شاعر القلب والروح فضولي البغدادي نقطة التقاء بين الشعوب والحضارات والثقافات
في ندوةٍ أقامتها سفارة جمهورية أذربيجان

عالم الثقافة /علي جبار عطية
احتفت سفارة جمهورية أذربيجان مساء السبت الموافق ٢٠٢٥/٢/١٥ في بيت (الوتار) التراثي، وعلى ضفاف نهر دجلة بالشاعر فضولي البغدادي (محمد بن سليمان) (١٤٩٤م – ١٥٥٦م)بمناسبة مرور ٥٣٠ سنة على ولادته، وقد رأى النور في العراق،وعاش فيه، ولم يغادره طوال حياته ، واختار في آخر سنوات حياته أن يشعل القناديل في مرقد الإمام الحسين عليه السلام بكربلاء،ليدفن قرب الضريح الطاهر.وهو يعد من أشهر الشعراء الأذربيجانيين، ورائداً من رواد المدرسة الكلاسيكية للأدب الأذربيجاني.
حضر الندوة سعادة القائم بأعمال سفارة جمهورية أذربيجان ببغداد الأستاذ إلينور مالك محمد زادة،ورئيس الجبهة التركمانية العراقية النائب أرشد الصالحي.وشارك فيها نخبة من الباحثين منهم الدكتورة نظلة أحمد الجبوري، والدكتور رضا الموسوي، والدكتور صبحي ناصر، وعلي جبار عطية، وصباح كركوكلي، وعلي الفواز، وفلاح المرسومي، وقدمها الكاتب صادق الجمل.
وتزامن مع الندوة توقيع كتاب (براعة فضولي) لمؤلفه الكاتب الأذربيجاني مير جلال باشييف الذي ولد سنة ١٩٠٨م وتُوفي سنة ١٩٧٨، وكانت رسالته في الماجستير بعنوان (شعرية فضولي)/١٩٤٠م، أما أطروحة الدكتوراه فكانت بعنوان (المدارس الأدبية في أذربيجان)/ ١٩٤٧م، وقد ترجم كتابه المُترجم فريد صابر جمالوف ، وصدر في نحو ٣٠٨ صفحات من القطع الكبير عن دار (أزمنة)/الأردن ٢٠٢٥م.
استهلت الندوة بكلمةٍ لسعادة القائم بأعمال سفارة جمهورية أذربيجان ببغداد الأستاذ إلينور مالك محمد زادة أشار فيها إلى أهمية الشاعر العظيم فضولي، وحضوره الفاعل بيننا على الرغم من مرور أكثر من خمسة قرون على وفاته، ودعوته التي ما زالت قائمة إلى السلام والحب والإخاء ونصرة الإنسان، معرباً عن شكره لمواقف العراق الداعم لأذربيجان، ووقوفه إلى جانبهم من منطلق إنساني ومبدئي مما يعزز من أواصر العلاقات في جميع المجالات الثقافية والسياحية .
وكان مبحث الدكتورة نظلة أحمد الجبوري بعنوان [(قراءة تفكيكية في كتاب (براعة فضولي)] انطلقت في قراءتها التفكيكية لكتاب (براعة فضولي) من مقدمات أساسية رأتها تشكل مدخلاً في مسيرته وتمثلاً واضحاً لألقه الفكري وحضوره الثقافي، وهي: الغربة (غربته)، التي بقي معها محافظاً على أذريته، إذ تشكلت بها، ومن خلالها شخصيته المتجددة وامتدادها المعاصر الزمكاني. والأفق المعرفي الذي يتضح من خلال ما قدمت عنه من دراسات وبحوث تناولته سيرة حياة ، وتاريخ عصر، منزلةً ونسباً، وروحانيةً صوفيةً، وحروفيةً لغوية الخط التعبيري اللغوي، ولاسيما الخط العربي الذي يتضح من خلال ما كتب في ألسنيته التركية والفارسية قراءةً وكتابةً، لينال فضولي البغدادي الحظوة لدى الباحثين بالبحث والتدقيق بالدرس والعرض، بالتفكيك والقراءة لفكره وأدبه ودوائره المعرفية، وآفاقه الثقافية، ولغته التعبيرية، لهذا تضمنت المكتبة العراقية العديد من الكتب والمؤلفات والدراسات والبحوث عن فضولي البغدادي.
وأشارت إلى أنَّها بموجب مقدماتها هذه جاءت قراءتها التفكيكية لكتاب (براعة فضولي) للأديب مير جلال والمترجم فريد صابر جمالوف، إذ قدم مير جلال فضولي من خلال أدبه شعراً ونثراً في فصول ست، محاورها (فضولي عن الشعر) و (فضولي حول الغزل)، و (خصائص اللغة الفنية)، و(ثقافة الشعر تقنية اللغة الشعرية) و (نظامي وفضولي)، و (قصة حب خالد). فمَنْ يقرأ الكتاب يجد تخصص الكاتب الأدبي واضحاً، ليضيف بدوره دائرة معرفية أخرى قدمت فضولي استكمالاً لبنائيته الفكرية والثقافية والفلسفية والأدبية وألسنيته اللغوية. ولاسيما وفضولي مجدداً مبدعاً إذ اختط توجها أدبياً يُحلق في فضاءات الروح ويسمو في فناءات الحب، ويصفو في عتبات كربلاء، لينير قناديل وجوده، نمطاً متفرداً وحضوراً متألقاً بكل ما يحتويه هذا النمط المتفرد من تضمنات لمن سبقه من عباقرة الأدب الأذربيجاني: كـ: أفضل الدين إبراهيم بن علي خاقاني ونظامي الكنجوي، وعماد الدين نسيمي وشاه إسماعيل خطائي، فهو يبرع براعة في منح الكلمات ما لم يمنحها غيره ممن تقدمه بالكشف عن المسكوت عنها بإنارة الجانب المظلل فيها. وبخلود الكلمة خلود فضولي وبقاء ذكره وتحقق ذلك من خلال سياحات الكاتب مير جلال في غزليات فضولي من خلال قصيدة (ليلى والمجنون) المكتوبة باللغة الأذرية، فهي من أروع ملاحم الحب وبها استحق فضولي وصف شاعر القلب والروح. لمَ لا وهو الشاعر والمثقف والأديب والكاتب. ونوهت إلى أنَّ كتاب (براعة فضولي) يستحق قراءات أخرى تتسق والدوائر المعرفية البحثية فلسفياً واجتماعياً ولغوياً وأخلاقياً وتربوياً ومنهجياً ومفاهيمياً، لتجسد تنوعاً وتبايناً، براعة فضولي.
وكانت قراءة الدكتور صبحي ناصر بعنوان (البنية العروضية في شعر فضولي) قدم فيها مقدمةً موجزةً عن الشاعر، وعن أهميته وشاعريته وأهم ما قيل عنه. وخلقه أروع النماذج الكلاسيكية الشرقية بثلاث لغات.. بالأذربيجانية والعربية الفارسية، وتأثره بمن سبقوه، كما تأثر به من جاء من بعده. مشيراً إلى أنَّ فضولي نظم شعره كله على الوزن العروضي الخليلي، متجاوزا أنَّ العروض أنشىء وفقاً الخصائص اللغة العربية. ونوَّه إلى أنَّ فضولي في غزلياته كتب على أوزان الهزج (مفاعيلن) والرمل (فاعلاتن) ، وابتعد عن الأصوات عالية الصوت والسرعة مثل الرز (مستفعلن)، المتقارب (فعولن) ، ومن عشقه للأوزان استخدم بعض الألفاظ بالأذربيجانية مع تغيير بسيط، كما أنه أكثر من (التصريع) وهو توافق حرف الروي في الصدر والقافية، كما أنه طور بعض البحور فنظم بثماني تفعيلاته من بحر الرمل. أما في القوافي فقد كتب بأشكال عديدة ومتنوعة، مماثلة في النطق والشكل. وأكثر مما عرف في زمانه بالرديف وهو (لزوم ما لا يلزم) الذي ابتدأه المعري. واخترع القصيدة المائية بالأذربيجانية، وألزم الشاعر نفسه بروي حرف الراء يتبعه (سو) أي الماء، فاتخذ من الماء محوراً وغرضاً للقصيدة.
وكانت الورقة البحثية التي قدمها رئيس تحرير جريدة (أوروك) علي جبار عطية بعنوان (التصالح مع الذات والوجود عند الشاعر فضولي) تناول فيها ملامح من حياة الشاعر الذي تميَّز بثقافته الواسعة والتزامه الأدبي والأخلاقي، فضلاً عن تدينه وورعه، وحبه الشديد لأهل البيت عليهم السلام،ومن أهم مؤلفاته (ليلى والمجنون)، و(حديقة السعداء) وهو عن واقعة الطف في كربلاء سنة ٦١ هـ، وقد برع في وصف ما حدث من صراعٍ في ذلك الحدث الفاصل بين القيم النبيلة، وقيم الانحطاط فعبر عن ولائه المطلق لأهل البيت عليهم السلام وما جرى عليهم من فجائع، فهو إذنْ شاعر رافض للظلم بكل أنواعه، وهو شاعر ملتزم ومتدين.
وبيّن معنى التصالح أنَّه التعامل بتلقائية ومن دون تكلف والشاعر متصالح مع ذاته وكذلك مع الوجود برغم فقره وحزنه، ويرى ذاته جزءاً من الوجود ويتقبل الواقع كما هو.وأشار إلى أنَّ كونهِ ملتزماً بالمعنى الأدبي، فلأنَّ له رؤيةً وبصيرةً ورسالةً واضحةً ينتصر بها للإنسان أياً كان موقعه الطبقي والاجتماعي والثقافي،فهو يرى أنَّ راعي الغنم المستمتع بعمله لا يقل شأناً عن الإسكندر المقدوني الذي فتح البلدان، وقد عُرف عنه مشاركته للناس في همومهم وآلامهم.
أما الالتزام بالمعنى الأخلاقي فقد عُرف عنه اجتنابه للرذائل، وتحريه عن الفضائل، وهو بذلك يضربُ مثلاً عملياً على أنَّ الأديبَ المُجيدَ يمكن أن يجمع بين الالتزام والجودة فيفند ما شاع بين الأدباء على مدى العصور من أنَّ الإبداع مرتبط بالتحرر من الضوابط والأنظمة.
وأشار الباحث إلى أنَّ مسألة الإبداع مرهونة بالموهبة، وحسن إدارتها، وتوفر الظروف الملائمة لظهور العمل الأدبي ناهيك عن أنَّ الذين حصلوا على قدرٍ كبيرٍ من الحرية توصلوا إلى أنَّ الحرية يجب أن تكون لها حدود وإلا تحولت إلى كوارث كما يرى الكاتب الإنكليزي كولن ولسن(١٩٣١م ـ ٢٠١٣م) الذي يقول:(الحرية مدمرة إنْ لم تصحبها المعرفة والشعور بالمسؤولية)، فضلاً عن أنَّ الحرية نسبية، حتى قيل : (الإنسان حر في ميدان من القيود).
وقارن الباحث بين الشاعر فضولي البغدادي ونموذجين من الشعراء الملتزمين والمتدينين وهما نموذجان ناصعان: الأول الشاعر الكميت بن زيد الأسدي ( ٦٨٠ م ـ ٧٤٣م) (٦٠ هـ ١٢٦هـ) الذي عاش الالتزام والولاء لأهل البيت، وقد أيد ثورة زيد بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) (٦٩٥م ـ ٧٤٠م) على الحكم الأموي الجائر، ودفع الكميت ثمن ذلك بمقتله في مجلس والي العراق يوسف بن عمر الثقفي سنة ١٢٦ هـ، ودفن في مدينة العمارة جنوبي العراق .
والنموذج الثاني الشاعر دعبل الخزاعي (٧٦٥م ـ ٨٣٥م) فقد كان شاعراً رافضاً للسلطة الظالمة، شديد الحب والولاء لأهل البيت (عليهم السلام)، وهو المشهور بقوله: (أنا أحمل خشبتي على كتفي منذ خمسين سنة لستُ أجدُ أحداً يصلبني عليها)، وقد قتل ظلماً وعدواناً، وهو شيخ كبير سنة (٢٤٦ هـ) في نواحي الأهواز، وحمل إلى مدينة الشوش، في محافظة خوزستان جنوبي إيران، ودفن بها بحسب (كتاب الغدير: ٢ / ٣٦٣).
وخَلص إلى القول : إنَّ الشاعر فضولي بمصالحته مع ذاته والوجود يُمكن أن يكون نقطة التقاء بين الحضارات، وهو يدعو الناسَ إلى حب الحياة، وإلى الفهم الصحيح للوجود،وهو حاضر بيننا على الرغم من وجوده في زمن يبعد عنا أكثر من خمس مئة سنة، ولكنَّ صدى دعوته إلى الحب وقبول الآخر المختلف والتسامح ، نجد أنفسنا بأمسِ الحاجة إلى تبنيها ، وتجسيدها على أرض الواقع فهو رمز من رموز التعايش بين الشعوب، والحضارات، والثقافات.