحديث والمعاصر وأحضّر للدّكتوراه.
_س2/ حسبَ تَقدِيرِي، فإنّهُ لا أحَدَ يَقْتَفِي بُؤرَةَ الذّات مثل الشّاعر، ما الاتّجاهُ الصّحيحُ الّذي يسلُكُهُ الشّعرُ في سَبِيلِ الوُصول إلى المحطّة النّهائيّة في نظرك؟ من الخارج الملموس إلى الدّاخل المحسوس أم العكس؟
ج2/ الحياةُ في أعينِ النّاسِ تتَفاوتُ وكذَلكَ الفَلْسَفةُ الّتي تُؤوِّلُها في النّفُوسِ، ولَعلَّها تكُونُ بِمِنظارِ الشَّاعرِ أكثرَ إشْراقًا، ذَاتَ رؤًى قَشيبةٍ وهَّاجَةٍ، غَيرَ مُتكافِئةٍ معَ النُّورِ الّذِي يَدْلفُ عَلَى مُكْثٍ أعْيُنَ العامّةِ؛ ولذلكَ ليسَتْ غايةُ الشَّاعرِ الوُصولَ إلى المَحطّةِ النّهائيّةِ فيمَا يواجِهُهُ أو يُريدُ الخَلاصَ مِنهُ بقَدْرِ تَوْجيهِ النّاس إلى الأنْسِ المَبثُوثِ في تِلْكَ اللّحْظةِ، فَإنْ أسْلَمْنا بِأنَّ الغايةَ هِيَ التّوقُّفُ عِندَ مَحَطةٍ بِعَينِها _لِلمفْهُومِ المُطْلَقِ لِمَعْنَى الخَلاصِ فِي فَهْمِ الحَياةِ أو تَفْسِيرِها فَمُهمَّةُ الشِّعرِ سَتَصِيرُ حِينَئذٍ مُجَرَّدَ سَاعِي بَرِيدٍ يَنْتَهِي يَوْمُهُ “الرَّتيبُ” بِتَوْزِيعِ مَا فِي يَدِه، وَسَيخْلُدُ لَيْلتَه إلى نَوْمٍ عميقٍ، خَائرَ القُوَى كأنَّهُ قَدْ تَقَاعدَ على مضَضٍ، والعَكْسُ عَلَى مَا يُرادُ بِهَذَا فِي أنْ يكُونَ شَغَفُ الذَّاتِ هُوَ تَرَقُّبُ المَحطَّةِ التَّاليةِ لتُسْعِفَها صُرُوفُ القَدَرِ لِلوُصُولِ إلَى المحطّةِ التي تَعْقبُها أيْضًا.
_س3/ هل قَدّمت اجتهادا في القبض على ماهيَة الشّعر؟ ما تعريفُكَ له؟
ج3/ إنّ الانطباعَ الذي يتأرجحُ في نفسٍ المتلقِّي _وهو معلَّقٌ بين حسرةٍ ونشوةٍ لا يمكنُ أن تفسِّرَه نظريَّةٌ بعينها، محتكرةً تفسيرَ ما يحدثُ، لأنَّ الحسرةَ التي تنتابُه إثرَ قصيدةٍ ما ستنتابه مرَّةً ثانيةً في زمانٍ آخرَ نَشوةً وحُبورًا، وربَّما جرَّاءَ الطَّقسِ نفسِه وقَد تغيَّرَ المِزاجُ والمكانُ؛ لأنَّ السَّجيَّةَ المُواتيةَ لِلحظةِ الإلهامِ تكونُ أقربَ إلى صِدْقِ الشَّاعرِ المتفاعِلِ مع أحداثِه الخاصَّةِ أو العامَّةِ، وهَذا لا يَعني بالضَّرورةِ أنَّ الصَّنعةَ لا تَحفظُ لهُ هيْبتَهُ وعُنفُوانَه. قد أكُونُ مكابرًا إنْ قُلتُ بأنَّ لدَيَّ فلسفةً في ماهيّةِ الشِّعر، ولكنِّي أعلمُ جيِّدًا أنَّ ما يتكوَّرُ في نفْسِي ليسَ له نظيرٌ لدَى غَيْري.. ويَحْسُنُ ذكرُ كَلِمةِ الشَّاعرِ الرَّاحلِ “نزار قبّاني” الخالدةِ بأنّه قد أصبحَ تلميذًا نجيبًا في مَدْرَسةِ الشِّعرِ بَعْدَ تِلكَ التَّجرُبةِ الطَّويلَةِ والعَمِيقَة.. فمَا بالُنا نَحن؟!
_س4/ تعدّدت الأغراض الذي كتبت فيها الشّعر، إذ أجدك ماسحًا على رأس الأرض والإنسان برفق، إذ أنّ الشّعرَ أنيس لِهَذا الكون بمحمولاته الاجتماعية والطّبيعيّة والتّاريخيّة…، ما هو الجوهر الخالص/ الخاصّ الّذي تحرصُ على الاعتناء به في مختبراتك الشّعريّة؟
ج4/ هِبةُ اللّه لفئةٍ من النّاسِ دُونَ غَيرهِم بقدرِ مَا يكتنفُها التَّشريفُ بقدر ما يَعتَليها التَّكليفُ؛ ولمَّا كان تقديرُ الله لخلقِه بالتَّفاضلِ كلٌّ حسبَ موقعِه وتهيئتِه وجُهُوزيَّتِه_ جاءت فئةٌ مِنَ الخَلقِ على رُؤوسِها المحابرُ والأقلامُ والكَواغِطُ راغبةً في تغْيير الدُّروبِ والدّهاليزِ بشَمعةِ الفكر وإدامِ اللُّغة، وكلَّما تُشاكُ مُهَجُ الورَى بصُروفِ الدَّهرِ تجدُ الكاتبَ في الصَّفِّ الأوَّلِ _ كما قال الرّاحلُ “غسَّان كنفاني”: (..المثقَّفُ أوَّلُ مَنْ يُقاومُ وآخرُ مَنْ ينكسر..)_ ربّما لأنَّ ما أُودِعَ بفكرهِ وعاطفتِه وطبعِه أندَى بكثيرٍ ممّا أُودِعَ في بقيَّةِ النَّاسِ.. ولعلَّ “أسْعدَ النَّاسِ مَنْ أسْعَدَ النّاسَ” _ كما قيل_ سيكونُ المُعْتَنى الأوَّلَ في مختبَرِ الذَّاتِ ليَمسحَ الحزنَ عن نفوسِ الآخَرينَ بينَما تتقطَّعُ نفسُه دُونَهم.
_س5/ نحن الشّعراءَ يزُورنا الوطنُ، يطرق أبوابنا على دقّة السّاعة الصّفر، يدّعي الاستئذان، لكنه يقفز دائما من الشرفة المخصّصة للرّؤى، لاحظت أنّ الوطن نفسه قد زارك مرّات، وكان له حضور لائق، إذ يرتمي على أرائِك صُوَرك الشّعرية كما يشاء، ما هو الوطن حسب اعتقادك؟ هل حدّدت ملامحه ومقاساته جيّدًا؟ هل هو الإنسان الحالم داخلك أم أنّه الوطَنُ الوَطَن؟
_ج5/ قلتُ في كِتابي ” بازيّات”: ” أكْرَمُ مِنَ المَطَرِ أرْضٌ لَمْ تَبخَلْ بِوَفاءٍ لهُ، جَفَّتْ ولَمْ تمُتْ !، إنَّ حكايةَ الوَطنِ تَبدأُ بمُجرَّدِ صَمتِكَ عنْ سُؤالٍ قابعٍ بالقَلبِ، سَارحٍ بالوجْدانِ، مُهيْمنٍ عَلَى تَفْكيرِ الخَاطرِ؛ إنّها إلياذةُ الانتماءِ إلى قَداسَةِ المَكان؛ حِكايةٌ تَحْكي للمُتيَّمِ ما فاتَه منْ حَنينٍ وتَدَلُّهٍ وتَرْوي للطّيُورِ نَسائمَ الهُبوبِ الخالدِ. حكايةٌ تُمَنِّي القَلمَ بسُطُورٍ وسُطُورٍ على مَدَى بياضِ صفَحَاتِ مقامَاتِه، كمَا تُمَنِّي البَياضَ ذاتَه برَجْعِ صَدَى العشّاقِ بينَ النّقطةِ والفاصلةِ، إلى حين التّنهُّدِ العبقريِّ المشرئبِّ إلى ذُروةِ “التّعَجُّبِ” الذي يخطُّه قَلمٌ حَالمٌ بمِعراجِ النُّورِ ! وفِي الحَقِيقةِ؛ لا يَركنُ إلى قارعةِ الظُّـلمَةِ غيرُ مَنْ لَمْ يَهْتَدِ لِسِراجِ بيتِه. قد نكونُ حَمْقًى إنْ وَجَدْنا مَلامحَ قارّةً لمفْهُومِ “الوَطَن” ولعَلَّ سِحْرَ تلكَ التَّقاسِيمِ تَبقَى مُنثالةً عَلَى كلِّ بالٍ إذا تنوَّعَتْ وتَباينَتْ في مرآةِ الجَمالِ والحَنين.
_س6/ كيف تبزغ الصّورة في خيال الشّاعر فجأة؟ وكيف تتشكّل بداية أمام ناظِرَيْ اللّغة؟ وما المؤشّر الذي يضمن استقرارها النّهائي على سكَنِ الدّهشَة؟
_ج6/ أتَصَوَّرُ الدَّهْشَةَ قِطْعةً مِنَ الكَعْكِ المُحَلَّى بالشُّكُولاطَة أتـْحَفـَها صانِعُها بتزَاويقَ خَلاّبةٍ، قد لا يُحْسِنُ خيالُكِ السَّائِلِ لُعابُهُ أحيانـًا تَمَثُّلَها بأَبـْهَى مِنْ ذلكَ، فتَرْضَى بِها كَمَا هِيَ، وتتلـذَّذُ ويتَدَفَّقُ الرِّيقُ أَنْهارًا قَبْلَ أَنْ تفتَرسَ جُزءًا منهَا كُنتَ قدْ عايَنْتَ حُدُودَهُ وحَدَّدْتَ مآلَهُ الأخِيرَ، أو قدْ لا ينالُكَ مِنهُ سِوَى نَظْرةٍ سَطَتْ عَلَيها الحَسْرةُ وعَانقَها الكِبرياءُ بِذِراعَيْ الصَّبرِ.. ولا خِلَّ لـكَ إلاّه!.. وأمَّا المؤَشِّرُ فَسيَرتَبِطُ أسَاسًا بِمَرْجِعِيّةِ الذَّاكِرةِ التَّذوُّقيّةِ في اقْتِناءِ أفْضَلِ الأبيَاتِ وَحِفْظِها وُصُولًا إلى مضَارعَةِ الحِسِّ الجَمَالِيِّ فِيها.
_س7/ “يُوسُف” الشّاعر والنّاقد، أيّهما تُسَبِّق أثناء الممارسة الإبداعيّة؟
ج7/ المُبْدِعُ المُلْهَمُ يُطِيلُ التّأَمُّلَ في الغَالِبِ، كَمَا لا يُجِيدُ كَأيِّ شَاعِرٍ إلاّ النّقْدَ الانْطِباعيَّ، المُنْبعِثَ مِنْ رُوحِه المَسْحُورَةِ بانْثِيالاتِ التّداعِياتِ الشِّعْريّةِ؛ ومَا دَرَجَ لِي _ وأَحْسَبُني مُلْهَمًا بمُدَوَّنَتِي الخَاصّة كَانَ مُجَرَّدَ رُؤًى وليْسَتْ نَقْدًا صِرْفًا، ولا أُريدُ أنْ أَحُطَّ مِنْ قِيمةِ النَّاقِدِ وهُو يقْتاتُ عَلى خُبزِ الشَّاعِرِ وإدَامِ الفَلاسفَةِ ليبدُوَ وَجِيهًا برَّاقًا إلاّ إذا تثوّبَ بِحُلَّةِ الشِّعرِ والنَّقدِ عَلَى حَدٍّ سَواء؛ وأقُولُ:” هَلْ سَيَلْتَقِي الشِّعرُ الجَيِّدُ بالنّقْدِ المُكافِئِ لِحَصَافتِه ويُنْصِفُه؟ أمْ سَيتَزَاوَجُ الشِّعرُ بناقدٍ يُغالبُ نفسَه في تَحْلِيلِ رُقعةٍ نَصيّةٍ لهُ مُكابِرًا تَعْلِيلاتِهِ لهَا بِنَوْعٍ مِنَ الكِبْرياءِ أو بِلامُبالاةٍ وعَنْجَهِيَّة..؟ إنَّني فِي الحَقِيقةِ أَرْتَاحُ لبُرْنسِ الشِّعرِ الّذِي تزيَّنتُ بِهِ في بِدَاياتِي عَلَى أمَلِ أنْ أتَزَيَّنَ بِلِحافِ النَّقدِ ذَاتَ يَوم.
