مقال

بلاغة العوام

بقلم: رضا راشد من علماء الأزهر الشريف
أزعم أن حسنَ التعبير عن المعاني بجميل المباني والحرصَ على ذلك، فطرة أودعها الله في النفوس البشرية عامة، تجري منها كما يجري الدم في العروق؛ وذلك أن بالنفوس عامه من الحاجة إلى حسن الإبانة عن معانيها ومشاعرها ما بنفوس الفصحاء والأدباء من الحاجة إلى ذلك سواء بسواء، غير أن سبيل الإبانة عن المعاني والمشاعر مختلف: هذا بالاساليب الفصيحة، وذلك باللغة العامية.

وهذا ينبهنا إلى أن في كلام العوام من الأساليب البلاغية ما هو جدير بالتنبه له والالتفات إليه؛ لا تشجيعا على العامية، بل تأكيد على فطرية البلاغة في نفوس البشر عامة.

ومما يدل على ما يكتنزه كلام العوام من الفنون البلاغية ما ذكره الأستاذ عبد العليم إبراهيم أحد علماء التربية في كتابه الماتع (الموجه الفني لمدرسي اللغه العربية) في طريقه تدريس البلاغه، من أنه يحسن بمعلم البلاغة أن يمهد لشرح درس البلاغة بأمثلة من كلام العوام تشتمل على الفن البلاغي الذي يدرسه ،ثم ينتقل منها بطلابه بعد ذلك إلى أمثلة من الكلام الفصيح؛ تقريبا لهذه الفنون إلى أذهان الطلاب، وما كان ذلك ليكون لو أن كلام العوام خلو من البلاغة

وإن شئت تأكيدا على صحة ذلك فما عليك إلا أن ترعي سمعك لباعة الخضروات والفواكه في الأسواق: كيف يستعينون على ترويج بضاعتهم وبيع سلعهم بالفنون البلاغية المختلفة من التشبيه والمجاز والكناية ..وغيرها، والأمثلة على ذلك كثيرة: ألم تر إلى بائعي الطماطم مثلا لما عرفوا أن حمرتها مفضلة لدى الناس شبهوها بالورد شبهوها بالورد فقالوا: (زي الورد يا طماطم)؛ تشبيها لم يراع فيه اللون فقط – وإلا لشبهوها بأي شيء أحمر غير الورد (كالدم مثلا) -، وإنما أرادوا طيب أثرها في النفوس طيبا يجعلها تتقبلها قبولا حسنا كما تتقبل الورد …وعلى هذا فَقِس.

وأذكر أنني وأنا في الصف الرابع الثانوي الأزهري (سنة ١٩٩١) – وكنا ندرس كتاب (أسرار البيان) للدكتور علي العماري رحمه الله، وفيه درس (التشبيه المقلوب) – سمعت منشدا ينشد فيقول: «الحلوة شفتها والقمر زيها» فانتبهت إلى ما في الأغنية من المبالغة في وصف هذه المرأة الحسناء “الحلوة” من جمال، وذلك من خلال التشبيه المقلوب الذي جعلها هي الأصل في الجمال وجعل القمر – الذي كان ينبغي أن يكون هو الأصل في الجمال- فرعا بالنسبه لها: يشبه بها ويقاس عليها؛ بناء على ما تعارف عليه البلاغيون من أن المشبه به يجب أن يكون أقوى وأشهر في الاتصاف بوجه الشبه من المشبه، فإذا قلب التشبيه فصار المشبه مشبها به والمشبه به مشبها، ففي ذلك مبالغة بادعاء أن المشبه -بجعله مشبها به – صار هو الأصل في الصفة يقاس عليه ويشبه به.

وإنما استدعى هذا من عميق الذاكرة ما جرى على ألسنة أحد العوام لما رأى رجلا كبيرا قد تجاوز الخمس والثمانين من عمره من غير أن يبدو عليه أي أثر من أثار الشيخوخة، مما يوهم من يراه أنه أقل من عمره عشرين أو ثلاثين سنة، فقال هذا العامي عن هذا الرجل الكبير :«ده منضربش فيه مفك»
أي أنه على حاله منذ كان شابا لم يَنْتَبْهُ من الأمراض ما يجعله شيخا ولم يَعْتَرِهِ من آثار الشيخوخه ما يظهر على وجهه، وإنما قال هذا تشبيها له بالسيارة الجديدة التي ما زالت على حالتها التي اشتُريت عليها أول مرة، وانها لم يصبها من العطب ما يحوج الميكانيكي الى أن يستعمل فيها أدواته (من مفك وشاكوش وغيرها) ..وهذا الأسلوب كما تعلمون كناية عما يتمتهع به هذا الشيخ الكبيرمن صحة جيدة كنايةً مبناها على التشبيه.

فهل كان في ذلك كله لفت لنا إلى أن نعمل عين النظر والبصيرة في كلام العوام؛ استخراجا لما فيه من أساليب بلاغية وفنون بيانية لننسق منها معجما بلاغيا يكون وسيلتنا التي نمهد بها إلى تقريب فنون البلاغة من نفوس الناشئة؛ حتى يتيقنوا أن علم البلاغة علم حيوي تحتاجه الامة بشتى طوائفها في مجالات الحياة الكثيره والمتنوعة ، وأنه لا يقتصر استعماله على الأدباء والفصحاء فحسب؟! وهل يمكن أن يكون في تدبر كلام العوام وتحليله استخراجا لما فيه من أساليب بلاغية فائدة أخرى غير تقريب مفاهيم الفنون البلاغية من نفوس الناشئة ؟!أجيبوني يرحمكم الله

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى