عبد الجبار نوري
كاتب وباحث عراقي مقيم في السويد
ومضة لابُدّ منها
الذي حفزني للكتابة عن هذه القامة السامقة هو خبر رحيله المحزن والمفاجئ، وبلحظة قدر صادم يؤشر الكومبيوتر بخبر (عاجل): وفاة البروفيسور الأكاديمي “سمير أمين ” وقطعتُ قراءة مقالته المنشورة في موقع الحوار المتمدن بعنوان (مرور مئة عام على رحيل ماركس)، وبحركة حزن وأحباط تناولتُ كتابهُ المشهور (ما بعد الرأسمالية المتهالكة) لأطالعهُ للمرة الثانية بيد هذه المَّرة بحماس وأهتمام شديدين ربما لشعوري المحزن على فقدان أحد أساطين الاقتصاد السياسي في الوطن العربي وغيابه بسطوة فاجعة مصيبة الموت التي ذُكرتْ ـ من هولها ـ في سورة المائدة أية خمسة (— إن ضربتم في الأرض فأصابتكم (مصيبة) الموت، ومن خلال مطالعاتي أدمنتُ البحث عن ماهية وصيرورة فاجعة الموت لم أجد جواباً يشفي أرهاصاتي حتى فيما ذُكرفي أقوال الفلاسفة وبالتالي أستأنستُ إلى العبارة الخالدة للأديب الأنكليزي ” شكسبير ” الذي أحسن من عبر عن الموت في روايتهِ بوليوس قيصرGon for ever
الموضوع: سمير أمين مفككر الرأسمالية وصاحب نظرية (التطور اللامتكافيء) التي صاغها في سبعينات القرن الماضي محاولاً تفسير تخلف المنطقة العربية ومنها مصر ويهدف للخروج من مأزق الجمود والتخلف بتطبيق وبناء الأشتراكية ، ويستنتج المفكر الفذ: أن النظام الأشتراكي هو الذي سيسود العالم بعد أنهيار الرأسمالية وستتم عملية الانتقال انطلاقاً من العالم الثالث أي أطراف المركز الرأسمالي العالمي، هكذا كان الأعلام المصري والعربي والدولي يحاكي هذا المفكر العبقري اللامع، من مواليد 1931 الأسكندرية، وحاصل على شهادة الدكتورا عام 1956 من جامعة السوربون وهو أحد المفكرين الكبار الذي أثرى مجالهُ بأنجازاتهِ التي تزيد على 30 منجز، ستظل علامات مضيئة في ذاكرة التأريخ ، ترك سمير أمين العديد من الدراسات والكتب العلمية والفكرية التي تعد كمراجع أقتصادية وعلمية للباحثين في الشؤون الاقتصادية والعربية منها على سبيل المثال لا الحصر: ما بعد الرأسمالية المتهالكة، الأقتصاد السياسي للتنمية، في نقد الخطاب العربي الراهن، ثورة مصر، مذكراتي القومية وصراع الطبقات، أزمة الأمبريالية أزمة بنيوية ، المادية والتحريفية، حول الدين والدولة، ويمكن أستخلاص جهودهُ وعطاءاتهُ في منجز تحريك جمود النظريات الأقتصادية التقليدية ووضع حلول في تفكيكها وترويضها لخدمة الفقراء والكادحين في مصر والعالم، هو مفكر يستحق بجدارة لقب الماركسي النقدي المجدد والتجديدي ،لأنهُ يدعو في كتابهِ هذا إلى التخلص من تعريف الرأسمالية بأنّها نيولبرالية معولمة ، وأن القطاعات المسيطرة على رأس المال ليست تمثل أقتصاد السوق بل تمثل رأسمالية تجمعات احتكارات مالية ، وكان أميناً ووفياً للمادية الجدلية بيد أنّهُ (تحامل) على التجربة السوفيتية وبشكل عرضٍ فلسفي بأنّها مجرد (رأسمالية دولة) أي أداةٍ دولتيةٍ للمجتمع وقد أختلف شخصياً معهُ والكثيرين من الماركسيين معي ولكن لا مجال في تفنيد هذا المعتقد لأن كل مرحلة تأريخية لها خصوصيتها وتفرز تناقضاتها وصراعاتها وتحوّلْ قواها، سمير أمين تنبأ فشل ما يسمى بالربيع العربي مباشرة بعد بداية أحداثهِ مستنداً إلى قراءاته العميقة للحركات الأسلامية ودورها السلبي في المنطقة، فهو أشتراكيٌ يرى أستحالة تحقيق النمو الأقتصادي في بلدان العرب بأتباع النموذج الرأسمالي الغربي الآن أي أندماج في هذا النظام الرأسمالي يؤدي إلى تعميق تخلف المنطقة .
كتاب “ما بعد الرأسمالية المتهالكة” تأليف الدكتور سمير أمين هو من أهم مؤلفات الكاتب وأكثرها رواجاً، وضح فيه نظريته وقانونهِ في موضوع (اللامتكافيء) هو أن النظام الأشتراكي هو الذي سيسود العالم بعد أنهيار الرأسمالية وللتوضيح أكثر يقول: ستتم عملية الأنتقال أنطلاقاً من العالم الثالث بصفتهِ يشكل أطراف النظام الرأسمالي العالمي الذي يزداد فيه الفقر والبطالة والبؤس ستقع فيها حتماً ثورة أشتراكية لأن بلدانها غير صناعية وهنا يناقض ماركس الذي يؤكد : كلما توسعت فيها الرأسمالية أكثر فأكثر يكون حتما متطور صناعياً، ووظف سمير في كتابه هذا أستثمار آرائه في المجال الأقتصادي إلى المجال الثقافي حين يجعل ثقافتنا مرنة غير منغلقة يمكنها أن تخرجنا من عنق الزجاجة التي نعيشها اليوم في صراعات ترقى للحروب الأهلية الهوياتية الطائفية فهو يثيرفي الكتاب موضوعا حساسا قابلاً للجدل والتصادم الذي هو: (فك ارتباط الثقافة العربية المشرقية المرتبطة بالدين الأسلامي والتي تعتبر بنظر الناس مقدسة التي ترفض كل جديد وتنظر إلى الثقافات الأخرى بأستهجان ربما أحيانا تتهم أصحاب هذا الرأي بالكفر والإلحاد بأعتقادي أنها ثورة أصلاحية للأمين تذكرني بآراء المصلح الديني السوداني (محمود محمد طه) الذي أتهم بالكفر وأعدم على يد النميري بتأييد من الأزهر الشريف ، وهذه هي ظواهر التأكل :
-انهيار السلام العالمي بعد حرب الخليج1993 وأحداث أيلول 2001 .
– احتكار الثروة في يد فئة قليلة مقابل أنتشار الفقر على المستوى العالمي أن 20% من سكان العالم يحتكرون 80 % من ثرواتهِ، وأن العالم الأسلامي كان يسودهُ رأسمالية تجارية مزدهرة لكن هذه الرأسمالية لم تستطع الأنتقال إلى رأسمالية صناعية .
– تراجع الديمقراطية في معظم الدول، والكتاب يكذب وعود اللبرالية ومزاعمها وذلك لأن منظري الرأسمالية يدعون بأنها ظواهر عابرة ، والصحيح أن القطاعات المسيطرة على رأس الما ل هي الإمبريالية الرأسمالية.
– وتعرض العالم لأزمات مالية متكررة تعكس أزمة حقيقية في الأقتصاد العالمي وهو فعلا أنحراف مالي أدى إلى شلل النمو والبنية الأنتاجية وركود نسبي في الأنتاج .
– تراجع مداخيل العمال وأرتفاع نسبة البطالة والمزيد من الهشاشة الأجتماعية وتعميق الفقر في دول جنوب الكرة الأرضية، وأضمحلال ثروات الكوكب بشكلٍ تدريجي واضح فالدول الغنية يسكنها 15% من سكان العالم تستحوذ على 85% منن ثروات الأرض .
– ويشير المؤلف أن خلال العقدين من القرن العشرين بدأ الخطاب النيولبرالي بالتعثر فخلال بضع سنوات تأكل أكثريات التجمعات الرأسمالية وتضخمت بأنهيار الأسطورة السوفيتية .
– ويقول المؤلف في الفصل السادس من الكتاب : {ما نشهدهُ اليوم من علامات مؤشرة على تهالك الرأسمالية وضرورة أنتهاج الأشتراكية كضرورة موضوعية للإنسانية برمتها أن انتهاج الطريق هو أنتقال طويل لا مجرد بناء منجز للاشتراكية هنا وهناك، وأولى ظواهر التهالك: هي تلك الآثارالبعيدة المدى للثورة العلمية والتقنية الجارية، وثاني ظواهر التهالك: أنهُ لم تعد الإمبريالية الجماعية الفاعلة على مجمل النظام العالمي تسمح بمتابعة التطور الرأسمالي والتابع لعدة أطراف} .
ويضع المؤلف بعض الحلول الموضوعية للوضع الراهن:
إعادة إيجاد تنظيمات مناسبة وكافية من العمال، ممارسة ديمقراطية لها علاقة وطيدة ومؤثرة بالتقدم الأجتماعي وسيادة الشعوب، التحررمن فايروس أسطورة تمجيد الفرد بل المطلوب البديل الجماعي المشارك الفعلي في العملية السياسية، رفض أنماط الحياة المرتبطة بالرأسمالية البطريركية الذكورية والنزعة الأستهلاكية المتجهة نحو تدمير الكرة الأرضية، التحرر من ملف شمال الأطلسي ذات النزعة العسكرية الملازمة لهُ التي ترغم الشعوب بقبول (الأبرتهايد) للتمييز العنصري على الصعيد العالمي ، السيادة الوطنية على الأسواق المالية والنقدية والأشراف المباشر على التكنلوجيا الحديثة ، تغيير مسار احتكار (منظمة التجارة العالمية) التي هي تحت السيطرة العسكرية للولايات المتحدة الأمريكية، أممية العمال والشعوب تمثل الضمانات الوحيدة لأعادة بناء عالم آخر أفضل متعدد الأقطاب ديمقراطي الذي يقدم بديلا وحيدا لبربرية الرأسمالية المتهالكة من أجل أشتراكية القرن الواحد والعشرين هو المطلب الرئيسي الضروري للشعوب في هذه الظروف المعقدة والآيلة إلى التهالك وحسب رأي المؤلف: يجب أن يصبح الهدف الرئيسي هو النضال من أجل تأسيس جبهة أممية من العمال والشعوب لمواجهة زحف الرأسمالية الأمبريالية .
في تموز2023