الهوية الفردية والجماعية في العصر الشبكي وإشكالياتها
بقلم: عماد خالد رحمة ـ برلين
كل إنسان في هذه المعمورة يسعى إلى العيش متواصلاً مع بني جنسه البشري، منذ أمد التاريخ وحتى اللحظة الراهنة كان الإنسان وما يزال بطبعه كائن اجتماعي . هذه اللحظة الفارقة في تاريخ البشرية التي تمكنّ فيها الناس من التواصل فيما بينهم من خلال الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) ووسائل التواصل الاجتماعي في وقتنا الحاضر، وهي لحظة مفارقة أيضاً إذا قاربناها بصلتها القوية والمباشرة بثورة الاتصالات والتطور التقني الهائل، حيث دخل الأفراد والمجتمعات ضمن علاقات أفقية واسعة الطيف والمساحة، من خلال العدد الهائل من منصّات التواصل الاجتماعي على تنوعها وتعدّدها . وهي التي قدَّمت لأوّل مرة في التاريخ البشري، فرصة المساواة في التعبير عن الذات الفردية والذات الجماعية، دون ضوابط وقوانين صارمة كالتي أنتجتها الدول والحكومات الشمولية، فقد فسحت تلك المنصَّات المجالَ لبناء علاقاتٍ اجتماعيةٍ مباشرة، وألغت كل التراتبيات المتأصّلة والراسخة في أعراف المجتمعات المدنية وغير المدنية، وفتحت الأبواب على مصاريعها لبناء علاقات مباشرة بين أشخاص لا تجمعهم روابط عائلية، أو مهنية أو وطنية، ومن دون أيّة اشتراطات مسبقة تعرقل عمليات التواصل الإنساني.
لقد تمكن الإنسان في ظل الثورة الصناعية الأولى من (اغتيال المسافات) بحسب ما وصفه الشاعر الألماني هاينرش هاينةHeinrich Heine (1797-1856) وهو من أهم الشعراء الألمان الرومانسيين ،عندما تم اختراع (الآلة البخارية)، أما اليوم فإنَّ الثورة الصناعية الرابعة أي ثورة الاتصالات والمعلومات الهائلة والمذهلة في آن، وثورة الذكاء الصناعي المدهشة، قد أزالت الكثير من الحدود أمام انتقال المعارف والعلوم والثقافات عبر البلدان، بل عبر القارات، وجعلتها متاحةً على نطاقٍ غير مسبوق في التاريخ البشري، لكنّها أيضاً وضعت الشخص للمرة الأولى أمام قضايا ومسائل جديدة وأسئلة غير معهودة، كانت في الأزمنة السابقة، واضحةً كل الوضوح، ولها إجابات شافية يقينية ووافية، من مثل مسألة الهوية التي تطرح نفسها بقوة. والتي تتلاحق الأسئلة المتشابكة حولها.
لقد تحدّث الباحث دارن بارني Darin Barney في كتابه الهام ( المجتمع الشبكي The Network Society) ترجمة أنور الجمعاوي عام 2015 م ،تجدّث عن أثر التقانة الشبكية في هوية كلّ من الفرد والجماعة، وعن نزع مادة الهويّة والجماعة من مناطقها الأصلية لتأخذ في التدفّق عبر الحدود الجيوسياسية بيُسرٍ متزايد، ودون أيّة عوائق، موضحاً أنّ دور الدولة القومية لم يتراجع فقط في ما يتعلق بالنشاط الاقتصادي والسياسي، وإنّما كذلك في قدرتها الفائقة على استيعاب الهوية وماهيتها ومدلولها. من هنا يبدو أنّ مفهوم الإشكالية مرتبطة بشكلٍ وثيق بوجود حالات الغموض والإلتباس في قضيةٍ ما، أو مسألةٍ ما. تمتد طويلاً حتى تصل إلى حالة اليقين، كما يطرح مفهوم الإشكالية جملة من الأسئلة المنطقية والافتراضية التي تجابه مسألة ما، أو قضية ما، في فرع من فروع المعرفة الإنسانية، ومن بين القضايا والمسائل الاجتماعية الأكثر جدلاً في العصر الشبكي (الشبكة العنكبوتية)، (الإنترنت نت)، مسألة الهوية. كما كتب الباحث فرانك وبستر Frank Webster كتاباً هاماً بعنوان : ( نظريات مجتمع المعلومات )،وهو كتابٌ هام يقدِّم فهماً خاصاً لأنفجار المعلومات، حيث يلقي نظرةً متشكِّكةً على ما يعنيه المفكرون والباحثون والمثقفون، عندما يشيرون إلى (مجتمع المعلومات)، ويفحص بشكلٍ نقدي النظريات والمناهج الرئيسية بعد الحرب لتطوير المعلومات. ويدرسُ وجهات نظر مختلفة حول (المعلومات) في العالم المعاصر، وفق معالجاته النظرية الجديد، والتغييرات الاجتماعية والتكنولوجية، (مثل النمو السريع للإنترنت). كما ظهر كتابٌ هامٌ جداً بعنوان : (مجتمع الشبكة) : لمؤلفه: (مانويل كاسستيلر Network society: Manuel Castells) أستاذ علم الاجتماع بجامعة سيتي في لندن.
في هذا السياق نجد أنَّ سؤال الهوية الرقمية بالمجتمع الرقمي ـ الشبكي يفرض ذاته بقوّة، ويهدف إلى إبراز ملامح (الأنا) أي الذات الإنسانية، كما يهدف إلى إبراز التحوّلات التي طالت البناء الهوياتي الأساسي للفرد في ظل الاستخدام الاجتماعي المفرط للتكنولوجيا الذكية، وشبكات التواصل الاجتماعي ومنصاتها المتنوعة والمختلفة، بحيث تبقى الهوية الذاتية (الأنا)، أي الهوية الشخصية من ضمن الأطر التي تأثَّرت بشكلٍ كبيرٍ بمفعولاتِ الثورةِ الرقميّةِ. بخاصة، الملامح الرئيسية للهوية الذاتية (الشخصية) في زمن الارتباطات الفائقة، حيث تتكوَّن من خلال التفاعلات والأنشطة الافتراضية بالفضاءات السيبرانية الواسعة .
فالوعي بـ (الأنا) أي الذات، وبناء الشخصية، هو نتاج للتفاعل بين الحياة العملية في الحياة العامة والواقع الافتراضي أمام الشاشات الزرقاء، وعلى الشبكات الاجتماعية، وجميع المنصات على تنوعها واختلافها، ما يفسح المجال لتشكّل وتكوّن هوية رقمية هجينة، سائلة ومرنة، فأمام الإندهاش والإنبهار الفاتن بالأجهزة الإلكترونية الرّقمية الذكية المتطورة، تعطّلت أنشطة الإنسان الذهنية والجسدية، وتوقف الإبداع وبَهُتَ الخيال، فأصبح معها إنسان المرئية الفائقة لا يعي ذاته (الأنا) إلّا أمام الشاشات المسطّحة والشاشات الزرقاء، ومن خلال الأنشطة الرقمية-الافتراضية المتعدّدة كالنشر دون رقيب أو حسيب، والسيلفي والنشر والتعليقات والإعجابات إلخ …، وبذلك، نكون إزاء بروز مبادئ هوياتية جديدة لم نعهدها من قبل، يتأسَّس عليها الوجود البشري بشكلٍ عام.
في هذا السياق نجد أنَّ الكم الهائل من الخصائص المتعلِّقة بكل مجتمع على حِدة، فعلى الرغم منَ التعميم واسع الانتشار الذي أحدثته العولمة المعلوماتية، إلَّا أنَّ وجود الفوارق الهائلة في التركيبات الاجتماعية وأنساقها وتراتبيتها، ما زالت تمنح خصائصها ومميزاتها وحساسياتها الاجتماعية المحلية، دوراً كبيراً في مسار النقاش الساخن، والجدل المثار حول الهوية وماهيتها .
في صميم التغيرات والتحوّلات الكبرى التي أحدثها العصر الشبكي (الشبة العنكبوتية)، يمتلك الفضاء على كامل اتساعه أهمية مركزية وخاصّة، فقد كانت المجتمعات في الماضي تجيب عن أسئلة الهوية المتنوعة، وترسم إطارها وحدودها في المجال الوطني والقومي بالدرجة الأولى. لكنَّ مفهوم الفضاء على الرغم من اتساعه المذهل، طرأت عليه تغييرات وتحوّلات مؤثرة في صياغة الأسئلة الجديدة والمتعدّدة حول الهوية أولاً، وفي تقديم الاجابات المتعدّدة والمتنوعة ثانياً، فلو عدنا قليلاً لمعرفة الهوية نجد أنه من البديهي أنَّ لديها إشكالات تحدّ بين( الأنا) و( الآخر). إلَّا أنَّ هذا الحدّ الفاصل بين (الأنا) و(الآخر) هو تماماً ما قامت معطيات وعناصر العصر الشبكي بالتأثير الكبير فيه، وأثارت الحاجة إلى إعادة تعريف الحدود والأطر المميّزة للهوية، أي إلى إعادة تعريف الهوية وماهيتها ذاتها.
هذا المسار يمكن أن يكون هو الذي يدفع نحو تعريف المجتمعات لذاتها (الأنا الجمعية) من جديد في بداياته، لكن ما هو واضح وجلي حتى الآن أنه يزعزع ويخلخل التعريفات السابقة المعروفة، أو أقلَّه يضعها أمام تحدّياتٍ جديدة لم تكن موجودة في السابق، وأيضاً أمام احتمالات في حدوث اختلالات واضطرابات من نوعٍ جديد، فالمنظومات بشكلٍ عام، والهوياتية بشكلٍ خاص، تتمتع بقدرٍ من القوة والصلابة أمام محاولات التغيير الجديدة، والقديم منها سيدافع عن نفسه على المدى الطويل، قبل أن يخلي مكانه للمنظومات الجديدة، والتي فيها جاذبية من نوعٍ ما، من دون أن يعني ذلك تبلور مكونات ومنظومات هوياتية جديدة واضحة المعالم، بل مؤشِّرات عامّة، يمكن القول إنَّها سمات خاصة للمنظومات الهوياتية الجديدة المُحدَثة .
المؤشرالأوَّل أو السمة الأكثر تجلياً في تشكيل الهويات في العصر الشبكي (الشبكة العنكبوتية) هو الميل إلى الليبرالية بما لها وما عليها، لكن هذه المرَّة في إطار ما فوق قومي، أي متجاوزةً للحدود القومية المرسومة جيوسياسياً، إذ إن هذا الميل ليس مرتبطاً بمجتمعات تعيش في ظل دول وحكومات ليبرالية حقوقياً واقتصادياً وسياسياً، بل بليبرالية الفضاء الشبكي العنكبوتي نفسه، وهي ليبرالية لم تأخذ حقّها الذي تستحقه بعد من البحث والتحليل والمتابعة، لكنها موجودة بقوّة الواقع الجديد لعصر الثورة الصناعية الرابعة، ثورة المعلومات والصناعات الذكية، وشرائح الهايتيك فائقة الذكاء، ولم يَعُد بالإمكان محاصرَتَها أو منعَها، أو الحدّ كثيراً من تأثيراتها المباشرة وغير المباشرة في الأفراد مختلفي الثقافات والجنسيات في العالم.
وإذا كان المؤشِّر الأوّل والسمة الأولى بنيوية الطابع، فإنَّ المؤشِّر الثاني والسمة الثانية وظيفية، تتعلَّق باستخدام ممكنات الشبكة الواسعة نفسها في إحداث تأثيراتٍ متعدّدةٍ معيّنة، في إطار ما يمكن تسميته (صناعة الهويّات) (identity industry) التي تأخذ شكل الصراعات والنزاعات والحروب، تخوضها مؤسسات وحكومات كبرى في العالم، التي تأخذ شكل الحروب، تخوضها حكومات ودول ومؤسسات كبرى، في إطار التأثير في مواطنيها بالدرجة الأولى، أو مواطني الدول الأخرى في القارات، عبر بناء ميول واتجاهات أيديولوجية تخدم توجهها ومصالحها.