سياسة

مساحة شخصية.. فيروز ودخولها معمعة الحرب (7)

فراس حج محمد| فلسطين
مساحة شخصية مسروقة رغماً عن الحرب في يومها السادس والأربعين، لنحتفيَ قليلاً بفيروز، ونتذكر عيد ميلادها الثامن والثمانين (21/11/2023). نستعيد الصورة القديمة لفيروز لنقول لها كل عام والفن بخير “والغضب الساطع” المتوهج بغزة والعالم الحر بخير، و”القدس العتيقة” والطفل وأمه مريم بخير، “وجهان يبكيان لأجل من تشرّدوا/ لأجل أطفال بلا منازل”- أطفال غزة، أطفال فلسطين الذين تناثر لحمهم في الفضاء، وصاروا أشلاء بين يديْ أمهاتهم وآبائهم أمام الكاميرات الفاضحة، ليراها العالم العاجز، بل المتواطئ من أجل أن يهدم غزة على رؤوس ساكنيها، ولكن “يأبى الله إلا أن يتمّ نوره” في أرض المعارك، و”لله الأمر من قبلُ ومن بعد، ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله”.
في الـعشرين من نوفمبر، قبل يوم من عيد ميلاد السيدة فيروز، صادف يوم الطفل العالمي، والمحتل ومؤسساته الثقافية يهدون العالم “أغنية أطفال” أداها أطفال بسن ما قبل المراهقة (6-12) سنة، عمل فني إرهابي بكل ما تعنيه الكلمة، تنضح كلماته بالعنف والفجور والموت، فهذا المحتل يكشف عن بنية خبيثة في تشكيل الوعي لدى الأطفال، ليكونوا معبأين بالكراهية ضد الأغيار، وضد الفلسطيني والعربي بشكل خاص.
نحن في فلسطين لا نعلّم الأطفال كراهية اليهود لأنهم يهود، بل نثقّف أبناءنا بما يجب أن يتخذوه من مواقف حيال المحتل، القاتل، وليس من الأطفال والنساء والشيوخ. معجمنا التربوي مع أطفالنا مختلف تماماً، فنحن غير معبئين بشهوة القتل ضد كل ما هو يهودي أو صهيوني، بل نسير وفق إستراتيجية مغايرة ونقيضة، لذلك ثبت تاريخيا أننا نحن، الفلسطينيين، العرب، المسلمين، متقدمون أخلاقيا على كل الاحتلالات التي عانينا منها في كل بقاع الأرض العربية في ليبيا، ومصر، وسوريا، وفي فلسطين، وفي العراق، فليس هناك من مقارنة بين ثقافتين، واحدة تنحو نحو المحو والإزالة، وثقافة تنحو نحو إزالة الشر عن نفسها ودفع الخطر عن أبنائها لينالوا حق الحياة الكريمة. وثمة صورتان متقابلتان بين دين يطالب فيه الإله بقتل كل من وجدوه في طريقهم، وبين إله الإسلام الذي وجه الناس نحو الرحمة والرأفة والعدل. ثمة فارق بين التوحش والدم، وبين العدل والسلام، لذلك فإنهم هم من قتلوا السلام كما قالت فيروز: واستشهد السلام في وطن السلام/ وسقط العدل على المداخل”. فليس لدينا مشكلة مع الناس مهما كانوا، ولذلك نتسامح مع الآخرين، ونحسن ضيافتهم، بل إنهم مع الزمن سيصبحون جزءا منا، لأن ثقافتنا وبنيتنا الذهنية لا تقومان على العنصرية وإلغاء الآخر، كما هو حال المحتل.
ليس هذا خطاباً عنصريا تمجيديا للذات القومية أو الذات الجمعية الفلسطينية العربية أو الإسلامية، بل هذا توصيف تاريخي فكري ثقافي يشهد عليه التاريخ، ولا يحق لأحد أن يزوّره أو يتلاعب به، ولا أن يسلبنا حقّ أن نذكّر العالم فيه، هذا العالم الذي تدوس آلة الشر فيه يوميا على كل الشرائع والقوانين، ولا تعرف معروفاً، ولا تنكر منكرا، ودنّست كل المقدسات في العالم أجمع، ولا شيء يعلو فوق مصالحها، ولو أدى ذلك إلى القتل والإفناء والتدمير، واستخدام الأسلحة المحرمة، بل لا يوجد عندهم في عرفهم ما هو محرّم، فكل شيء متاحٌ لديهم مباح عندهم من أجل تأمين مصالحهم، فهم أولا وأخيرا، والعالم كله فليبتلعه الطوفان. هذا هو منطق الاستعمار والاحتلال على مر التاريخ وتعاقب الأجيال.
فيروز في هذا السياق وضعت لتقول الحقيقة، وتعيد الأمور إلى نصابها، حتى وهي ممتلئة غضبا وعنفواناً صارخة بقوة “الغضب الساطع آت وأنا كلي إيمان” فإنها مع هذه الموجة الغاضبة لم تفقد بوصلة العقلانية، بل إنها متسقة مع التاريخ والثقافة لهذه الأرض المجيدة الساعية إلى الحب والسلام والعدل والرحمة، فكل ما نادت به فيروز هو أنها تريد أن تهزم وجه القوة. يا له من تعبير إنساني عظيم في وجه الغطرسة القاتلة المتوحشة.
