قراءة في قصيدة: مشيّة مريّخ للشاعر عبدالرزاق الربيعي
القصيدة .. أداة فاعلة في الاحتجاج على العالم
بقلم: سعدي عبدالكريم| العراق
أولا القصيدة: مشيّة مريخ
صاحبة هذا الاسم
الفلاحة التي لا تعرف القراءة والكتابة
مثل نبي
البسيطة مثل نجمة
الخجولة مثل هلال
هل كانت تصدّق لو قلت لها
أنني سأدون اسمها في كتاب لي
يصدر في عام 2001
ليس من باب المباهاة
ولا لأنها جدتي
ولا … ولا …
بل نكاية بالعالم
الذي لم يذع نبأ موتها
في نشرات الأخبار
“مجموعة شمال مدار السرطان الصادرة عن دار الواح مدريد2000
ثانيا – القراءة:
تميَّز الشاعر العراقي (عبد الرزاق الربيعي) بتنوع طروحاته التدوينية، فقد أفادته خزينته القرائية الكبيرة أيما إفادة ، ودعمته خبرته الطويلة ، ومكنته الواسعة، فاستطاع بنبوغ من استلهام مفردات واقعه اليومي، ليحيلها إلى فواعل تأثيثية مجزية عبر ملاحم تصوَّراته من خلال أدواته الفنية الفاضلة، فهو مدار نابض بالحياة كتب في الفن والشعر والنقد، ونعتقد بأنه لم يجر عليها ذات تأمل أية عملية اقتراع للمفاضلة بينها، لكنه وبحسب رؤيتنا.. لا ينحاز كثيرا إلى تميّيز فاضلة حروفية على أخرى، ويبقى الشعر في أجندته التفاضلية والاشتغالية هو المُتفرَّد في الحضور، والفاعل الأصيل داخل صومعته البنائية.
من زمن بعيد وأنا أتابع الشاعر والمسرحي (عبد الرزاق الربيعي) وهو يوزع جهده التدويني على جملة من الأجناس الأدبية التي تعنى بالمسرح، والشعر، والعمل بالصحافة العراقية، عرفته أبان عمله في مجلة (أسفار) التي كانت تصدر في بغداد، ومنذ قراءتي لديوانه (الحاقا بالموت السابق) الصادر في بغداد عام 1987، وحينما كانت تقع بيدي مقالاته الفنية التي كان ينشرها في جريدة الجمهورية، اشعر وأنا اقرأ لـ(الربيعي) وكأني خرجت للتو من زحام مدينة الثورة التي كان يقطنها، ذلك الشاب المكتظ بالصخب الداخلي، لكنه يملك هدوءا تأمليا نادرا، فالعيش في مدينة الثورة علمه كيف يؤثث مشروعه الشعري، وهو الابن النجيب لتلك المعاناة والمأساة، والطيبة والجمال والوعي الذي تحمله تلك المدينة المُطلّة على شرفات الإبداع بجلّ مخاصبه المعرفية، فهو الابن البار لمدينته ولوطنه العراق الذي منحه قلمه، وقلبه وهما أثمن ما يملك، وحياته كانت مشروع للسمو تحت ظلال نخله الباسق .
إن المتتبع لجهد (الربيعي) الشعري الدءوب والمتواصل، يعتقد بأنه لا يملك وقتا لترك قلمه جانبا ويأخذ نفسا من ملاحق الكتابة ، كان قلمه ولم يزل مشروعا نبيلا، يعتلي رأس الصفحة برفعة المدرك، وخيرة المحترف، ورقي صاحب الصنعة الذي يجيد تسويقها على مساحات التلقي، انه يكتب الشعر، ويضعه على مائدة الاستقبال، وكأنه يضعنا وسط فسحات من التأمل، وسوانح من التفكير، والنزوح صوب مناطق التأويل لمعرفة الكيفية التي يؤثّث فيها مشهده الشعري، وكيف يؤسس له هذا الحيز الكبير من حواضن الاستجابة.
الشاعر (عبد الرزاق الربيعي) اختار ان يكون صوته الشعري الأداة الفاعلة في إعلان احتجاجه ، حتى وان بقيّ حبيسا في مغلفات التشفير، وموارد الترميز، انه شاعر من الطراز الرفيع، لأنه الباحث دائما عن الجمال ليدوّن تفاصليه عبر إرهاصات الشعر، والمسرح، والمقالة الصحفية الرصينة.
وقد اخترت للربيعي قصيدة (مشيّة مريخ) لتكون عينة التحليل في كتابنا النقدي (الاحتجاج في قصيدة النثر العراقية المعاصرة).
في هذا النصّ الماتع ، يأخذنا الشاعر حيث الملاذات الأولى الآمنة لتكوير معالم الجمال، ليكشف لنا عن مواطن احتجاجه على العالم بأسره لأنه لم يذع وفاة جدته، تلك المرأة السومرية التي يصفها بوصف فائق القدر، والعالي الأنصاف في المشهد الاستهلالي من القصيدة حيث يقول:
مشيّة مريخ
صاحبة هذا الاسم
الفلاحة التي لا تعرف القراءة والكتابة
مثل نبي
البسيطة مثل نجمة
الخجولة مثل هلال
هكذا يبدأ (الربيعي) بالتعامل مع جدته، هذه الكينونة الإنسانية الباهرة (مشيّة مريخ) إنها (الفلاحة التي لا تعرف القراءة والكتابة) وهذه السمّة تعادل في ثروة الفطرة التي جبلت بها لدى الشاعر (مثل نبي) تلك المرأة (البسيطة مثل نجمة) وهي صفة الضوء البعيد الذي نحتاج إليه كلما ضاقت بنا العتمة، وفقدنا الطريق إلى أنفسنا ، وهي المثابة العليا التي نقتفي أثرها، والتي تدلنا على وجودنا الإنساني، وهي (الخجولة مثل هلال) وهذا الوصف الدقيق الذي يصف به الشاعر جدته، وصف بديع متماثل مع تلك الصورة البالغة الهيبة، حينما يخرج الهلال من كنفه المنير معانقا الوجود ليشعّ عليه من ضياءه الإلهي، ويكشف مجاهل الظلام ، ليحيلها إلى وضوح جزئي خجل يوازي طلعة تلك المرأة النبيلة.
يسترسل (عبد الرزاق الربيعي) بوصف علاقته الوطيدة بهذه الجدة الرمز، حيث يقول:
هل كانت تصدّق
لو قلت لها
أنني سأدون اسمها في كتاب لي
يصدر في عام 2001
إن هذا التصميم في تخليد اسمها في صفحات التاريخ هو إصرار على وجودها الضمني في الحياة، فهو يجدها في أدق تفاصيل حياته لأنه متعلق بها كل هذا التعلق النبيل، فهي ملهمته ومعلمته رغم بساطتها ورغم أنها لا تستطيع قراءة اسمها الذي حفظه لها حفيدها الشاعر فانتزع اسمها من ذاكرة الأزمنة ليسطره في متن كتاب عنوانه (شمال مدار السرطان) وهو ديوان اصدره في عام 2001 هكذا تحققت نبوءة (الربيعي) واستجابت له أقداره الشعرية في تحقيق رؤاه، لينقل اسم جدته من حيز الذاكرة إلى فسحة التداول، لأنه يعتبرها المرأة المناضلة رمز الخير والعطاء والصبر، يكمل الربيعي هذا الاستطراد الجميل ليقف برهة في حضرة هذه المرأة الخالدة ليقول:
ليس من باب المباهاة
ولا لأنها جدتي ولا … ولا …
بل نكاية بالعالم
الذي لم يذع نبأ موتها
في نشرات الأخبار
إن هذه القصدية في الوصف، لم تأتِ بمحض الصدفة ، ولكنها جاءت باعتبارها المعنى الكبير، وليس لأنه يتباهى بها، ولا لكونها جدته، بل نكاية بالعالم، الذي لم ينشر نبأ موتها في الأخبار، إنها صرخة احتجاج عالية أثّثها الشاعر بعناية استثنائية ، وقذفها بوجه هذا العالم الرديء المنشغل بالكراسي ، والحروب، والفساد، تاركا خبر وفاة هذه المرأة العراقية السومرية الأصيلة عرضة للنسيان، كان على العالم ان يكتب اسم (مشية مريخ) بالبند العريض، ليتصدر اسمها السومري المهيب في الصفحة الأولى من أخباره، لأنها وفق نظرته الإنسانية والأخلاقية، ليست ككل النساء، إنها رمز العراق بكل مأساته وأفراحه، بكل خيباته ونجاحاته، إنها المرأة التي خُلقت من اطهر طينة في الوجود، إنها من تراب وماء هذه البقعة الشريفة المعطاءة العراق.
.. العراق ذلك الوطن الجليل الذي اكتنز له (عبد الرزاق الربيعي) في قلبه الكثير من الحبِّ، وافرَّد له من وجدانياته المخضبة بالحزن والغبطة العديد من معالجاته التدوينية الأدبية والفنية، حتى أصبح (الوطن) ينتقل معه في حلّه وفي ترحاله، فأينما حطَّ (الربيعي) قلبه، فثمة قلب لــ(العراق) يخفق معه.