_س8/ لا أحد يُنكِرُ فَضْلَ الخَطَابَةِ على القصيدَة العَموديّة منذ اختراعِها دون الأنواع الأدبيّة الشّعرية الحديثة الأخرى (القصيدة الحرّة، القصيدة النّثريّة…)، هل تتنبّأ مستقبَلًا بالعودة الحتميّة إلى منبر العَمُود، بحُكم متطلّباتِ السّمعيّة العربيّة؟
_ج8/ كَسْرُ الزُّجاجةِ قد يكونُ سَهْلاً ولكنَّهُ لا يُجْبَرُ حتَّى وإنْ تمَّ تَعْدِيلُ الشَّرْخِ واسْتَعْدلَ المَظهرُ قِوامَ الحُسْنِ فيه؛ والمُزايدونَ على الشِّعرِ الحَقيقيِّ يَجِدُونَ في هذَا توكُّؤًا عَلَى عَصَا النَّيْلِ مِنْ ميراثٍ عتيقٍ أقامَ للقَصِيدةِ قبَّتَها، ورَغِبَ المترصِّدُ _ المُزَخْرِفِ للحَقِيقَةِ، المُناوئُ للأصَالةِ _ في صُنعِ دُميةٍ عَلَى جانِبٍ كبيرٍ من التَّشَابُهِ مع المِثالِ. وفي ظلِّ تَحدِّياتِ الحَداثةِ المُرقْمَنَةِ لنْ يَقْبَلَ الذَّوقُ الأصِيلُ أيَّ دَخِيلٍ على قبَّةِ القَصيدَةِ، وليسَ يعْنِي هَذا أيَّ تزمُّتٍ لعَمُودِ الشّعرِ، بقَدرِ التّأكيد على معْنَى الوَفاءِ لكيانِ بناءٍ مُوسيقيٍّ جَماليٍّ وفنِّيٍّ يريدُ العابِثونَ المُتمرِّدُونَ على الجَمال أنْ يهُدُّوا صَومعتَه.. ولكنْ هيهاتَ،، هيهاتْ..!
_س9/ ما موقفك من الواقع الأدبي العربي المعاصر عموما، والشّعري خاصّة؟
ج9/ قَدْ يكونُ التَّراكُمُ الشِّعريُّ في الواقِع أوْفَرَ حَظًّا مِنَ الكِتابةِ السَّرْدِيّةِ إبدازعًا، عَلَى مَا يَطالُ هَذَا الزَّخَمَ مِنْ إجْحافٍ وعَدَمِ مُبالاةٍ، ولَكِنَّ الظُّرُوفَ التِّجارِيّةَ لِدُورِ النَّشْرِ والعَوَزَ المَاديَّ للشُّعراءِ بَدَآ يَشِيانِ بفِكْرةِ الجُمُودِ على مُسْتَوَى الانْتِشَارِ والذُّيُوعِ لا عَلى مُسْتَوَى السُّيُولةِ والتَّدْوِينِ. وإنّنا نَجِدُ في كُلِّ حَيٍّ وتَحْتَ كُلِّ حَجْرةٍ في رِيفٍ أو قَرْيةٍ شُعَراءَ وشَواعِرَ، وقلَّمَا تَجِدُ رِوائيًّا أو رِوائيَّةً، كمَا يَنْبَغِي أنْ نَخْرُجَ منْ حَالةِ الجُمُودِ هَذِه باسْتِحْداثِ وَرَشَاتٍ لِلكِتابَةِ الشِّعْرِيّةِ النَّاضِجَةِ، في وجُودِ قَنَواتِ نقْدٍ بنَّاءةٍ تُوجِّهُ النَّشْءَ إلى القُدْوةِ المُناسِبَة؛ ولَنْ أكُونَ بِمَنْأًى عَنْ الشُّعراءِ والكُتّابِ إذَا مَا وَصَفْتُ الوَاقِعَ الأدَبيَّ المُجْحِفَ بأنَّهُ يَتَحَرَّزُ مِنَ الانْتِشارِ الشِّعْرِيِّ، وَيَقُولُ بِالوَلاءِ للسَّرْدِ _ الرّوايةَ بِخاصّةٍ بِشَكْلٍ بَيِّنٍ..!! ولَنْ تَتَغيّرَ المقُولةُ الشَّهيرةُ (الشِّعْرُ دِيوانُ العَرَبِ) مَهْماَ خَذَلَهُ أبناؤُهُ ومُناوِؤُوه.
_س10/ يُقُال: “إن الشّعر الحديث وليد الصّحافة”، هل ترى ضرورة لتقمّص الشّاعر –اليوم- دور الصّحافيّ حتّى يخلق منبرا لصوته؟
_ج10/ لكُلِّ مِنْبَرٍ كَلِمتُه.. والحَداثةُ تتَقاسَمُ رِيعَها جِهاتٌ عِدّةٌ، لعَلَّ أهَمَّها مَواقِعُ التَّواصُلِ الاجْتِماعِيِّ عَلَى كَثْرَتِها واخْتِلافِها؛ والصَّحافَةُ جُزْءٌ مِنْ هَذا التَّدفُّقِ الإعْلامِيِّ، أمَّا قضِيّةُ انْتِحالِ الشَّاعِرِ دَوْرَ الصَّحَفِيِّ فَلا أرَى بُدًّا جدوًى منها كَسَبِيلٍ للدّعايةِ، ما دَامَ هُنالِكَ أشْخاصٌ يقُومونَ بالمُهِمَّةِ ويتقَصَّونَ الأدَبَ والفَنَّ مِنْ كُلِّ فجٍّ بَدَلا عَنْه.
_س11/ كنت قد حزت على باقة من الجوائز الأدبية في سائر الأجناس الأدبيّة تقريبا، عربيًّا ووطنيًّا، جدارةً واستحقاقًا، هل ترى أدب الجوائز-بهذه التّسمية- مُحَفّزًا على إفراز الإبداع الحقيقي أم أنه مجرّد ابن شرعيّ لشعر المناسبات -في حلّته التكلّفيّة-؟
_ج11/ مِنَ الهَامِّ أنْ أُذكِّرَ نفْسِي قَبْلَ الآخَرِينَ بِأنَّ الإبْداعَ الحَقِيقيَّ لا يَسْعَى إلَى الاسْتِرْزَاقِ بِالشّهَاداتٍ أو التّسَوُّلِ بِالجَوَائز، وإنْ سَعَتْ تِلكَ الألْقَابُ إلَى الأدَبِ وتَوَسَّمَتْ بِهِ فَلا بَأْسَ فِي هَذَا، لِيتَحَقَّقَ المُعادِلُ المَنْطِقِيُّ لمَفْهُومِ ( جَوائز الأدَبِ) لا (أدَب الجَوائِز)؛ أمَّا ركُوبُ مَوْجَةِ المُسَابَقاتِ لِلْمُبدِعِينَ فَسَيَتَغَيَّرُ المَآلُ في قِيمَةِ التَّذَوُّقِ الفَنِيِّ للقُرَّاءِ وسَيَتَحَسَّسُونَ قَطْعًا ( الصَّنعةَ والتَّكَلُّفَ) بيْنَ طَيّاتِ إلْهَامٍ مُحَفَّزٍ لا مُحَفِّز ، وتبْقَى الشَّرعيّةُ الحَقِيقيّةُ فِي ثُبُوتِ قَدمَيْ النَّصِّ في حَضْرَة ذَائقةِ مُتلقٍّ حَصِيف.
_س12/ تَنتظرك أعمال أدبيّة كثيرة ما زالت قيد الطّبع/ الحياة، هل ننتظر منك سُلُوكًا أدبيّا تصاعُديًّا مُكَمِّلًا لتأسيس مذهبك “البازيّ”؟ حدّثنا عن الخيط الجامع لهذا العقد الموعود.
_ج12/ لا أُخْفِيكُمْ سِرًّا أَنَّ النّرجِسِيّةَ التِي تُمْسِكُ بِمِخْنَقِ الكِبْرياءِ لَدَى المُبْدِعِينَ _ ولا أسْتَثْنِي نفْسِي _ تقُولُ بِأنَّ رَسْمَ الخَيْطِ الذَّهَبِيِّ للشَّخْصيّةِ في مُقارَعَتِها للآخَرِينَ أوْ مُزَاحَمَتِهم قُبَّةَ الإبْدَاعِ سَيَكُونُ فِيهَا فَخٌّ لا يَسْلَمُ صاحِبُهُ مِنْهُ إلاَّ بِحَصافَةٍ وتَواضُعٍ وحُسْنِ ظَنٍّ فِي نَفْسِهِ قَبْلَ النَّاسِ؛ إذْ مِنْ صِحَّةِ الحَالِ والبَالِ أنْ يَتَصوَّرَ (المُبدعُ / الكاتبُ) نَفْسَهُ بِتِمثَالٍ يُمَيِّزهُ عَنْ غَيْرِه، ولكِنْ إذَا اجْتَمَعتْ فِي تَصَوُّرِه مَعانِي الإخْلاصِ لِلْكِتَابةِ الجَادَّة وللفَنِّ الرَّاقِي ولرُؤيَتِهِ الجَمَاليَّةِ فِي أنْ يَكُونَ مَنْهَجُهُ إيجابِيًّا، مُحافِظًا عَلَى أمَانَتِه وسُمْعَتِه وعَلَى كَرامَةِ مَنْ يَكْتُبْ لَهُم فلا ضَيرَ ولا بَأس.
_س13/ سيكون من الجمال أن تُكرِمَنا بمشاهدة قصيدة جميلة من جميلاتك وهي تدخل هذا الحوار الثّريّ لِتُسدل السّتار عليه.
_ج13/ لَعلّي سأناورُ شَيبَاتِي حِيالَ عُيُونِ ذَوائِقكُم لتُنْصِفُونِي مِنْها أو تُنْصِفُوهَا مِنِّي بقولي في قصيدتي :
(حَنِينٌ أَرْبَعِينِيّ)
إنِّي بَكَيْتُ، وَمَا دَرَيتُ بِمَا بِيَـهْ
وَالحُزْنُ يَشْوِي الحُلْمَ في أعْقَابِيَهْ
***
مِنْ رُبْعِ قَرْنٍ.. (شَهْرَزادُ) قَوَافِلي
تَطْوِي الكَثِيبَ وَلا تَزَالُ وَرَائِيَـهْ
***
تاهَتْ، وَلَمْ تَدْرِ الصَّبابةُ أيْنَها
هلْ كانَ جُرْحُ الشَّوْقِ رُبْعًا خالِيَهْ؟
***
مِنْ رُبْعِ قَرْنٍ.. لمْ تزَلْ عَثَراتُهــا
تَقْتاتُ مِنْ وَهْمِ الدُّرُوبِ القَاسِيَهْ
***
تِلكَ الدُّرُوبُ مَعَ الضَّبابِ تَهابُني
ويَهابُ مِنْ لفْحِ الدُّرُوبِ ضَبابِيَهْ
***
كالعَاشِقَيْـنِ تَمَامَ كُلِّ صَبابَـةٍ
يَتَهادَيانِ معَ الشُّجُونِ أمامِيَـهْ
***
مِنْ فَرْطِ جَمْرِ الآهِ تسْكُنُ حَيْرَتي
كَفَراشَةٍ تَشْدُو الرَّوَابِي الحَامِيَهْ
***
أَشْتاقُها، هِيَ لا تُـلامُ، ونَزْوَتِــي
هِيَ رَعْشةٌ مِلْءَ الكُفُوفِ الحَانِيَهْ
***
هِيَ صَبْوَةٌ حَرَّى الجَوانِحِ تَصْطَلِي
هَلْ كانَ جُرْمًا أنْ تَصِيرَ عَذابيَهْ ؟!
***
هِيَ لَـهْثَةٌ.. تنْدَاحٌ في فَلَوَاتِهـا
تَبْلَى الخُطَى وتَدُكُّ قَفْرًا حافِيَـهْ
***
لَكَأنَّهــا مِفْتاحُ سِحْرِ قَصِيـدةٍ
كَثُرُ العُفَــاةُ بِبالِها وببالِيَــهْ
***
كمْ لَوَّعَتْ لَهْثَ الغَريبِ بِدَائِها
وَتلُومُ:”مَنْ ذاكَ الغَريبُ حِيَالِيَهْ؟”
***
لَكَأنَّها.. والبَوْحُ يَخْنُقُ عاشِقًا
غَجَريَّةٌ، تَهْوَى القُصُورَ العالِيَهْ
***
يا لَهْفَةَ الأشْعارِ فَوْقَ دَفَاتِري
إيَّاكِ مِنْ طَرْقِ الحَنِينِ بِبَابِيَهْ
***
صادَقْتِ جُرْحًا لا يَلينُ لِـدَاهِمٍ
فأَذَلَّنـي مِثْلَ الصُّرُوفِ الدَّاهِيَـهْ
***
أسْرَجْتُ ظَهْرَ العِشقِ بَوْحًا لمْ يزلْ
مُتشَوِّقًـا قبلَ السُّطورِ دَواتِيَــهْ
***
في كُلِّ بَحْرٍ يَمْتَطِيكَ جَلالـُــهُ
بِكَرامَــةٍ،، تهْفُو إليْكَ القَافِيَــهْ
***
لا الشِّعْرُ يُؤْوِي صَرْختِي، وأَظُنُّهُ
بالخِنْجَرِ المَسْمُومِ شَقَّ إِهَابِيَــهْ
***
مَا ضَــرَّهُ فجْرُ الحَبِيبِ يلُفُّنِـي
يَطْوِي النَّسِيمَ بِلَوْعَتي المُتَصَابِيَهْ
***
غَـارَتْ دُهُورُ الحُبِّ تَنْفُذُ في دَمِي
وأَعُـدُّها مُذْ ألْفِ شَوْقٍ ثـانِيَهْ
***
يا مَنْ مَرَقْتَ بِحَيِّنَا وعَلى الأدِيــ
ــمِ، تَرُجُّ مِنْ خَلْفِ الصَّهيلِ تُرَابِيَـهْ
***
مَنْ شَرَّعَ الأبوابَ قَبْلَ حِصارِها
والنَّخْلُ يشْكُو لِلهَجِيرِ السَّاقِيَهْ؟
***
مَنْ وَجَّهَ السَّفَّانَ صَوْبَ جَزيرَتِي
والبَحْرُ يكتُبُ عنْ عَذَابِ عُبَابِيَهْ ؟
***
مَنْ قالَ إنَّ الشَّمْسَ تسكُنُ حُرْقَتي
وتَغَارُ مِنْ زَهْوِ الشِّراعِ السَّـارِيَهْ؟
***
مِنْ رُبْعِ قَرْنٍ كـاليَتِيمِ مُشَـرَّدٌ
أشْكُو إلى دِفْءٍ القَصِيدِ العَـافِيَهْ
***
لاَ.. لمْ تَسَعْنِي الأرضُ رغْمَ رِحابِها
فَلِمَنْ سيَشْرَحُ لِلرِّحابِ سَرَابِيَهْ؟
***
عِقْدَانِ زِدْ عِقْدَيْنِ في شَغَفِ المُنَى
وارْفُقْ بباقِي العُمْرِ بَعْدَ غِيابِيَهْ
مع محبتي الخالصة وتقديري لكم ولقراء مجلتكم الراقية.
شرف لنا أن نتقاسم المنشأ ذاته مع بازنا الفياض بالادب العربي الأصيل .