مقال

شاعرية المشهد ومتعة التّرحال في نصوص الشاعرة قمر عبد الرحمن

مصطفى جميل شقرة|سورية – اللاذقية

“إنها زيتونة خضراء تتحول لقنبلة إذا لزم الأمر، وصرخة مقاومة تحطم بها حواجز وقيود، وأقلام صوتية تصدح في سماء الحب والحرية”

مقدمة وتمهيد:
لقد وصلنا إلى زمنٍ أصبح فيه عداد الوقت مهم جداً للمضي قدماً في دوامة الحياة، وأهمية الوقت ليست فقط على الأيام التي تمر مسرعة أو اللحظات التي لا نكاد نحصيها، لقد فرض أهميته حتى على الكتابة، فأعداد الكلمات تقاس بأعداد الدقائق التي نستطيع أن نفرغ لها وقتاً محدداً من زحمة الحياة، فكلما كانت الكثافة للكتابة مضغوطة كان مكسباً إضافياً لاستغلال الوقت، إن ذهاب البعض للإيجاز في كتاباته ما هو إلا عملية علاجية لضيق الوقت في سبيل التحرر من أغلال سرعته، وفي مساحات ضيقة جداً من السطور يمكن باستعمال سلاح البلاغة والبصيرة الكامنة بشحن طاقة النص وإعطائه وهجاً تعبيرياً على الرغم من قصره الشديد إلا إنه يضيء كرواية أو كقصيدة طويلة وبالتالي تحطيم كل قيود الوقت التي تعيق تدفق رسائلنا، هي لعبة الكلمات التي نفرضها على النص لتحويله لبوح كان يخنقنا، أو ملفوظٍ يكبس على صدرنا أو تخليدٍ للحظة عابرة من حياتنا اليومية أثارت فينا مشاعر وأحاسيس وجعلتنا نتفاعل معها بالإدانة وردة الفعل.
إن الاقتصاد في الكلمات وبلاغة التعبير هي بمثابة عملية ضغط المشهد وصفياً إلى حجم معين وإلباسه فستاناً قصيراً بثياب التكثيف والدهشة، فالنص الوجيز هو إخراج بنائي في الالفاظ مع منح الكلمات طاقات تأويلية وتأملية تأخذنا نحو التفكير والتفاعل مع النص، فالبلاغة هي بمثابة غرفة التأنيق التي ندخل بها نصوصنا ونخرجها بأزياء مدهشة، تناسب الرسالة المراد إيصالها، وهي ما تجعل النص يبرق إيقاعياً ويلمع صياغةً، واصطفاف هذه النصوص أمام القارئ ما هي إلا معرض لوحات مشهدية تحفز عواطفه ومشاعره لتبادل التفاعل فيما بينهم، هي عبارة عن ترجمة النص على سيكولوجية الانسان، وهي لسانٍ ينطق ما يخفيه الصمت، فيخلق حواراً غير مرئياً بين النص وبصيرة القارئ، وكل هذا يعود لمدى نجاح الكاتب في توظيف مهاراته اللغوية والبنائية ليكون النص متماسك في رحلة الخروج من رحم كاتبه إلى البيئة المحيطة.
هذه العملية الصناعيّة الشاقة في توليد النص وإخراجه، لابد ما من تواجد بنّاءٍ ماهرٍ يعرف كيف يرتب الكلمات ويضع الأساس الناجح ليخلق نصاً على حجمه القصير يسطعُ حركة ودهشة، وهذا ما تميزت به الكاتبة قمر في إصداريها “أجنحة الظل”و”صلاة الدموع”الصادران عن نادي الهايكو العربي بتصميم وإخراج الأستاذ محمود الرجبي والتي أعطت شيئاً من نور اسمها لبقع النص السوداء كي تنيرها ببلاغة مترفة مهمة مغلفة بشاعرية متقنة أجادت في منحها للنص لكي يكون إيقاعياً سريع اللفظ وحيوية.

أغلفة وعناوين الكتب

يعتبر الغلاف والعنوان هما الصورة الأول والنص الأول اللذان يقرأهم القارئ بعينيه قبل ولوجه لنصوص الكتاب، فهما معياراً للجمال والايحاء الذي يغلف النصوص بنفس الوقت.
-غلاف وعنوان إصدار”أجنحة الظل“: يشاهد على الغلاف شابة ترتدي فستاناً أحمر تداعبه الريح وأمامها طائر على ما يبدو أنها حمامة، تقف تلك الصبية على تلة عالية أو قمة تطل على مدينة عصرية مضيئة، وفي قبالتها تماماً يقف القمر مكتملاً بكامل شعاعه.
وهنا نجد تفاعل الانسان مع البيئة المحيطة في معادلة على أحد طرفيها الانسان وفي الطرف الآخر القمر، المدينة، الريح والطير.
فالأنسان هو عبارة عن تلك الأجنحة التي يحلق ويرحل ويجوب فيها سماء الحياة ودروب الأيام والظّل هو كل ما يحيط به من أشياء وكائنات يتفاعل معها وتتفاعل معه بشكل مباشر أو غير مباشر، فالعنوان هنا ما هو إلا سيكولوجية متخفية بين كلمتي الأجنحة والظل.
-غلاف وعنوان إصدار”صلاة الدموع”على يمين الغلاف نشاهد وجه فتاة تداعب شعرها الأسود الريح واتجاه وجهها نحو اليمين تماماً، وعلى يسارها شاب يجلس يدير ظهرها عليها، يبدو عليه من رؤية وضعية جلوسه أنه حزين أو مكتئب أو يعاني الوحدة، تخرج من ظهره بضع فسائل أو أغصان خضراء ترتفع نحو الأعلى.
يمثل هنا وجه الفتاة بأنه الحياة وهي تدير وجهها للإنسان الحزين الذي يقبع وحيداً بينه وبين نفسه، يأخذ زاوية ويتضرع للخالق ويصلي وهو يبكي، للتحول تلك الدموع المنهمرة مع الدعاء إلا بذور أمل أو براعم تنمو وتخرج من جسده على شكل أغصان.
هنا سيكولوجية أخرى وترحال آخر بين الأنسان ونفسه، مع كل ما يحويه داخله ويعتصره من ألم وفقد ومعاناة وشقاء، يتحول هذا الكبت إلا حزن يعالجه الانسان بالصلاة فتنهمر دموعه التي تتحول بدورها لدعاء يصعد ويشق رحلته نحو السّماء.

نصوص الكتب
اتسمت معظم النصوص بالشاعرية المتدفقة وهي صفة تجيدها الشاعرة في إيصال رسائلها وبوحها الخاص، وهي عملية تزاوج صورتين من الحياة اليومية لإنتاج صورة ثالثة مدهشة، وتنوعت نصوصها وتفردت بين رسائل الحب وزمن كورونا، والهموم المجتمعية والقومية التي باتت تشكل جزء من حياتنا اليومية، فلم تبخل في التطرق للقضية الأزلية وهي ابنة القضية، وكل هذا استطاعت بوحه بشكل غير مباشر عن طريق الايحاء والتأمل، وما يميز هذا النصوص هو الترحال التي تأخذ القارئ معها في أزقة حياتها وسراديب لحظاتها التي عاشتها ومازالت، بزمن قصير وعبارات دقيقة مشبعة بالتأويل الذي يمنح النصوص درجة عالية من التأمل والتفكر.

بنية النصوص
كما ذكرت تميزت النصوص بولوجها إلى عديد اللحظات التي عاشتها الكاتبة ونبدأ بالهموم الحياتية المجتمعية التي خصصت جزءاً لها وحصة من عواطفها لنثر ما يشعر به فكتبت:

صور الشهداء على الجدار
مازالوا مستهدفين أمام القناص
حتى بعد موتهم!

زحمة باهظة-
الطلب أعلى من العرض؛
ما سعر القبر؟

كل ما في الأمر-
أن البحر يشارك أطفال الحرب؛
موتهم!

يا حمام الدار-
أخبرهم هديلاً؛
عن ذكريات تحب الرماد.

هي صور الحزن على أشدها وهي صور الوجل والخوف الذي يرتاب العدو من النضال، هو مرض الصرع والهواجس الذي لا يكاد يفارقهم ليل نهار، ويزورهم حتى نومهم وهي صور الكراهية والحقد التي بلغت كمالها كما بدا واضح في النص الأول، أما الموت فكان له صوره الأخرى العنيفة، بين ارتفاع سعر قبر وارتفاع موج البحر هناك ضحايا موتى، وهناك موت آخر هي موت الرحيل وموت الحياة، هي لحظات تمر كل يوم وكل ساعة في تلك البقعة التي ما زالت تصارع وحوش الأرض كلها، هي نصوص إدانة للحرب وللواقع وللذل والإهانة.

هناك حيث الوطن
منتصف الخريطة
بين ذراعيك

أنت الدهشة الكاملة
حين تصهر شوقي بك
والقمر حارسنا

منذ عرفتك
تفتح الياسمين في رأسي
شيب الحب..

قلبك الفاتر
يزيد شوقي أكثر أكثر؛
لمجيء الصيف

انقطع النور
ولازال بيني وبينك
كهرباء.

هي مشاعر الشوق والحنين المضرمة في قلب الشاعرة، وهي صور عن الحب بكل تفاصيله اليومية، ما بين الياسمين والوطن والصيف والقمر، هي لقطات تخلد
الحب في صور مجففة في مرطمانات الذاكرة، وهي نصوص معلقة على رفوف المنازل الريفية كي يعاد إيحائها فيما بعد لتكون وجبة ممتعة من الشاعرية المترفة الباذخة، وما أحوجنا إلى تلك العواطف المكدسة في كلمات، نعيد سقايتها لتنبت من جديد على شكل نصوصاً تشحننا بطاقة الحب المدهشة.

منعوا التجوال
ولازلت
تزور قلبي

حظر التجوال
أيشمل تجوالك
في ذاكرتي

عار على الزمن
أن يقتل دقائقه
في الفراغ منك

هي صور العام الذي توقفت فيه ساعة الحياة بكل ثوانيها، فالوقت أمسى حينها حجر وحظر وسجن داخلي، إنه حصار الذات وتقييد النفس بأغلال الوقت، ولكن هيهات أن يمر هذا الوقت دون التفكير ودون التدوين، وهذا ما تقوله شاعرتنا، فالمشاعر لا تعرف الحجر والعواطف لا تقيد، والنفس ما هي إلا أجنحة تتوق للتحليق ولا يمكن إيقافها، فلا يمكن إطلاقاً كبح جماح حرية النفس وسيكولوجيته عن التمرد والانطلاق، فالصور هنا جاءت كإدانة وتمرد للواقع المحظور من الهواء، فأوكسجين الحياة الداخلية البشرية عبارة عن كلمات تشكلت بنصوص لتخلد لحظات من العمر.

رسالة الكتاب
وأخيراً تميزت شاعرتنا بنصوص جميلة بليغة وشاعرية أخدتنا برحلة مشوقة بين دروبها الحياتية فالنص هو وليد الشاعر وحياته، والشاعرة قمر هي شاعرة تعرف جيداً كيف تترجم الدموع آلى نصوص مليئة بالحياة والأمل، وتعرف كيف تداعب الأحزان لتنتشل منها أغصان مزهرة بالحب، وليس هذا فحسب، فهي تضع أجنحة لكل العوائق التي تمر بحياتها كي تجعلها تحلق من جديد، وهي زيتونة خضراء تتحول لقنبلة إذا لزم الأمر في وجه العدو، وهي صرخة مقاومة تحطم بها حواجز وقيود، وهي أقلام صوتية تصدح في سماء الحرية والنصر، وما نصوصها إلى بوح عن صدق المشاعر التي تنتابها، هنيئاً لها هذه التجربة الرائعة ونتمنى لها المزيد من الإبداع والتألق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى