تاريخ

وُلدت في الخامس من حزيران

بقلم: جميل السلحوت|القدس

     في الخامس من حزيران -يونيو- 2023 أدخل عامي الخامس والسّبعين من عمري حسبما هو مكتوب في شهادة ميلادي، وأجزم بأنّ هذا التّاريخ ليس صحيحا، فقد  أنجبتني أمّي بعد أحد عشر شهرا من ولادتها لشقيقي ابراهيم، وهذا يعني أنّني ولدت في الثّلث الأوّل من شهر آذار –مارس- 1949، حيث ولد شقيقي ابراهيم يوم استشهاد البيك-حسب تعبير والداي- والبيك هو عبدالقادر الحسيني قائد الجهاد المقدّس الذي ارتقى سلّم المجد شهيدا في 8 ابريل 1948. لكنّني أحمل شهادة ميلاد مكتوب فيها أنّني مولود في 5 حزيران-يونيو- 1949، حسب تقدير طبيب الصّحّة الذي قدّر عمري عند دخولي المدرسة في العام الدّراسي 1955—1956. وليته اختار يوما غير هذا اليوم، الذي أصبح لاحقا في عام 1967 ذكرى هزيمة ماحقة، وما ترتّب عليها من مآسي واحتلال أهلك البشر والشّجر والحجر، وبولادتي كنت الابن السّابع لأبي، خمسة أبناء أنجبتهم زوجة أبي وواحد أنجبته أمّي، في حين لم تنجب أيّ منهما أيّ بنت وقتئذ، ولاحقا أنجبت زوجة أبي ولدا وابنتين، وأنجبت أمّي سبع بنات؛ وأربعة ابناء؛ لتكون خلفة أبي 21 شخصا، 12 ابنا، و 9 بنات.
أنجبتني أمّي التي كانت “حردانة” في مغارة “بثغرة قصّاب” عند عتبة منطقة الحرذان في السّواحرة، حيث كان يسكن والداها في خشّبيّتين مسقوفتين بألواح الزّينكو، أمام حاجب حجريّ، حفر فيه جدّي لأمّي كهفا له مدخل طويل منحدر كرقبة جمل هرم، عندما أنجبتني كان والداها وبعض أخواتها وبقرة في المغارة. ولمّا خرجت إلى الحياة وأطلقت صرختي الأولى، فرحت بذلك جدّتي لأمّي كافية حميدان حسن شقير وقالت كما روت لي أمّي: “ولد يا أمينة ريته مبروك”، في حين عقّب جدّي “الله لا يردّك ولا يردّه”.
     لم تكن الولادة في المستشفيات معروفة بين الأهالي، وحتّى الدّاية القانونيّة لم تكن معروفة أيضا، وكانت بعض المسنّات يساعدن النّساء في المخاض، حيث كانت المرأة في المخاض تجلس القرفصاء على قدميها، تساعدها بعض النّساء الشّابّات قويّات البنية بأن يمسكن تحت إبطيها؛ لتبقى مرتفعة عن الأرض، حتّى تنجب وليدها، وهذه الطّريقة ربّما تتسبّب بسقوط رحمها؛ لتعيش ما تبقّى لها في مأساة! تبدأ بطلاقها، وباستغابتها سوءا من الآخرين رجالا ونساء! ومن تتعسّر ولادتها تموت؛ فترتاح من عذابات الدّنيا! لكنّ اللعنة تطارد وليدها الذي ماتت عند إنجابه! فيصفونه “بقاتل أمّه” ممّا يسبّب له أمراضا نفسيّة تصل إلى درجة الجنون. وفي السّتّينات كانوا يحضرون داية من بيت لحم اسمها “كاترين” للمرأة التي تتعسّر ولادتها، ونادرا ما كانوا ينقلون المرأة متعسّرة الولادة إلى المستشفى الحكومي “الهوسبيس” في القدس.
    عندما علم والدي بأنّ أمّي أنجبت ولدا، أرسل عمّي الأكبر موسى صحبة المختار حسين ابراهيم شقير ليردّاها، غير أنّ جدّي لأمّي أصرّ على عدم ردّها حتّى يحضر زوجها بنفسه، وهذا ما حصل.
وأنا لا أزال أتساءل عن ولادتي وأمّي “حردانة” فهل كان هذا بداية شقاء لي ولوالدتي، أم هي الصّدفة؟
    أبي هو من اختار اسم جميل ليكون اسما لي، وهذا الاسم يحمله قبلي العمّ المرحوم جميل خليل السلحوت، المولود بدايات عشرينات القرن العشرين، ممّا أثار غضب والدته المرحومة عليا حسن مشعل شقيرات، فهدّدت بخنقي حتّى الموت! لأنّهم كانوا يعتقدون -أنّ اطلاق اسم على مولود جديد يحمل اسم ابن سابق في العائلة، يعني أنّ حامل الاسم الأوّل سيموت-. فهل ولادتي جاءت شؤما على العائلة الممتدّة؟
    وهل كوني الابن رقم سبعة لأبي، يعني فأل خير، خصوصا وأنّ لهذا الرّقم دلالات دينيّة، ودلالات أخرى في الثّقافة الشّعبيّة؟ لكن بغض النّظر عمّا كان يعتقده جيل الآباء والأجداد فقد عشت طفولة شقيّة بالمقاييس كلّها، وهذا لم يكن مقصورا عليّ وحدي، بل هذا ما عاشه أبناء جيلي جميعهم، وإن بشكل متفاوت، فقد كان مولد شقيقي ابراهيم الابن البكر لأمّي، والسّادس لأبي مصاحبا لنكبة شعبي الفلسطينيّ في العام 1948، وما صاحب ذلك من تشريد حوالي 950 ألفا من أبناء هذا الشّعب من ديارهم هربا من ويلات الحرب، وما صاحبها من مجازر ارتكبت بدم بارد وبتخطيط من العصابات الصّهيونيّة، كمجازر دير ياسين، الطنطورة، الدّوايمة وغيرها، وجزء منهم لجأ إلى ما بات يعرف لاحقا بالضّفّة الغربيّة، وإلى قطاع غزّة. وهذه المناطق كانت تعيش على الاقتصاد العفويّ، المتمثّل بالزّراعة البعليّة التي تعتمد على مياه الأمطار غير المنتظمة، ومعروف أنّ دول شرق المتوسّط تحظى بمياه الأمطار التي تكفي للزّراعة البعليّة، خصوصا الحبوب، بمعدّل سنة من كلّ أربع سنوات. صاحب النّكبة أربع سنوات محل متتالية، 1948-1952م، ممّا جعل النّاس في ضائقة من العيش، ولولا مساعدات وكالة غوث اللاجئينUNRWA والتّمور العراقيّة، حيث أنّ العراق ألغى تصدير التّمور، وحوّل انتاجه منها إلى مخيّمات اللاجئين، وما بات يعرف بمناطق الخطوط الأماميّة، أي المحاذية لحدود دولة اسرائيل التي قامت في 15 أيّار –مايو-1948 على 78% من مساحة فلسطين التّاريخيّة؛ لحصلت مجاعات أهلكت البشر.
    وأنا ولدت بعد تلك النّكبة بعام واحد، أيّ في الأزمة الاقتصاديّة التي عمّت المنطقة. مع التّأكيد أن أسرتنا كانت ميسورة قياسا بالآخرين، فوالدي كان يملك أموالا وفّرها من عمليّات التّهريب بين الأردنّ وفلسطين زمن الانتداب، كما كان يملك مخزونا من القمح يكفي أسرتنا لأكثر من خمس سنوات، إضافة إلى قطيع من الأغنام الحلوب، كان عدده يتراوح بين 150-250 رأس غنم.
أيتام في حياة الوالدين
    نظرا لسنوات المحل المتلاحقة، فقد رحل بعض مربّي الأغنام من عرب السّواحرة – ومن ضمنهم أبي- بأغنامهم إلى منطقة الكرك جنوب الضّفّة الشّرقيّة عام 1951، وبنوا خيامهم بجانب وادي الباذان قرب مضارب عشيرة الحمايدة الأردنيّة المعروفة، اصطحب والدي والدتي معه، تركاني أنا وشقيقي ابراهيم برعاية زوجة أبي-رحمها الله-، تركاني وأنا لم أكمل السّنة الثّانية من عمري، وشقيقي ابراهيم ابن السّنوات الثّلاثة، تركانا بلا والدين. أنجبت أمّي شقيقتي جميلة هناك، وعندما اغتيل العاهل الأردنيّ الملك عبدالله الأوّل في ساحات المسجد الأقصى في 20 تموز -يوليو-1951، عادوا إلى البلاد بعد مضايقات من أبناء المنطقة؛ بسبب اغتيال الملك. وكما أخبرني والداي لاحقا فقد تركانا من باب الحرص علينا؛ كي لا نتحمّل مشاق السّفر مشيا على الأقدام لمسافات بعيدة، ولكونهم لا يعرفون أين سيكون المستقرّ! فهم بدو رحّل يتنقلون من مكان لآخر طلبا للعشب والماء.
ولكم أن تتصوّروا حياة طفلين بهذا العمر يتركان كالأيتام بلا أب وبلا أمّ، صحيح أنّ زوجة أبي رعتنا، لكن لا أحد يغني طفلا عن حضن والدته.
يوم مولدي
وعندما تعود بي الذّكريات إلى طفولتي الذبيحة أنا وأبناء جيلي، أرى أنّ حياتنا كانت مجرّد صدفة، لا تخضع للمقاييس العلميّة، فلم تكن هناك أيّ رعاية بما فيها الرّعاية الصحّيّة، لذا كانت نسبة وفيات الأطفال عالية جدّا، وربّما ساعدنا على استمراريّة الحياة هو اعتمادنا على نظام الغذاء الواحد المكوّن من الحليب ومشتقّاته- الجبنة، اللبن، الزّبدة والسّمن-. ومن كان يمرض منّا فإنّ علاجه يكون بكيّه بطبعة مسمار على بطنه بعد أن يُحمى على النّار لدرجة الاحمرار. ومن يموت فإنّه يعزون موته إلى العين الحاسدة! وقد التحقنا بالمدارس ومن يكبروننا بعقدين تقريبا بناء على تعليمات “البيك” عبدالقادر الحسيني الذي كان يعسكر في مضارب أهلنا، ويحثّ الأهالي على تعليم أبنائهم، ونظرا لقرب بلدتنا من القدس والتي تمتد من قمّة جبل المكبّر حتى البحر الميّت ونهر الأردنّ، فقد قلّد آباؤنا أبناء القدس في تعليم أبنائهم.
فتعلّم الآلاف منّا والتحقوا بالجامعات رغم قسوة الحياة وقسوة نظام التّعليم في تلك المرحلة وما صاحبها من نواقص في غرف التّدريس، الملاعب، المختبرات، وسائل الإيضاح وكفاءة المعلّمين وغيرها.
الضّربة القاصمة: تعرّضت وأبناء جيلي إلى ضربّة قاصمة عندما انلعت حرب حزيران 1967 ونحن على مقاعد التّوجيهيّة، حيث وقع تحت الاحتلال ما تبقّى من فلسطين بعد النّكبة الأولى عام 1948، وهو ما عُرف بالضّفّة الغربيّة بجوهرتها القدس، وقطاع غزّة، يضاف إليها صحراء سيناء المصريّة ومرتفعات الجولان السّوريّة، ومزارع شبعا اللبنانيّة.
ورغم أنّ هذه الهزيمة نكبة أخرى بكلّ المقاييس تخطّت تأثيراتها ولا تزال حدود فلسطين وشعبها إلى العالم العربيّ كلّه، إلّا أنّ تأثيرها عليّ وعلى أبناء جيلي كانت أكبر، فقد أصبحنا بين ليلة وضحاها تحت احتلال أهلك البشر والشّجر والحجر، ولم تكن جامعات في الوطن المحتلّ، وكانت الحدود مغلقة، ووجدت نفسي بين خيارين أحلاهما مرّ، فإمّا ترك الوطن إلى غير رجعة للاتحاق بإحدى الجامعات، أو البقاء في الوطن ومكابدة الاحتلال، فاخترت الخيار الثّاني. فاستشهد كثيرون ووقع كثيرون في الأسر ومنهم أنا، حيث اعتقلت إداريّا من 19 مارس 1969 حتى 20 ابريل 1970، وخضعت بعدها للإقامة الجبرية حتّى نهاية العام 1970، وتعرّضت لتعذيب شديد أورثني تقرّحات في الجهاز الهضميّ، وانزلاقات غضروفيّة في الرّقبة وفي أسفل العمود الفقريّ. وبعدها التحقت انتسابا بجامعة بيروت العربيّة ودرست اللغة العربيّة وأدابها.
حياة كلّها تعب
    الحياة كما قال توفيق الحكيم “مجرّد رحلة قصيرة شاقّة وممتعة”، وأزعم أنّني عشت رحلتي الحياتيّة بمرّها وحلوها، فشلت كثيرا وحقّقت نجاحات أكثر، تعلّمت من أخطائي ومن أخطاء غيري، عملت في حراثة الأرض وزراعتها، عملت في ورشات البناء، وعملت في الصّحافة، وفي التّدريس، وفي محافظة القدس بعد قيام السلطة الفلسطينيّة، لكنّي وجدت نفسي في المطالعة والكتابة، فصدرت لي عشرات الكتب في التّراث الشّعبي، الرّواية للكبار وللصّغار، قصص الأطفال، اليوميّات، الأدب السّاخر، أدب الرّحلات، وغيرها، ورغم أنّني في مرحلة الشّيخوخة وهرم الجسد إلّا أنّني لا أزال وسأبقى أعيش بروح شبابيّة حتّى آخر لحظة في حياتي، مع التّأكيد أنّ الحرّيّة والكرامة المفقودة بسبب الاحتلال وممارساتة جعلت منّا ” المعذبّون في الأرض”، إلّا أنّ “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”، ومن هذا المنطلق فإنني أمضي أيّامي في القراءة والكتابة، والحديث يطول.
 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى