تجربة الموت والحياة في ديوان زر أسود لقتل الربيع لمحمد بلمو
بقلم: د. الغزيوي أبو علي
تعد العتبات مفتاحا بالغ الاهتمام في سياق الاهتمام النقدي بها بوصفها فضاءا محيطا، وبابا مشفرا يحيط بالبناء السردي، يوازيه ويتفاعل معه على مستويات متعددة في المتن والخطاب، فهي تشرع أمام القارئ الطريق لاقتحام النص الشعري البلومي، ومن هنا ينبني أول أفق انتظاره و توقعه ← وهذه العتبات لها
وظائف وهي: تاريخية نصية تأليفية (تختزل جانبا من ملحق الكتابة) فهذه الألوان المشفرة بقصد أو بغيره، تعد مفتاحا يتسلح بها القارئ للوصول إلى مرامي النص ومقصدياته.
فالعتبات الخارجية الممتدة إلى النص كإجراء أولي تكشف عن الرابط الحقيقي بينها وبين تأويل المتلقي نظرا للعلاقة التلازمية بين النص والعتبات الخارجية الشعرية، باعتبارها استراتيجية التي تربط بين الخارج والداخل، وتتخذ هذه العتبات أشكال متعددة: المؤلف العنوان الغلاف العنوانات الفرعية اللوحات الإهداء الألوان التقديم كل هذه العتبات تحمل في ذاتها دلالات لا تعيق المتلقي على فك رموزها وإزاحة أقنعتها، وكثيرا ما نجد بعض العتبات التي تهيم القارئ وتعمل على تشظي أفكاره، رغبة في طول مدة الممانعة النصية وتلقيها على القارئ، فهي تبقى خطابا مفكرا فيه كعتبة العنوان الشعري عند محمد بلمو.
يعتبر العنوان من العتبات المهمة في تكوين الرؤيات الأولى حول مضمون النص، فهو يشغل حاسة البصر ليكشف بعض أبعاده، ويلملم تشظيه، فهو أول ما يقع عليه القارئ بصره سيكولوجيا وبصريا وشعريا ومعرفيا، وهنا يتطلب من القارئ ركوب مغامرة البحث، فهو لم يأتي اعتباطيا بل بقصدية عميقة.
فالعنوان هو سم وترياق (يكون الترياق محفزا ويكون السم موت النص وعدم قراءته) موت الشاعر بلمو الرمزي.
في الديوان هو مكان سرد الأحداث وهو البؤرة المركزية للأحداث، التي جعلت هذا الفضاء الخارجي يعبر عن صيغ اللون واستخدم الاسم بدل الفعل في دلالة عن الثبات والبقاء، والمكوث، وهذا يتم البحث عن الاستقرار، لأنه متعالق مع النص / الكبير، حيث يضيء حدوده، وتساهم هذه الألوان في إضفاء رؤية جمالية لتفصح عما تريد أن تقول الصورة وكاتبها ودار نشرها، فضلا عن لوحة تحتل ما تحتله من مساحة الغلاف، فبوجود السماء، والجدار والرسومات والوجه، والألوان كلها تدل على الزمن وكأنها دعوة إلى الماضي رمزا للتعايش مع الممكن الوجود، غير أن مخاطر (الشاعر) تمهد له الطريق للوصول والتقدم، لمعرفة الحياة والذات لأناه الشاعرية وتتنازع روح الشاعر عند اقترابه من الوصول إلى نهاية رحلته عدة انفعالات وأحاسيس مختلفة حول المكان المرغوب فيه، وكثرت التساؤلات حول وهمية المكان وحقيقته.
– من خلال هذا الفهم الأفقي لمضامين النص الشعري، يتأكد لنا وضعيتين أساسيتين تكشف عنها الذات الشاعرة.
الحاضرة المرفوضة: وهي ذات الشاعر في المدينة والموظف القديم.
مؤملة مطلوبة: وهي العيش في المدينة والسجن، ولا تغيب عنها الشمس.
تكشف لنا هذه المضامين رؤية وجودية وفكرية بالغة العمق، إنها تجربة ذاتية وموضوعية في آن واحد، فهي آنية تبرر تجربة الشاعر في محاولة الهرب من زيف المدينة، ومن واقع مهترئ ومن السجن ومن ذاته التي نشأت وترعرعت في ظل هذا الواقع المويوء، إلى الحديث عن واقع يكون أكثر صدقا، وتكون ذاتا أكثر طهرا، كتجربة موضوعية، لأن الشاعر بلمو هو شاعر يعبر عن رؤياه الذاتية في نبرة وتجربة عامة، ويصبح صوته صوت الجماعة والإنسانية بشكل عام، فإن موطن الشاعر بلمو المويوء يرمز لكل الرموز العربية الفاسدة.
-أما الشاعر فيرمز بذاته التي تريد أن أناه أن تسأل العالم لتؤسس واقعا جديدا، فإذا كانت التجربة الذاتية الموضوعية التي عبر عنها الشاعر، قد كشفت عن رؤيا سوية بالغة معجم الديوان فإنه يكشف عن تنوع قد يساهم في الكشف عن رؤيا الشاعر، حيث تراوح المعجم بين ما هو ذاتي / وجداني، وما هو فكري وجودي، كما تنحو كلماته وألفاظ اللغة المتداولة التي يمكن تصنيفها إلى حقلين: الرموز – السماء – النجوم – المطر – الحقول – الخرير – الربيع – البحر – الليل – الشتاء – التراب – الغناء.
الذات الإنسانية: أخرج – أرسم بحر يقتلني – عني – ثورة – حليمي – سرير فمي – مرايا الحزن – أبحث عن مستقر – الأشعة – الوطن – قال لك الجلاد – علمني كيف أقاتب – اضحك حتى تنفجر – الموت السجن أحيانا – السجناء – كيف يسقي ألمي المعتق.
إن العلاقة التي تسجلها النصوص الشعرية، تبين لنا التقنية التي شكلتها كل أنواع مظاهر الطبيعة، غير أن الآخر كان سببا في عرقلة مسيرته الاحتجاجية، لذا اطلع على العديد من الأساطير وكذا المعتقدات المتنوعة، وهذا الاطلاع المعرفي الأسطوري حاول فيه الشاعر أن يبث شكواه وأنينه ومشاعره، فاتخذت تجربته رؤية رمزية تتواصل عبر اللاشعور، والعبث، وعبر الأفكار الوجودية، من أجل بعث الأمة وانتصار الحياة على هذا الوجود العربي المهين و المذل، وهذا ما يتضح من خلال أربعة شعراء هم: أدونيس – خليل حاوي، وبدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، إذن سوف نتحدث عن أدونيس أولا وكيف تعامل مع الحياة والموت.
إن أدونيس يرى أن موته هو موت الأمة العربية وبعثه هو بعثها، لأنه مقتنع بفحولة التاريخ العربي وحضارته قبل الاستعمار، معتبرا إياه أنه جزء من هذا الواقع الميت، وأن موته هو مثل نوم الموجة في شاطئ البحر، لذا اتخذ شعره اتجاهين في تجربة الشاعر.
اتجاه يتحدد عبر التساؤل عن وسيلة للبحث والحياة.
واتجاه ثاني يكشف لنا مفهوم التحول في شعره بصفته وسيلة نحو البحث والتجدد
فهذان الاتجاهان يكتملان لأن الشاعر يؤمن بقدرة على التحول مقدما لنا مهيار قصيدة (تيمور ومهيار)، فمهيار رمز البعث، وتيمور رمز القهر والخضور، والاستعباد والموت، فصراع مهيار مع تيمور هو صراع أبدي يفضي في الأخير إلى عودة مهيار إلى الحياة رغم سجنه وقتله وحرقه، إذن من رماده ينبعث حيا جديدا موقف موقف، فاستوحى أيضا أسطورة الفينق الذي أحرق نفسه لكي يولد ويبعث من جديد أي من رماده واستلهم أيضا العنقاء التي تموت فيلتهب رمادها وتحيا به مثل حالة مهيار الذي احترق، ومن رماده انبثق مرة أخرى، فمهيار – والعنقاء، والفينيق هو عبارة عن إرادة الحياة لدى الأمة العربية، لأن هذه الإرادة لا تقهر أمام السلاطين ولا الجلادين.
أما الموقف الثاني الغير الموفق حسب الناقد فيتمثل في قصيدته (الأسماء)، حيث يحدث تحول فجائي لأن الشاعر لم يظهر لنا كيف سيتغير واقع الأمة العربية (في البيتيف 1- 2)، وأن القصيدة ستسير على نفس الوثيرة دون إظهار هذا التحول، ولا البعث، بل تنقلب الأشياء إلى ضدها دون تعليل ولا سوغ، لأن الشاعر في القصيدة متفائل تفاؤلا وهميا دون أن يقدم للقارئ حججا ولا براهين بل قدم له وهما وخوارق والناقد يرى أن أدونيس لم يقم حوارا مع زمن لم يجئ بعد، ولم يتح له أن يعرف من همومنا سوى الأحلام، وانطلاقا من هذا الطرح الأدونسي، ندرك أن الشعر عنده هو تشكيل وجودي، وبناء حفري، ونقد للذات المعولمة، لذا لقد شكلت الإشارات الرمزية والأسطورية ذات المنحى التاريخي والذاتي في تشكيل رؤيا الشاعر، حيث سعى إلى هدمها (صورتها) لبنائها مجددا لما تتطلب من ذلك بالرجوع إلى (النص) لمعرفة هذه الإشارات الفنية لمعرفة المرجعية الشارعية، الموظفة في النص والتي سعى من خلالها لتشكيل رؤياه.
لم تكن الجمل – العقلية والإسمية في معزل عن التمييز عن رؤيا الشاعر، فالإسمية توحي بالاستقرار والثبات، لأن الجمل الفعلية تدل على الحركة والدينامية، فهي تدل على رؤيا الشاعر، فرغم أن القصيدة لم تحقق البعث، حيث اكتفت بالوشي به، ولكن في قصيدة عودي أريج كي نرقص لبلمو قد حققت هذا البعث، والتجدد، فيهون العذاب والألم ويموت الموت من أجل الحياة، غير أن هذا البعث يرفض صيغة البعث المستعار الذي يتم عن طريق التقليد التماثلي واستعارة الوجود والسمات الحضارية العربية، وبمعنى أن الشاعر ينتصر ضمنا للبعث الآتي الذي ينبع من الجرح ومن أعماق الذات، فحدث هذا التحول الحقيقي في شعره في قصيدة “بريد الجثث” وقصيدة “عراء ومطر” باعتبارها قصيدة في الديوان، حيث ينطلق الشاعر نحو شرق جديد – رماد اليقين – مخلفا وراءه الرماد وكهوف الظلمة والموت، وأن الشاعر قدره هو المقاومة من أجل الحياة، وأنه عندما لا يجد مفرا من بيانات للحزن والقرح، فإن موته لا يكون أبديا كالسجن، وكبريد للجثث، بل إنه معبر إلى الحياة، ووسيلة إلى التطهير الأنطولوجي من رواسب الماضي، وحافزا إلى الثورة في هذه الحياة الجديدة، إذن فالشاعر بلمو يعيش تحولا وجدلا دائما بين الموت والحياة
فهذه الجدلية مرتبطة بالثورة والتمرد ضد كل ما هو ثابت من أجل انتصار الحياة على الموت، وهذا ما نراه في 18 – 26 – 52 – 57 – 78 – 87 – 90 – 94 – من الديوان.
أما ديوان “زر أسود لقتل الربيع” يشمل على قصائد تبدأ بالأمل وتنتهي إلى الخيبة لذا حدد في ثلاث عناصر:
– التطهر شرط البعث الأنطولوجي.
– الذات العربية لن تتطهر إلا بالشعر.
– البعث لن يتحقق إلا بالتأمل.
ففي القصيدة المسماة “وحدها النوافذ” يخطو خطوة أخرى نحو اليأس من الانتظار، وذلك من خلال اعتراف الشاعر كرمز العربي بموته وشكه في بعثه، وحدوث البعث بإرادة خارجية، في حين أن الإبداع الحقيقي ينبغي أن يكون بإرادة داخلية. ينتقل الشاعر بين الأمل – واليأس نظرا لتموجات الواقع العربي الذي انفعل الشاعر به ومعه ويقول: وانقلب تيار الهجرة على غرب موبوء – تهافت مهاجرون على قوارب موت كي يعودوا إلى دواوير الفقر المنيعة وحدها النوافذ – تشرع أبوابها وحدها كي لا أختنق.
ويقول صلاح فضل “في كتابه قراءة الصورة وصورة القراءة” ص5.
<<إن إيقاع هيمنتها على حياتنا المعاصرة وتوجيهاتها لأهم استراتيجيات التواصل الإنساني، يجعلانها بؤرة إنتاج المعنى في الثقافة المعاصرة، فمن يملك المناورة بالصورة، والتحكم في إنتاجها وتسويقها يستطيع إدارة الموقف لصالحه>> ص5.
إن العتبة أشبه بتلخيص تكثيفي لهذا الديوان “زر أسود لقتل الربيع” يضع المقولة في سياقها العام وداخل متناول القارئ، الذي من المؤكد أن يطالع هذه الصفحة قبل الشروع بقراءة الديوان، وتمثل به على هذا الصعيد إضاءة مجدية قد تشجعه على المضي في القراءة ورغبة في استكشاف طبيعية هذا الديوان وتموجاته الإيحائية، لأن بلمو تعايش مع الوجود والموجود المؤجل والممكن عن طريق التأمل الباطني، لكي يكون هو طريق روح اليقظة، لأن قصائده تحمل وحلا أنطولوجيا مفتوحا ليس على الساكن، بل بالدينامية الذي يفجر أركان اللغة الدرامية، فالديوان هو إبانة عن فعل الخصوبة وقوة الإحالة المرجعية، جعلت محمد بلمو يراقب الحداثة وما بعد الحداثة، كأدونيس والبياتي وأمل دنقل ومحمد بنيس، والمجاطي والسرغيني، لأن تجربته غدت إيقاع التعارض بين الصمت والكلام، والحياة والموت، والغربة والعزلة، مما ينجم عنه تقابل بين من يملك السلطة المعرفية، ومن يحتضر في دواخله، لأن الذات البلومية لا تكتمل إلا خارجها، حيث يظهر عالم البوح في وعيه، وفي تماسكه، لكي لا يغرى من طرف هذا الزر الأسود حيث يقول:
يغزو غرف النوم والمراحيض
يتسلل للسجون مع الأطعمة
يكتسح المدارس في كل محفظة
يرافق المرض مثل سيروم
لكل وزر زر.
ص94
فهذا الموقف من الزر المعولم، هو موقف من العالم المفروض، كأنها أسطورة المسيح الذي يربط بين بعثه وبعث الأمة رغم أنفها، دون أن يكون هذا العالم فداء للفقراء بل حياة للأغنياء، ويقول:
آه بني – أخاف عليك
فهذا الخوف هو الذي يأتيك من العالم المفترض، يرميك بخيلاء بين يديك، وأنت ساكن مثل صنم، يسجنك في مربع صغير، كأنه قبر مظلم، كما يقول السياب في قصيدته تموز جيكور، لأن هذا الناب يشق عالمه تنساب الدماء فتتحول ملحا، ويعود هذا الكائن إلى صنم لا يقاوم، وهذا الموت المحتضر هو أكثر المواضيع المعرفية اقلاقا للإنسان المعاصر، ذلك أنه يتصف بكينونة ووجود مصطنع، لذا حاول الشاعر بلمو عبر هذه الأمكنة معرفة أسرار هذا العالم (أخاف عليك، من ضحكة زر – وفخ زر – وإغراء زر- وديكتاتورية زر)ص97.
فالذات البلومية لا تكتمل إلا في روعتها وفي تماسكها كما قلت سابقا، مما يعطي لهذه الذات دلالتها الرمزية التي تجرى الإحالة عليها من خلال التأثير عن هذه التقاطعات الصمت والكلام، والحياة والموت، ويقول جاكوب <<إن الموت ما هو إلا ضعف هذا المبدأ المقاوم، والجسد الميت ما هو إلا الجسم الحي، وقد سقط في حوزة القوى الفيزيائية>> (الحياة والموت بين العلم والإسلام والتحليل النفسي) محمد الصدوقي ص65 فما دامت شخصية الشاعر تحقق الحضور كفضاء صاعد، يسهل الانتقال بها إلى البعيد عن الواقع المزيف، ليكون كمعادل كينوني إنساني، وليكون بذلك الديوان أكثر اتساعا ليفسح المجال للتحولات الرمزية والفكرية لمعرفة التعارضات الشعرية التي تحكم هذا المتخيل، فالقصائد المتنوعة تقوم على تعدد الأغراض التي يحتل فيها الفكر والوصف موقعا جوهريا، يقربنا من عمق التراب والنار ذلك النور الذي يشع في الديوان.
ويقول بلمو:
مهما بماء النار
توضأت
لا أثر في هذا الغمام الحكيم
لعينيك
ص44.
وتقول الطاوية:
بين النار والتراب
كلما أحكمت قبضتك عليه
انساب من الأصابع
كلما عالجته بالألفاظ
تاه بين النجوم
محمد الفاهم “شذرات فلسفية طاوية” 2018 ص40.
فمن خلال المقارنة ندرك أن هذه العلامات الدالة على الحركية التي عرفها شعر بلمو في تجاوزه مرحلة الموت إلى الحياة، لا تكون مأساوية ذاتوية كما عند خليل حاوي، ولا فداء كما عند السياب، ولا ثورة عند أمل دنقل، ولا عبثا عند الوجوديين، ولا لغة رمزية كما عند أندري بروتون، بل هي موجة رمزية إبداعية لا تقف عند مجرى هندسة ايروسية في توزيع الأسطر والوقفات، بل هي انفتاح على عوالم إنسانية خصبة في التعبير عن انفعالاته وقلقه الأنطولوجي.
ويقول:
لما تنسى دائما
إني صديق الحقول
وأن لي ذكريات مرح
مع الضفدع
النملة
النزهة
البيدر
وأني لم أمدح قط
غير الربيع رفقة حماري الأشهب
الديوان 66 – 67.
فهذه الرحلة هي موقف جديد من العالم، والأشياء، وهي التقاط شعري وجداني للعالم الطفولي يتجاوز الظاهر إلى الباطن، ويتجاوز الآني للوصول إلى الذاكرة ليكشف العلاقات الجديدة التي تعيد القصائد في ضوئها ترتيب وتزيين العوالم الممكنة لتنصهر فيها هذه الذات الطاوية، باعتبارها مشاركة وفاعلة ومنفعلة في هذه التجربة الطاوية
ويوما ما ستموت وحيدا في سريرك
وعبر النافذة المفتوحة
سيدخل المكلفون بطي الرسالة
ولن يجد العصفور الأزرق من يطعمه
ص78.
ويقول بلمو في هذا الصدد:
وأن علي أن أقيس خطواتي
أتسلح بمناديل الورق الكثيرة
كي أدفن رذاذي في المهد كلما عطست
وأن الطبيعة ترد صفعات رأسمال جشع
ص9.
فلغة هذه القصائد لغة غير منحطة تحصر مجالها في إطار معجم هندسي، يتطعم بألوان موسيقية وذوق يربط بين رحيل أريج، وبعث الصورة المتخيلة، حيث لا يتسلح إلا بالمناديل الورقية، وهذا يذكرني بأسطورة تموز وعشتار حينما مات تموز من طرف الخنزير، وسال دمه فتحول ملحا، ودفن في قبره، تحاول عشتار أن تلف عليه الأوراق، كي يستطيع أن يحيى وأن تنبض عروقه، ولكن الموت حوله إلى ظلمة في فمه كما يقول السياب، من هنا سيظل بلمو في شعره يحمل معاناته ووحشته وموته كأنه سيزيف يريد أن زمانا لاستكشاف أراضي جديدة، فإذا كان المعجم الذي استخدمه معجما وجوديا، ورومانسيا، فإن هذا لا يتساوى إلا مع البناء الموسيقي، معتمدا على السطر الشعري، ومستخدما السواد والبياض حسب الدفقة الشعورية، مستخدما تفعيلة مستفعلن، وتغير في الزحافات والعلل ومستخدما رؤيا متنوعا مرة (هما) ومرة (ر)، أما على مستوى القافية فتكون مسكونة (مفيدة) ومرة مطلقة، نجد منها متوترة، ومركبة.
أما على المستوى الوقفات:
فنجد السطر الشعري الأول قد تحقق فيه الوقفة العروضية والدلالية مفتعلن – متفعلن – مستفعلن – مفتعلان.
أما الإيقاع الداخلي ساهم في الكشف عن رؤيا الشاعر من ذلك التكرار:
تكرار الجمل: أو قربان لمصنع أو وقود لمدفع
تكرار الكلمات: لم يمهلني – سأعيد – تركت
تكرار الصوامت: الميم – الهمزة – الباء – النون – اللام.
الصوائت: اللام – والألف – والياء.
الصيغ المعرفية: المحروق – المسلوب – الطغاة – خندقي – الجدار.
لقد ساهمت هذه الصيغ الإيقاعية في تشكيل رؤيا شعرية، لإيجاد موقف من الحياة و الموت ومن الغربة والأمل.
خلاصة:
قد يبدو للشاعر أو القارئ لماذا اخترت هذا الديوان ولم أختر رماد اليقين، أو طعنات في ظهر الهواء، وحماقات السلمون وغيرها من الدواوين، لأن الديوان قصائد منشورة باستثناء قصيدتين، لذا ارتأيت أن يكون هذا الديوان قيثارة حداثية مؤطرة برؤية تجريبية، يولد مع ولادة الشاعر، باعتباره بعثا ونشوة أهل الصبوة ومعاناة المعري الذي لا يؤمن بالقيود ولا الانغلاق، إنه أبو الهندي و الاعشى بصناجته التي تطرب الأذن وتوزع المغايرة ليكون هناك الوجود، حيث يسير بنا إلى التاريخ وإلى الموسيقى والشعر، لأن الشاعر يعرف مغزى هذا الفن التعبيري، في مقدوره أن يحمل جسده إلى المطلق ليتجاوز النكبة والنكسة لكي ينجز لنا ديمومة التي تسمو بالروح الإنسانية بالجمال المضاعف لمواجهة هذه الذوات العابرة، فشعره لا يحاكي الماضي المغلق بقدر ما يتماهى لفعل الإبداع ليصل بنا إلى مرحلة التعالي الأفلاطوني، فرؤية الشاعر بلمو تغازل الكون ليكون كما قال درويش أنا ما أنا وأنا أخرى في ثنائية، وأنا حبة القمح التي ماتت (بوجمعة العوفي القصيدة العربية المعاصرة ص137). فبلمو لا زال يبحث عن إجابات مؤجلة لترضى أفقه، وليأخذ خياله عبر إجابات مؤجلة عبر النوافذ في الإبحار ليرى كريستوف كولمبوس، والسندباد، هكذا اختار زر الإبحار في مسارات المفترض ليغوص في القارات المتنوعة.