أدب

قراءة في شعر عبدالرزاق الربيعي

كيمياء وعي الذات.. رحلة الأشكال الهندسية ولعبة التقارب والفراغ

د. رائدة العامري
    قصيدة (دوائر أرخميدس المفتوحة) من ديوان ننام ويحرسنا ليل أمس للشاعر عبد الرزاق الربيعي من النصوص التي تحمل شفرات تأويلية يصعب فك عوالمها؛ وتحملُ زخماً رمزياً لصورةٍ متحركةٍ تجمعُ بين حركةِ الأشكال الهندسةِ وصمت وقلق كيان الذاتِ. رحلة إبداعية لتغيير الفراغ والتلاعب بالأبعاد مع الهندسةِ الشعريةِ: الدائرة، المثلث، المربع ، المستطيل.. هي معادل موضوعي للمسكوت عنه، تسهمُ في إيصال شفرة تلعب دورًا في خلق توازنٍ للهيكل البصري في النص ذي تأثيرات تمنح تناغماً في تشكيل صورة شاملة كرموز للتعبير عن المشاعر والأفكار ذات تأثير جمالي، يتناغم بإيقاع خاص في النص، لخلق تأثيرات تناغم الأشكال، والتلاعب بالأبعاد، وذلك لتغيير الفراغ برحلة مثيرة لــ(دوائر أرخميدس المفتوحة) *. بكيمياء وعي الذات الذي يشير إلى العلاقة المتبادلة بين الشاعر والقارئ، واعياً لذاته، يتمكن من التعبير عن مشاعرهِ وأفكارِه بعمق دلالي، فضلاً عن تشكيل الروح الشعرية وإيصال رسائِلهِ بطريقة مؤثرةٍ وعميقة في تبادل الانفعالات بتناغم وتجانس  بين وعي الشاعر والأداء الشعري الذي يتجلى في الصوت والأسلوب والأفكار.


     استخدم الشاعر الصور والرموز، وذلك لإثارة الأحاسيس والمشاعر لدى القارئ على مستوى عاطفي وفكري تؤكده تجربة  الشاعر الربيعي للحياة، ويسهم في إثراء الثقافة الشعريةِ والأدبيةِ. والقدرة على التعبير عن الذاتِ والهويةِ، وفهم وتجربةِ العالمِ الداخلي، والتعاطف والتفاعلِ مع الذات. وكما ورد في كلمة الأستاذ الدكتور حاتم الصكر على غلاف الديوان يقول مؤكدا ما قلته،(يوظف الربيعي موسوعيته الثقافية في توصيل الدلالة فتحتشد نصوصه بالإشارات والإحالات والرموز ذات المرجعية الفكرية التي تدعم الملفوظ النصي، وتنشط بفعل القراءة الاستمداد من ذلك الغنى والثراء) (1)
    عتبة القصيدة  العنوانية نمط هندسي رمزي مجازي متشابك لسلسلةِ دوائرَ لا متناهية، بانسيابيةٍ واستمرارية بعمق المشاعر المتدفقة، رحلة ملهمة في متاهاتِ مداراتها الغامضة ومفاتيحها الخفية. لا تعرف حدوداً للنمو الروحي، فكر مفتوح الإحساس بالبقاءِ، كدوائر أرخميدس المفتوحةِ، رمزية عميقة في إظهار الارتباط بين الأفكار المختلفة وتلاحمها. عتبة تعكس تناقضًا مثيرًا ترمز لشفرةِ الحدودِ والعقباتِ سر الهندسةِ الروحانية.
   وظف الشاعر في النص ثيمة رمزية عن العالم أرخميدس، تشير إلى اكتشافِ المضمرِ للذاتِ واللمحةِ الذكيةِ للقارئ في الحفرِ العميق عن روح حفريات النص والبحث عن عوالمِ الآخرِ في تحدي الصعاب والتغلب على العراقيل المهيمنة.

 
    يخط الشاعر حروفا يكتبها مراراً وتكراراً تلامس الذات والآخر بتشابك الأفكار استلهاماً من فكرة الدوائر. فيحصل التناغم بين عمق المعاني الخفية لــ(دوائر أرخميدس المفتوحة)، دوائر تخلق سحر تأثيرها على الذهن. تدور بتداخل وتناغم بينها وبين غربة الذات المنكسرة، تعزف على وتر الألم والحزن لكسر القيود التي تنطوي على حركة متغيرة تتخطي الصعاب لتعيد تشكيل تحقيق الأحلام عبر الزمن، دوائر تتخطى القيود، تفتح حدود المكنونات والمكبوتات، وتتجاوز التحديات والصعاب بتوازن وانسجام في أفق مفتوح للوقوف على الدلالات المضمرة للذات المبدعة. يقول الربيعي:
أرواحنا دوائر
أشباحنا تلوذ
في مدائن الصباح بالدوائر(2)
   يرمز النص إلى تفاعل تأثير دوائر الأرواح المتشابكة بعمق التفاعلات المنغمسة في الألم و القلق، الوحدة، الشجاعة، هي الأرواح في دورانها وامتداد طبيعي يعكس تحولات التداخل والترابط واحتكاك الذات مع الآخر، كأشباح تلوذ بإحساس متناقض يتلاعب متخفياً بين الشوق والغموض المعبر عن خيال الأفكار المؤلمة والصراعات الداخلية. وظفها الشاعر برؤية ذكية لخلق توتر يكسر أفق توقع القارئ بغموض الثيمة في إيصال رسالة ذات إيحاء جمالي مكبوت. 
  يتحلى النص بقوة إبداعية وآلية مشفرة تنبض بتأويل ذي رؤية تحمل توازناً ذاتياً فاعلاً اجتماعيا وباستنطاق متداخل، يرسم الدوائر بصور ذات بعد رمزي. في مدائن الصباح بالدوائر، يشير إلى تغير الزمان والدوران والتكرار، بإيقاع حركة تداخل الأفكار المتشابكة بدوائر الجمال والارتباط العميق بالطبيعة والكون والبدء الجديد والتجدد. و يقرنها بهوية الذات وفرادته بقوة وشمولية. إذ يقول:
أسماؤنا
في كوننا المضاء بالأفلاك
والأقمار
في عليائها، دوائر
يحملُ النص لعبة ذكية وقوة التعبير والتأثير، مع تناغم كهمس غامض  ملون بألوان الحركة والتغيير،تجسيداً لثورة الذات المحتفية بثيمة رمزية كونية متجددة لرحلة الروح ، جمال عمق التعبير عن الهوية، يمنح إحساساً ثقافيا تاريخيا. 
        الاسم رمز شخصي وانطباع ملموس لا يسقط في العدم، ينسج  ألفاظاً بتجسيد يولد الاستدعاء وشد ارتباط الذات.. رحلة تفتح عوالم الكلمات وأبواب هوية الانتماء للذاتِ والآخر، تكشفُ تمايلَ الأحرفِ في الأفلاكِ والأقمارِ بإعجابٍ ودهشة، إذ يتعانق الحرف والهمس في الأفق بفضاء الخيالِ كرمزٍ يمتزج بثقافة الفكر وصراع الوجود، التي تتجاوز مغامرة الزمانِ والمكانِ، كيمياء ترمزُ إلى الوجود الملموس لتعكس همسات القلب وأحاسيس الروح، إشارة  إلى قوة الإبداع والجمال والتحدي على التأثيرِ والتأملِ، كون أسمائنا أجزاء لا تتجزأ من الهويةِ والترابطِ  الوجودي، إذ يقول:
وجودنا المرسوم
في أكفّنا دوائر
مثلثات الحب
في مربع الحرب
ومستطيل حزننا المكابر
دوائرٌ
دوائرٌ
     النص سمفونية تجسد الأشياءَ وتختزل الأحاسيس المعقدة، وتحول مدهش يكسر قيوداً تصارعُ الأفكار لتنفتح الآفاق بلا تعقيد, يحمل النص بين طياته الرمز والتأويل لدوائر تتشابك وتغير في الزمن وتتعانق في الأفق البعيد، تتألق وتتحرر الأفكار لتنطلق بأجنحة الإبداع، تدور وتتلاقى في أفقِ الفكرِ غير المتناهي لتحاكي العقلَ، تسهم وتتساءلُ في بناءِ الذات.
    يتلاعب الشاعر بالكلماتِ في الدوائرِ ليخلق الألفاظ المبطنة بالرموز التي تحمل بين طياتها المعنى، (وجودنا المرسوم)، رحلة متشابكة معقدة تكشف تداخلات متناقضات وتناقضات العقل الجمعي، التي تتأرجح بين الواقع والخيال تسعى للتعبير والتواصل والتجاوب، وتكشف شفرات فراغ كبير، لندرك المكنونات والمكبونات واسترجاع بين الماضي والحاضر، نواجه التحديات، نشعر بالوجود والانتماء والتأثير. نغص في أعماق الذات المبدعة إلى عوالم تفتح آفاق هويتنا الروحية، تعكس رؤية متأملة؛ لتجسد هوية وثقافة.
    يلقي الشاعر الضوء على قضايا إيديولوجية تمثل جزءًا من تراث أدبي وثقافي ومرآة تعكس جمال الإنسانية بشكل أكبر وأعمق داخل (مثلثات الحب) الغموض، يحمل تكويناً خاصاً متقلب الكلمات التي تتعانق؛ لتنثر حروفها بالمشاعر والأحاسيس المؤثرة؛ لتخلد في النص روحاً مفعمة كثيمة ترمز لتشابكاتٍ معقدة المشاعر المتضاربة بصراعات داخلية لذاتٍ مشتتة بين ثلاثة أنساق: الذات، الآخر، الهوية. متاهة التوتر والصراع وتتداخل الأوجاع والأماني مع رمز الجدال (مربع الحرب)* موازنة متضاربة بالتناقضات العميقة بين الحزن والكبرياء أو الثبات.
    يستخدم الشاعر هذه الثيمة لنقل هذا التوتر والصراع الداخلي في قلب مربع الحرب الغامض. يبعثر أحاسيسه ليفك شفراته بحركية متعة القراءة، تنسج إِبْدَاعًا جَدِيْدًا، يعلو صوت الذات فوق الصوت المهيمن للحرب، ليثبت الحب ويكسر قيود السلطة.
صورة هندسية مشفر برمزية عالية مربع الحرب، مثلثات الحب، تدور لتحمل كيمياء صوت الألم و الفراق بالحسرة والتألم ، يبحث عن بقايا الذاتِ، والوجود/ الهوية، تتشابك الأيدي بشغفٍ وعناقٍ وتلاحمٍ ويملأُ الفراغ؛ لتنسج قِصَصًا لا تعرف الحدود.
   تتداخل أبجديات الحروف، وتتجاوز حدود الزمان والمكان في مربع الحرب، تبقى دوائر مثلثات الحب مَصْدَرًا للأمل والقوة في وجه التحديات والصراعاتِ التي تتلاشى الألوان وتتداخل المشاعر في عتمة الدمار، تعانق الأيدي الجراح، وتداوي الآلام، تقف بقوة لترتفع صوت الحريةِ المكبوتة  في أرض الصراعاتِ .
نص جريء ترك بصمة على صفحاتِ ذهنِ القارئِ من خلالِ التلاعب بالكلماتِ والألفاظِ باستخدام الأدوات والتعابير الشعرية؛ ليعكسَ صراعاً داخلياً للمشاعر والتناقضات المتناوبة، وتصادماً بين المشاعر والأفكار؛ فَبَيْنَ الحقائق والخيال أفكار تتعانق، تتصارع بين الذات والآخر، بين الألم والأمل، بين الأفكارِ المتنافرة والمشاعر المضادةِ، كرمزٍ للتفككِ وعدم التوازنِ مما يوضح تأثيرَ استخدام الأشكالِ والتقنياتِ الشعريةِ؛ لخلق توتر وتناقض بين الأصوات والأفكارِ والمعاني في النص.
   يحيلنا الشاعر إلى تناقض وتضاد أخر (مستطيل حزننا المكابر)، وصف مجازي رمزي لخلق صورة قوية وقاسية الحزن العميق المتجسد، فالكبرياء والثبات عادة ما يكونان مرتبطين بالفرح أو الاستقرار، لكن الشاعر استعمل الصفة المعاكسة للحزن التي تتجاوز حدود العادة في النص من خلال قوّة صوته وكلماته في القصيدةِ؛ ليعكس التصدي للألم ،وتحمله بصورة عنِيْدَةٍ وقوية، فالألم مساحةً كبيرةً في ذواتنا. 
    تلك الأشكال الهندسية تعكس حالة ذهنية شعورية للحب والصراع والحزن؛ رغبة في التوازنِ وفهم العواطف المختلفةِ وقبولها، بدلاً من محاولة قمعها أو رفضها. إنها لوحات فنية مرسومة بقلم الألم والأنكسار، تصارع مع الأحزان المكابرة.
   تنطلق الدوائر بصوتٍ بلا نهاية واضحةٍ باستلهام وتأمل للذات والآخر؛ لتضفي طابعاً حركياً جمالياً متعاقباً بين الشاعر والقارئ تدور؛ ليكبر الشوق ، وتنتقل الأحداث والتغيرات بالإيحاءات والرموز المحفزة لتعميق الأفكار. دوائر متعلقة بالحياة، والزمن، والحب. 
   دوائر النص تدور حول رحلات تتلاقى وتتشابك في ضياع وغيابٍ في بحر ديوان الإحساس المتناقض، تدور، لتبني، وتوهم بالبناء، وهي تلتقط الأرواح بأصواتٍ توحي بحركة الأدوار، تسابق الزمن برسم حروف كلمات ،تتشابك ، تفترق بخيال رحلة الأرواح بلا توقف، تكسر أفق الحواجز لتحمل الأمل واليأس ،وتتحرر من القيود . جعل الشاعر من دوائر قصيدته رحلة تعبث في أبجديات الحروف تصوغ الألم للذات والآخر.
النص رسالة مشفرة عبر الشاعر بكلماتها عن كيمياء المشاعر بعمق إحساس الأفكار، فيتأمل في الأرواح التي تتحول إلى دوائر تتحرك، وتتداخل بتأرجح وتغير؛ لتصل إلى الذات والآخر بتجسيدٍ وتشخيصٍ رمزي.
يخلق النص نسيجاً متوازناً بقوة تأملات أرخميدس للقارئ؛ لتشكل لوحة شعرية تتناغم بها الكلمات والأفكار برشاقةٍ وجماليةٍ. ثم يوظف عبارة (لا تزعجوا دوائري) بإيحاءٍ في النص رغبة في تحقيق السلام، فقد وظف  صرخته في وجه العالم؛ ليمثل دور الحكيم المنفتح على الحلول الإبداعية والتفكير.

إشارات:

  • عبد الرزاق الربيعي شاعر وكاتب مسرحي
  •  أرخميدس: إشارة إلى عالم الرياضيات الإغريقي الشهير الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد. وقد اشتهر بابتكاره عددًا من النظريات والمبادئ الرياضية، بما في ذلك طريقة لحساب قيمة “باي” (π) من خلال استخدام تماثلات الدوائر.
  • “مربع الحرب” المصطلح العسكري  لإضفاء طابع قوي وحماسي على الصراع الشعري.

(1) :ينظر غلاف الديوان ننام ويحرسنا ليل امس: عبد الرزاق الربيعي، الجمعية العمانية للكتاب والأدباء، عمان، الطبعة الأولى :2023 .

(2) ينظر:ننام ويحرسنا ليل أمس:91.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى