زفرة العربي الأخير

فريدة شعراوي | باحثة في التاريخ والمصريات

قبل خمسة قرون وربع القرن، وبالتحديد ليلة 25نوفمبر سنة 1491م، البكاء شمل سائر أركان المملكة، ونظر سكانها أصبح معلقًا إلى قلعتها “الحمراء”، هناك حيث اجتمع الملك أبو عبد الله محمد بن الأحمر مع وجوه أهل المدينة من أجل توقيع معاهدة التسليم لملكي إسبانيا الكاثوليكيين فرناندو وإيزابيلا.

فقد أكد الملكين تأمين أهل المدينة على أنفسهم وأموالهم ومساجدهم باعتبارهم رعايا طبيعيين ، مع عدم إجبارهم على ترك عقائدهم، وإعفائهم من الضرائب لمدة 3 سنوات، مع توفير السفن لنقل المسلمين الذين قرروا الرحيل إلى المغرب ، وغيرها من البنود التي جاوزت 36 بندًا.

بالنسبة إلى أبى عبد الله الصغير ملك غرناطة فإن فداحة المصير أشعلت في ذاكرته تعاقب الأحداث، فتارة يرى في نفسه المسئول الأول عما لحق بدولة الإسلام في الأندلس . لقد خاض من أجل هذا العرش حروبًا نكراء قاتل خلالها أباه وعمه !! ورضي بفكرة تسليم المدينة .

لقد تضمنت هذه الاتفاقية تصفية ممتلكات أبي عبد الله في غرناطة قبل رحيله، وفي هذه الوثيقة وقع أبو عبد الله على بيع ممتلكاته إلى الملكين الكاثوليكيين، وفقًا لأحد البنود الذي مُنح إياه في معاهدة تسليم غرناطة، وقد تسلم أبو عبد الله تسعة ملايين عملة مرابطية.

وبحلول يوم الثاني من يناير عام 1492 م ، تخلى أبو عبد الله عن راية أجداده التي نُقش عليها “لا غالب إلا الله”، وخرج وبيده مفتاح غرناطة، ممتطيًا فرسه، حتى وصل إلى خارج المدينة، وهناك نزل عن جواده، وفى صورة حزينة مُبكية قبل يد فرناندو وإيزابيلا، قبل أن يسلمهما المفتاح.

وما إن تسلم الملكان مفتاح المدينة، حتى دخلت قواتهما غرناطة صفوفًا وجماعات، وفوق أكبر أبراج الحمراء، نُصب صليب فضي ضخم كان فرناندو يصحبه معه فى حروبه .

وبين تلك الصفوف كان هناك قائد لا يعرف معنى للرحمة، إنه أمير البحار”كريستوفر كولمبوس” ، الذي كان واحدًا من آلاف الإسبان الذين طردوا المسلمين من إسبانيا، أقبل بهدف واضح، الاستيلاء على مخطوطات البحارة المسلمين التى قدمت له العديد من المعلومات التي قادته لاكتشاف الأمريكتين.

عاد أبو عبد الله يذرف الدمع على ضياع ملكه والأندلس معه، أقبل باكيًا على أمه السلطانة عائشة الحرة التي وقفت في انتظاره على أحد تلال غرناطة، أشاحت عائشة بوجهها عن ابنها، قائلة مقولتها التي خلدتها سير التاريخ:”ابك كالنساء ملكًا لم تحافظ عليه مثل الرجال!”.

وبعد أشهر من وقفته تلك، خرج أبو عبد الله من منفاه الاختياري بمدينة لوشة، إلى تل غرناطة، كسير الفؤاد بعد ضياع ملكه، وما أعقب ذلك من وفاة زوجته الحبيبة مريمة بنت القائد على العطار، التي ماتت خلال وجودهما في لوشة، ولا تزال المدينة تحتفظ بتمثال لمريمة ، وهى تجلس باكية على ضياع الأندلس.

بكى أبو عبد الله على التل مرة أخرى، زفر من أعماق صدره زفرة حارة انطوت على آهات دفينة، بينما ينظر إلى غرناطة، ولا يزال هذا الموضع موجودًا ، ويُسمى بـ “زفرة العربي الأخير”،

وانطلق قاصدًا مدينة فاس المغربية على متن إحدى سفن مدينة جنوة التجارية ، وبعد 44 عامًا من سقوط الأندلس، نجد ذلك الملك الذي جبُن فى الدفاع عن ملكه بالأندلس، يموت مقتولاً فى أحد الحروب بين ملوك بني مرين في المغرب، ولذلك قال المؤرخون إنه: “قتل في سبيل الدفاع عن مملكة سواه، بعد أن جبن عن أن يقتل في الدفاع عن حوض مملكته”.

سقطت الأندلس من أيدى المسلمين والعرب، واختفت الجنة التى طالما تغنى بها المسلمون ولا يزالوا يتغنون بها إلى الآن، سقطت جنة الله فى الأرض، وكأنها عقاب إلهى على التفكك والانقسام الذى ضرب الحكام وفرق بين المسلمين وأظهر أطماعهم وخلافاتهم السياسية.

و بسقوط غرناطة، تحولت المساجد إلى كنائس، وأجبر نصف مليون مسلم على اعتناق المسيحية قسرًا، ولم ينفذ فرناندو وإيزابيلا أيًا من الوعود التى قطعوها للمسلمين، لتبدأ مأساة “الموريسكيين” ، وهم المسلمون الذين ظلوا في غرناطة تحت حكم الإسبان، ليلاقوا شتى صنوف العذاب من محاكم التفتيش، وليظل الجرح الأندلسى جرحًا غائرًا في جسد التاريخ الإسلامى .

تمثال أبو عبدالله يلقى نظرته الأخيرة على غرناطة وبكى بعدها، ويعرف المكان بـ (زفرة العربي الأخيرة) وتمثال لمريمة ، وهى تجلس باكية على ضياع الأندلس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى