الأنا الاستعمارية المتعالية.. في المسيحية اليهودية
بقلم: إبراهيم محمد الهمداني| شاعر وأديب يمني
لم تقف مسرحية القوى الاستعمارية العالمية الهزلية، عند حد معين، بل استمرت في ممارسة جنونها وشذوذها السياسي والأخلاقي، وصناعة المفارقات المضحكة المبكية في الوقت نفسه، فهي مستمرة في ممارسة الكذب والخداع، بحق البسطاء من أبناء الشعوب النامية، لتمرير مشاريعها الاستعمارية، وإحكام قبضتها على مصادر الثروات والمواقع الاستراتيجية، واستعباد وتدجين أكبر عدد من البشر، ففي الوقت الذي مازالت فيه الحضارة الغرب/ أوروبية، تمارس سياسة التمييز العنصري، ضد ذوي البشرة السوداء، سواء من السكان الأصليين، أو من الوافدين من القارة السمراء، وتمارس بحقهم أقبح وأقذر سياسات التمييز، وصولا إلى تهميشهم وسلب حقوقهم كبشر، والاستمرار في قتلهم بدم بارد، لسبب أو بدون سبب، والتلذذ بممارسة عمليات القتل الوحشية بحقهم، ولم ولن تكن حادثة قتل المواطن الأسود، جورج فلويد، هي الأخيرة، في ظل عالم مسحور، بوهم سلطة الإعلام الرقمي، حيث كانت أقصى مظاهر سلطته وإدانته، تعميم هاشتاق “#لاأستطيع التنفس #I_Can,t_Breathe”، وتحويل آخر عبارة نطقها الضحية الأسود – وهو يرزح تحت أقدام الشرطي الأبيض – إلى ترند عالمي، حظي بتفاعل آني، ما لبث أن اختفى من المشهد السياسي العالمي، وسقط في ذاكرة الحماس المؤقت، لتشهد تلك العبارة، على مدى القهر والقمع والكبت والقتل المجاني، وتسلط النظام الأمريكي، بحق ذوي البشرة السوداء، الذين يقدمهم الإعلام الإمبريالي دائما، بوصفهم مصدرا للشر المطلق، والخيانة والخداع والجريمة، ولذلك يجب قتلهم مسبقا، وهذا يعكس بجلاء، حقيقة المسيحية الصهيونية الأمريكية، القائمة على عقيدة أفضلية الأنا الأبيض مطلقا، مقابل دونية الآخر – عامة والأسود على وجه الخصوص – الذي لا يعدو كونه زائدة دودية في تركيبة مجتمع التطور الحضاري، ومظهرا قبيحا يسيئ إلى
صورة الحضارة ورائدها الأمريكي، علاوة على كونه – بسبب لونه فقط – خطرا وجوديا محدقا بالمجتمع الإنساني، وهذه العقيدة العنصرية اليهودية الصهيونية، التي تشبعت بها المسيحية الأمريكية، تتعارض تماما مع منظومة القيم والمبادئ الحضارية، ومزاعم العدالة والمساواة، وحماية الحقوق والحريات والاحترام المتبادل، التي يتقنع خلفها الرائد الحضاري، في تموضعه الإمبريالي العنصري المقيت، المتجذر تاريخيا، منذ عمليات التطهير العرقي، وحروب الإبادات الجماعية، التي مارسها المستعمر الأمريكي المتوحش، بحق السكان الأصليين من الهنود الحمر، الذين تعرضوا لأسوأ وأبشع عمليات التعذيب والاضطهاد، والقتل والتشريد والإبادة، بأقبح الطرق والوسائل، وأكثرها وحشية وإجراما، في عملية محو وجودية مزدوجة، استهدفتهم – أولا – معرفيا، بوضعهم في سجن اسم لا يدل عليهم، “الهنود الحمر”، فلا هم هنود، ولا سحنتهم التي تميل إلى الحمرة، تثبت صلتهم التاريخية بالمكان، ثم تلى ذلك استهدافهم وجوديا، بعمليات الإبادة والتطهير العرقي، وصولا إلى محو ذاكرة المكان والزمان، من حضور شعب بأكمله، ملأ أركان تلك الأرض وتاريخها، حياة ورفاهية وحضارة، على مدى مئات السنين، ولكن حتى الأرض لم تسلم من اغتيال ذلك الوافد المستعمر اللقيط، الذي طمس اسمها الحقيقي الأصلي، من مدونات الأركيولوجيا الإنسانية، ونسبها لنفسه زورا، بتسميتها “أمريكا”، لتمثل انعكاس القاتل اللقيط، وسيادة اللص الجبان، وحضور اللئيم الطارئ.
إن طمس هوية المكان التاريخية والحضارية، وتحويله إلى مولود لقيط، باسم “أمريكا” النكرة، لم يمنح المستعمر الأمريكي، حق التملك الأبدي، وشرعية الوجود المطلق، لأن المكان الجديد “أمريكا”، لا يستطيع أن يمنح المستوطن الجديد “الأمريكي”، حضورا تاريخيا أو وجوديا أو حضاريا، متأصلا في أعماق الزمن، مثل بقية الأمم والشعوب، في مختلف بقاع الأرض، بل إن المكان في تموضعه الاسمى الجديد، سيكون شاهدا حيا، على إجرام قاتل قذر، ولص لقيط، مارس القتل والنهب والتوحش، واحترف الاغتيال التاريخي والحضاري، بحق الإنسان والمكان، ثم أعلن نفسه سيدا على هذا العالم، وارتدى مسوح الصلاح، وثياب الزهاد الأتقياء، متعهدا بحماية الحقوق والحريات، ونشر العدالة والمساواة، والحضارة والرفاهية، بين جميع شعوب العالم، دون تمييز بينهم.
كما أن عملية طمس هوية المكان، لم تفلح في إضفاء أي شرعية على وجود المستعمر الطارئ، كذلك لم تفلح عمليات طمس وتشويه هوية الإنسان، تحت مسمى “الهنود الحمر”، في سلب السكان الأصليين، حقهم الوجودي والتاريخي والحضاري، الذي مازال يضج في أرجاء المكان، فتسميتهم “هنودا”، لم تدل على أنهم دخلاء على المكان، كما توهم المستعمر الأمريكي، ووصفهم ب “الحمر”، على ما كان لهذه الكلمة من دلالات الشر والإجرام آنذاك، لم يشرعن أو يبرر للقاتل الأمريكي، ما ارتكبه بحقهم من توحش وإبادة وإجرام، وبذلك يمكن القول إن اختيار هذه التسمية، من قبل المستعمر الأمريكي، لم تكن اعتباطا أو وليدة الصدفة، وإنما هي نتاج عقلية استعمارية، موغلة في الإجرام والتوحش والانحراف واللصوصية، ومتشبعة بعقدة الأنا المتعالية، المنحدرة من طبيعة الأيديولوجيا والنفسية اليهودية الصهيونية المنحرفة، التي ترى نفسها فوق جميع البشر، وترى أن لها الحق في استيطان وحكم العالم، واستعباد جميع سكانه، كما أن لها الحق المطلق، في قتلهم وإبادتهم، دون أن تحمل أي إثم، كونهم أدنى منزلة من الحيوانات، ولذلك يجب التخلص منهم، والإبقاء على القليل منهم، بقدر ما تستدعيه ضرورة الانتفاع بهم فقط.
بهذا المنطق المتعالي المتطرف، سادت أمريكا العالم، ومارست أبشع الجرائم والانتهاكات، بذريعة نشر وتعميم مشروعها الحضاري الإنساني، وبذات المنطق احتلت دول أوروبا القارة الأفريقية، طمعا في ثرواتها وخيراتها، وقتلت أكثر من ثلثي سكانها، وسخرت الثلث الباقي لخدمتها، وملء خزائنها بأطنان الذهب والألماس، وملء خزاناتها بالنفط والفحم، وغيرها من مصادر الطاقة والمعادن، وملء أسواقها بالحبوب والخضروات والفواكه، واستنزاف سلة العالم الغذائية، ولم تكن وحشية المستعمر الأوروبي أقل من نظيره الأمريكي، بل يمكن القول إنهما مارسا كل وسائل الإجرام والتوحش والقتل واللصوصية، من ذات المنطلق العقائدي المحرف، في تموضع الأنا المتعالية، ودونية الآخر/ الأفريقي المطلقة، الذي يملك الثروات والخيرات، ولكنه لا يستحقها، لأنه يجسد بيئة التخلف وموطن الانحطاط، ويحمل خلف سواد لونه، كل مظاهر الشرور والعنف والتمرد، ولذلك فهو يشكل خطرا وجوديا، على حضارة ورقي وتطور الرجل الأبيض، صاحب الدم النقي والعرق المقدس.
مما لاشك فيه أن القوى الاستعمارية، لم تحمل – في يوم من الأيام – مشروعا حضاريا، ولم يكن في جعبتها أي رصيد أخلاقي أو إنساني أو قيمي، ولم تكن مظاهر التطور التكنولوجي، سوى خطوط إنتاج استهلاكية، كان ضرها أكثر من نفعها، بالنسبة للشعوب المستضعفة النامية، التي تحولت إلى أسواق مفتوحة على مصراعيها، في سياق الاستهلاك الشامل، لكل منتجات الثورة الصناعية والاتصالات والتكنولوجيا، دون أن تعرف طرق استخدامها الصحيحة، ناهيك عن معرفة مكوناتها، وكيفية صناعتها، وكل ما تمتلكه تلك القوى الاستعمارية، هو مشاريع الاستعباد والتدمير، وآلات القتل والإجرام، وأسلحة الدمار الشامل، بمختلف أنواعها، وأما مشروعها التقدمي الإنساني، فليس سوى ذلك المشروع الشيطاني الخبيث، القائم على إشاعة الانحلال والتفسخ والإلحاد، وهدم كل القيم والنظم الدينية والأخلاقية، تحت مسمى التحرر، وهدم كيان المجتمع، تحت مسمى حرية المرأة، ومحو كل أثر أو مظهر من مظاهر الفضيلة، وتعميم الرذيلة بكل أشكالها وتجسداتها، من الاختلاط والانحلال، وتشجيع الزنا والمثلية، التي دعا إليها الرئيس الأمريكي الحالي (بايدن)، مؤكدا على أن أمريكا – قائدة العالم وحاملة المشروع الحضاري – أمة مثلية، وبناء على ذلك، فإن كل من رضي ولاية أمريكا، فهو مثلها، سواء سواء، لتصبح المثلية المدعومة من الإدارة الأمريكية، والمفروضة على حلفائها واتباعها، بمثابة آخر تقليعة في عالم موضة المشروع الإمبريالي العالمي، الذي تحركه أصابع اللوبي الصهيوني.
ولا تختلف دول أوروبا الاستعمارية، عن نظيرتها الولايات المتحدة الأمريكية، فالمشروع الحضاري واحد، والموجه والمعلم الصهيوني واحد، وبذات القدر من المثلية الأمريكية، تظهر المثلية الأوروبية،
إن لم تكن أكثر حضورا وحدة، والهدف من وراء ذلك واحد، وهو إفساد النفس البشرية، وتدنيسها وإغراقها في المفاسد والشرور، وبالتالي سلبها معية الله وتوفيقه، وتهيئتها لخدمة عدوها الشيطان الرجيم، فهل تنجح في مسعاها، وإلى أي مدى يمكنها إرغام حلفائها – خاصة العرب والمسلمين – في المضي قدما معها، وهل سيستمر صمت الشعوب العربية والإسلامية، إزاء حكامها الموالين لأمريكا وبريطانيا، خاصة وأن أنظمة وشعوبا ليست عربية ولا إسلامية، وقفت ضد الهيمنة الأمريكية والبريطانية، ورفضت الانصياع لمشاريعها الهدامة، حفاظا على كرامتها، وانتصارا لكل القيم والمبادئ والأخلاق الإنسانية، كما هو الحال عند شعوب أمريكا اللاتينية.