فيروز في معمعة غضبها الساطع آتية لتصلي، فقط لتصلي، لا لتقتل أو تدمر، أو تفني الشجر، أو تبيد الحضارة، فقط جاءت من أجل الله الواحد، ومن أجل مدينة السلام، هذه المدينة التي لم تنعم بالسلام منذ احتلها الغاصبون الأشرار، “فحين هوت مدينة القدس تراجع الحبّ/ وفي قلوب الدنيا استوطنت الحرب”، ولذا فإنه ليس أمامها إلا الغضب الساطع لتحظى بما تريد وتحقق أمنياتها “وستغسل يا نهر الأردن وجهي بمياه قدسية/ وستمحو يا نهر الأردن آثار القدم الهمجية”.
إن هذا العمل الفنيّ لفيروز بديع جدا، في دلالاته على استراتيجيتنا نحن العرب في هذه البلاد، إنها فقط تريد أن تمحو أثار القدم الهمجية، أثار الاحتلال، وما هو أثر الاحتلال سوى القتل والتدمير وحروب الإبادة والفناء.
وأما في أغنيتها الأشهر عن فلسطين “أجراس العودة فلتقرع” فإنّ فيها ذلك النفس المناضل القويّ للعودة إلى الديار، ومن حقّ أي إنسان أن يناضل من أجل بيته وبلده وسيادته ويدفع بالنار النار. إنه لشرف كبير أن يناضل الإنسان من أجل كرامته الوطنية، بل إنه “شهيد” مقدس، فمن قاتل دون مالِه، فقُتل فهو شهيد، ومن قاتل دونَ دمِه، فهو شهيد، ومن قاتل دونَ أهلِه، فهو شهيد”، وكل هذه الدوائر من الحرب واضحة في فلسطين وفي غزة اليوم، فلا بد لنا من أن نقاتل بكل ما نستطيعه من أجل أن نعيش بحرية وكرامة.
هذا هدف نبيل، ولن يرحم التاريخ شعباً تخاذل أو تنازل عن حقه، ولن يذكر التاريخ- إلا بما يليق به- قائد أمة رضي بالذل والهوان وتعامل مع المحتلين وسالمهم. غزة اليوم تستعيد ما قالته فيروز مؤكدة العودة وحق العودة، ولا شيء غير العودة، ففلسطين وطننا، وليس لنا بديل سواه. لذلك فكلنا نردد مع فيروز:
سيف فليشهر في الدنيا ولتصدع أبواقٌ تصدعْ
الآنَ، الآن وليس غدا أجراس العودة فلتقرعْ
أنا لا أنساك فلسطينُ ويشدّ يشدّ بيَ البعدُ
أنا في أفيائك نسرينُ أنا زهر الشوك أنا الوردُ
سندكّ ندكّ الأسوارَ نستلهم ذات الغارْ
ونعيد إلى الدارِ الدارَ نمحو بالنار النارْ
فلتصدعْ…
فلتصدع…
أبواقٌ، أجراسٌ تقرعْ…
قد جُنّ دم الأحرارْ
نعم لقد جُنّ دم الأحرار بعد خمسة وسيعين عاماً من الانتظار، يكفي “لقد طال الشتاتُ وعافت خطونا المدنُ”، من حقنا أن نقاوم، ومن حقنا أن ننتصر، ومن حقنا أن نحطم وجه القوة، ومن حقنا أن نمسح دمعة البكاء عن وجهي عيسى ومريم، وكل أمٍّ فلسطينية وطفل فلسطيني، وأن نغتسل بمياه نهر الأردن لتعود الحياة جديدة نظيفة من أحزان الاحتلال ورجس البطش الهمجي.
تحية لفيروز في عيد ميلادها، ميلاد الحياة والفن والجمال والمقاومة والعزة والشرف والمجد، وتحية للمقاومة التي لم تدخر وسعاً من أجل أن نستعيد الفرح الغامر، وتحية لفلسطين الحضارة الباقية منذ آلاف السنين، وتحية لغزة التي تناضل اليوم من أجل الغاية الكبرى، العودة، ومسح الذل والهزيمة، وترمم الوجوه التي خدّدها الحزن وتعيد البسمة تشرق في “الصباحات الندية”، صباحات فيروز، لتشدو لنا جميعاً:
عم إكبَر وتكبَر بِقلبي
وإيّام اللّي جايي جايي
فيها الشّمس مخبّايِة
إنتْ القوي، إنتْ الغني… وإنتْ الدّني
يا وطني
فكل عام وأنت بخير يا فيروز، وأنت بخير يا فلسطين، وأنت بخير أيتها المقاومة العنيدة التي تقول بملء روح مناضليها: “الغاضب الساطع آتٍ وأنا كلي إيمان”. وصباح المحبة أيتها المدينة الشامخة، صباح الخير يا غزة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى