أدب

أمل.. قصة قصيرة

فاطمة النهام | أديبة من البحرين

     تمددت على فراشها بإرهاق بعد عودتها من العمل، وضمت طفلتها ذات العام إلى صدرها، وهي تطبع على خدها الغض الناعم قبلة رقيقة دافئة. ابتسمت بحنان وهي تتأمل عينيها الملائكتين الغارقتين في نوم عميق.

تنهدت بقوة، وأغمضت عينيها وهي تفكر بعمق. عادت بذاكرتها إلى الوراء، ما يقارب أربع سنين بالتحديد، وكأنها تسمع أحاديثها وضحكاتها مع أمها.

أمها الرائعة التي أفنت عمرها وشبابها وصحتها في سبيل رعايتها وإخوتها، وسقيهم من فيض حبها، وعبق حنانها المتدفق.

تذكرت أيام مرحلتها الجامعية، حينما لم يكن همها في الحياة سوى دراستها وأمها المريضة، ترافقها في كل حركاتها نظراتها الطيبة، وابتسامتها الطفولية المشرقة.

لم تفارقها يوماً، اعتادت المكوث معها، والالتصاق بها كأنها جزء لا يتجزأ من روحها. أحبتها بكل عواطفها ومشاعرها، بل بكل خلية من خلايا جسدها، لأنها حبيبتها، وصديقتها، وأقرب الناس إلى نفسها.

كانت تسعى لمنحها وتعويضها الكثير عما عانته في حياتها. كثيراً ما انتابها القلق لحال مرضها، وخوفها بأن يأتي ذلك اليوم الذي تفقدها فيه.

عاشت أمها في غربة، وما كان أصعب من فراق الأحبة، اقتاتت طيلة خمسة وعشرين عاماً على ذكراهم، تفتقدهم وتتمنى لقاءهم. لكن دوام الحال من المحال، فأحبتها قد غادروا هذه الحياة، وهي مؤمنة بأن مثواهم الجنة، وأنها ستلقاهم هناك يوماً، في جنات النعيم.

استفاقت من أفكارها، ونهضت من فراشها، ثم جلست على طرف السرير. تنهدت بعمق، وأخذت تتأمل صورتها المعلقة على الحائط.

لم تسِء هذه الأم الفاضلة يوماً إلى أحد ما في حياتها، لم تؤذِ مشاعر شخص صادفته في سنواتها الخمسينية التي عاشتها. لم ترتد مجالس الغيبة والنميمة يوماً. كانت قنوعة وراضية، القناعة بكل ما تحملها الكلمة من معانٍ. لقد كانت فعلاً قمة شامخة يزينها التواضع، بل ملكة في الغفران، والعفو، والتسامح.

لم تحمل سوء النية في نفسها لأحد أبداً. كانت ينبوعاً من الطهارة، والحنان، والطيبة. لم تحسد أحداً على رزق آتاه الله إياه. لم تحمل ذرة حقد في قلبها تجاه شخص عرفته، ولم ينطق لسانها يوماً بالإساءة إلى أحد.

تذكرت جيداً حينما تدهورت حالة أمها الصحية، حيث أصبحت محل تهديد وخطر في فقدانها للحياة.

توقفت أفكارها عند هذه النقطة، وسال خيط ساخن من الدموع أحرق فؤادها. ففي إحدى ليالي ديسمبر الباردة من عام 2002م، رحلت الأم العظيمة عن هذه الدنيا، تاركة ابنتها تصارع الوحدة وآلام الفراق.

أعوام طويلة مرت منذ طفولتها وأمها تزرع الابتسامة على ثغرها، كالنور، وتضيء البيت بضحكاتها الحلوة، تزرع المحبة في كل ركن بالمنزل، مخفية أحزانها، وأوجاعها، ومرضها، حتى لا تسبب القلق لأبنائها، أو أن تزرع في أنفسهم الخوف والقلق من أجلها.

لكن رحيلها عنهم حال دون ذلك، لأن قضاء الله عز وجل كان أقوى من ابتسامتها المضيئة، ومحاولة إخفاء الوهن ومضاعفات المرض.

كان رحيلها صدمة، بحق صدمة كبيرة، فلا يمكن لها بعد الآن أن تشع النور في بيتها، وأن تروي أبنائها بحنانها الكبير كما كانت.

افتقدت ابنتها احتضانها، والاستماع إلى صوتها، وعاشت على الذكريات الحلوة التي جمعتها بها، وما أدركته الآن فقط بأن أمها وحبيبتها وصديقتها قد رحلت.. فعلاً رحلت.. وانتهى كل شيء.

هنا فقط أدركت بأن الحياة لم تعد الحياة نفسها..

الشمس لم تعد تعطي نوراً..

الزمن توقف بها..

وأنفاسها لا تستطع الخروج من صدرها..

أظلمت الدنيا أمام عينيها..

وكأنها اصطبغت بطلاء أسود..

رحلت السعادة من حياتها بلا رجعة..

اختفى النور إلى ما لا نهاية..

وذبلت الأزهار..

أغمضت عينيها وكأنها ترى متاعب أمها وهي تنام على سريرها بالمستشفى، تسمع تأوهاتها وبكائها وعذاباتها، وأخذت تبكي.

تذكرت أنها أصيبت بجلطة في المخ، مما أعاقها عن السير، وبقاها على سرير المستشفى لمدة شهر ونصف الشهر، ويئس الأطباء من احتمالية شفائها، حيث دخلت في غيبوبة عميقة، رحلت بالأخير عن كل من عرفها وأحبها.

تذكرت أنها، طيلة مكوثها على فراش المرض، لم تفقد الأمل أبداً في أن تتماثل للشفاء، وأن تعود إلى أحضان منزلها وأولادها، تنير حياتهم كما كانت.

مر بخاطرها أحد تلك الأيام السوداء، ذلك اليوم الذي لن تنساه أبداً، حيث عادت وقتها من عملها، يسابق قلبها المتوجع قدميها، مهرولاً بسرعة إلى غرفة والدتها بالمستشفى.

وأثناء دخولها عبر البوابة الرئيسية، فوجئت بالطبيبة تخرج من المصعد الكهربائي، وحينما التقت نظراتها بعينيها، وجدت فيهما نظرة مختلفة، لم تجد لها تفسيراً.

تمتمت الطبيبة يومها بتردد:

ـ يؤسفني أن أخبرك بأنه لا يوجد أمل في شفاء والدتك، نظراً لحالتها الصحية المتدهورة.

شعرت وكأن هذه العبارة أطلقت على مسامعها كالقنبلة، صمّت أذنيها بقوة!

ابتلعت ريقها بصعوبة وهي تقول:

ـ ماذا تعنين؟!

تنهدت الطبيبة ونظرت إلى عينيها مباشرة وهي تقول:

ـ عزيزتي.. والدتك أيامها في الحياة معدودة!

شعرت وكأن قلبها قد توقف عن النبض، قالت للطبيبة بصوت مختنق:

ـ ولكن.. أليس هناك أمل يا دكتورة؟!

هزت رأسها نفياً وهي تقول بأسف:

ـ الأمل عند الله سبحانه وتعالى.

ثم تأملت عيني الابنة الحزينتين وهي تربّت على كتفها قائلة بخفوت:

ـ أرجوك.. لا تصعّبي على الأمر أكثر.

انصرفت من أمامها، وشعرت الابنة بأن الدنيا تتشح أمام عينيها بالسواد. أخذت تجر قدميها جراً إلى المصعد الكهربائي، متوجهة إلى الجناح رقم (23) بالطابق الثاني.

شعرت بأن روحها تلتقط الأنفاس بصعوبة، هتفت في قرارة نفسها: هذه الطبيبة مخبولة.. لا تعرف شيئاً! يستحيل أن تموت أمي، وألا يكون هناك أمل بشفائها! يستحيل!

توقف المصعد، ووجدت قدميها تخطوان إلى أرضية الطابق، وهناك رأت الطبيب يتحدث في إحدى الزوايا إلى طبيب آخر. اتجهت إليه ببطء وقلبها يخفق بعنف.

وما إن التفت إليها حتى رأت بعينيه النظرة نفسها التي رأتها قبل قليل بعيني الطبيبة!

تساءلت في نفسها مجددا: ما الذي يحصل هنا؟! ماذا يحدث لهم؟! هل من المعقول فعلاً بأنه لا يوجد أمل بشفاء أمي؟!

وما إن اقتربت منه حتى ابتلعت ريقها بصعوبة، وهي تسأله عن حالة أمها، وعن صحة ما أخبرتها به الطبيبة منذ قليل.

حكى لها ما وصلت إليه حالتها بأسف، وهي تستمع إليه بصمت. شعرت بالدنيا تدور بها، وتماسكت كي لا تسقط مغشياً عليها.

مرت حينها على خاطرها لحظات مكوثها معها في المستشفى، وقلقها المستمر عليها بسبب سهرها إلى جانبها. كان ضميرها يؤنبها من إرهاق ابنتها وتعبها وهي في أوج مرضها وعذابها.

قاومت دموعها وهي تحاول أن تواجه الموقف بصلابة، سألته والألم يعتصر قلبها:

ـ ألا يوجد أمل يا دكتور بنقلها وعلاجها في الخارج؟!

تأملها بإشفاق، ثم هز رأسه نفياً وهو يقول:

ـ ولا أية منطقة في العالم تستطيع مساعدتها.

ثم نظر إلى عينيها مباشرة، وكأنه يطلب منها تفهم الموقف:

ـ الأمل موجود عند الله سبحانه وتعالى.

تمتمت والدموع تترقرق بعينيها:

ـ ونعم بالله.

انصرفت من أمامه بسرعة، وما إن اعطته ظهرها حتى امتلأت عيناها بالدموع فحجبتهما عن الرؤية، أخذ جسدها يرتجف بقوة من فرط الحزن والانفعال، توجهت الى غرفة أمها بالمستشفى، وأعماقها المحطمة تهتف: هكذا وبكل بساطة ترحلين! تفارقين نصفك الآخر! يا ترى كيف يمكنه الآن أن يعيش؟

هتفت أعماقها بغضب: كل يوم كانوا يعطونني أملاً جديداً بشفائها. جعلوني أتعلق بآمال كاذبة طيلة الوقت! كان يتضاعف وينتعش الأمل في صدري أكثر فأكثر بعودتها الى البيت، والآن يخبرونني بكل بساطة أنها ستموت خلال أيام!

    توقفت أمام باب الغرفة، مسحت دموعها بأصابع مرتجفة، وحاولت أن ترسم على وجهها ابتسامة شاحبة. دخلت إلى غرفة أمها جاهدة في أن تحبس عبراتها، تلقتها والدتها بالابتسامة الطفولية المشرقة نفسها، وبصعوبة بالغة ابتسمت لها، قبلتها على رأسها، ثم احتضنتها مقاومة بقوة خرافية نفسها على ألا تنفجر بالبكاء.

خاطبت نفسها: كيف لهذه الابتسامة أن تزول؟

كيف يمكن بأن يكون للحياة لون زاهٍ بعد رحيلك؟

كيف يمكن لي أن أحيا دون أن تلفظ شفاهي بكلمة أماه؟!

      وضعت رأسها بين كفيها.. كيف سيكون وقع الصدمة على والدها وإخوتها حينما تخبرهم بما أخبرها به الأطباء؟! وهم على شغف بتماثلها للشفاء وعودتها إلى كنفهم.. مترقبين ذلك على أحر من الجمر.

    مرت الأيام تلو الأيام بعد وقع هذا الخبر على رأس الابنة كالصاعقة، وهي تبتلع الألم، وتجتر الحزن، وتقاوم انهمار دموعها المكبوتة.

    حاولت إدخال البهجة إلى قلبها في الأيام الأخيرة من حياتها. لقنتها الدعاء، وقرأت لها القرآن، وذكرتها بقصة سيدنا أيوب (عليه السلام) حينما صبر على متاعب المرض، وكان ذلك ابتلاءً من رب العالمين حتى يمتحن صبره.

لم تستطع تصديق حقيقة بأن أيام أمها في الحياة قليلة، لأنها لم تفقد الأمل أبداً في تماثلها للشفاء. صلت كثيراً، وبكت طويلا، أثناء السجود، راجية من الله عز وجل في أن يمد بعمرها.

مرت في ذهنها ذكرى لن تنساها أبداً؛ كانت الأم يومها تتأمل سقف الحجرة طويلاً، وهي تفكر بعمق وشرود، وكأنها تعود بمجداف ذاكرتها إلى الوراء البعيد. تأملتها ابنتها خلسة، وشعرت بالفضول يعتريها. قطعت حبل أفكارها وهي تسألها بخفوت:

ـ أماه.. بماذا تفكرين؟

استفاقت من أفكارها بغتة، وغمغمت قائلة:

ـ لا شيء.. لا تقلقي.

وبعد صمت طويل تنهدت قائلة:

ـ لقد مكثت مرات عديدة بالمستشفى بسبب المرض، ولكن…!

تمعنت ابنتها بوجهها محاولة أن تعرف ما تخفية، سألتها:

ـ ولكن ماذا يا أماه؟

ـ أشعر بأنني لن أخرج هذه المرة، إلا إلى القبر!

خفق قلبها، وقاومت دموعها وهي تحتضنها قائلة:

ـ لا تقولي هذا يا أماه.. ستخرجين من المستشفى بالسلامة وستعودين إلى البيت إن شاء الله.

غمغمت الأم مرة أخرى وهي تقول:

ـ أتعشم ذلك.

ثم رفعت رأسها إلى السماء، تتضرع إلى الله:

ـ يا رب.. مثلما أعدت يوسف لأبيه، أعدني إلى بيتي وأولادي.

في الأيام الأخيرة من حياتها، كان بياضها يزداد لونه كالثلج. وبعد قيام الممرضات بقص شعرها لتسهيل غسله، بدا قصيراً، منسدلاً تحت أذنيها كشعر طفلة.

لقد كانت رقيقة، طفولية الملامح والصوت، لكنها بقدرة الله ازدادت جمالاً وشباباً، واستغربت الابنة هذا التغيير. فبقدر متاعبها وعذاباتها، إلا أنها كانت تزداد جمالاً كلما تدهورت صحتها، وكلما قارب الموت منها.

أدركت أن هذا التغيير يدل على حسن خاتمتها، وكأنها تستعد لملاقاة ربها، في جنة عرضها السماوات والأرض.

لم يثر هذا التغيير دهشة ابنتها فقط، بل أثار استغراب كل الموجودين في الجناح، من أطباء وممرضات ومريضات. كانوا يزورونها ويسألون عنها بقصد التعاطف معها ومع ابنتها، أناتها وآلامها طوال الليل تجذب أسماعهم.

بعد أيام معدودة، وجدتها لا تتكلم، ولا تقوى على الابتسام، كانت تقترب منها أحياناً لتخاطبها بهمس علها تسمعها. شعرت بها وكأنها تسمعها، كانت تتمتم بكلمات مبهمة غير مفهومة..

وبعون الله القادر على كل شيء، حدثت معجزة طبية، حيث سمعها الأب تنطق بشهادة لا إله إلا الله، وتهللت أساريرها، حامدة الله وشاكرة فضله بأنها استطاعت أن تنطق الشهادة وهي في وضع لا تستطع فيه الكلام.

بقت أمها في مرحلة الغيبوبة حتى توقفت بها الأنفاس. لن تنسى أبداً موقف وفاتها، واختفاء آخر نفس عطر لها في الحياة، أمام ناظريها وجدتها ترحل.

تذكرت حينما حضر والدها وإخوتها لزيارتها، وكأنه يوم الوداع. وبعد انصرافهم، بقت مع أخويها يقرأون لها القرآن، ويهللون لها بالدعاء، غير مدركين بأن تلك اللحظات هي لحظات احتضارها، وما هي إلا دقائق معدودة حتى فارقتهم، وإلى الأبد.

استدعوا الممرضة، وبسرعة التفّ حولها أطباؤها وبعض الممرضات يتفقدونها، بينما وقفت هي مع أخويها في الخارج، تنتفض بانفعال، غير مصدقة بأن أمها قد رحلت عنهم.

بعد لحظات، أزاح الطبيب الستار، وبدت على وجهه علامات الأسف، صافح أخويها مقدماً تعازيه.

اقتربت ببطء من سريرها، ووجدتها راقدة بسكون كالملاك. تفجرت عيناها بالدموع، وسالت بغزارة. انتحبت وهي تتأمل وجهها الطفولي، وعينيها المغمضتان كما لو كانت في سبات عميق، وكأنها ارتاحت من عذاباتها وآلامها أخيراً.

تصاعدت ضربات قلبها بقوة، وهي تبكي، وضعت جبهتها على طرف السرير، تتذكر أحاديثها مع أمها طيلة مرضها ومكوثها معها في المستشفى، يتردد بأذنيها صدى صوتها الدافئ الحنون.

اقترب منها أخوها الصغير، يقبل قدميها، وعيناه تذرفان الدموع، بينما تسمّر الآخر، يتأملها بوجوم حزين، غير قادر على البكاء، غطت الممرضات جسدها بالملاءة البيضاء، ثم انصرفن من المكان.

بعد لحظات حضر الأب، وقد ارتسمت على وجهه علامات الحزن، اقترب منها وقبلها على جبينها بجلادة، ثم هتف رافعاً رأسه للسماء:

ـ اللهم إنني راضٍ عنها.. فارضَ عنها كل الرضا، واجعلها لي زوجة في الآخرة.

كانت الابنة قد جهزت جلابيتها وعباءتها وخفيها في الخزانة الصغيرة المجاورة لسريرها، حتى ترتديهم أثناء خروجها، ولكنها رحلت إلى بارئها بثوب المستشفى.

ما أدركته الآن، بأن الموت كان أقوى من كل الحب الذي حملته هذه الأم لأولادها، وكل العطاء الكبير الذي قدمته لهم.

فجأة، ودون سابق إنذار، وجدت منزلها يكتظ بالأهل والمعارف والأصدقاء، وإلى هذه اللحظة هي لا تستطع أن تصدق بأن أمها قد فارقت الحياة.

حضر العديد من الناس إلى جنازتها، وامتلأت المقبرة بهم.. ألهذا الحد كانوا يحبونها ويحترمونها؟!

على الرغم أنها لم تكن كثيرة الاختلاط بالأخرين، وكرست حياتها كلياً لأولادها، واكتسبت حبهم واحترامهم وتقديرهم لها؛ كأم مثالية، وامرأة عاقلة رشيدة.. بقت وظلت ذكرى جميلة لكل من عرفها.

كان من الصعب على الابنة التأقلم مع الوضع الجديد؛ فراق أمها كان أصعب من أي شيء عرفته في حياتها، لأنها عاشت مدللة دوماً من قبلها؛ تحبها، وتشجعها، وتقوي ثقتها بنفسها.

تذكرت أنها، وبأشد لحظات المرض، كانت تدعو لها بالتوفيق والسعادة في حياتها. وعلى الرغم من متاعبها، وحنانها الكبير الذي غمرت به ابنتها، كانت تلوم نفسها وكأنها السبب في تعبها في السهر إلى جانبها.

تذكرت يومها أنها قبلت كفيها وهي تقول:

ـ أي تعب تتحدثين عنه يا أماه؟! لقد تعبت بالسهر إلى جانبك، أقوم برعايتك وخدمتك طيلة الشهر ونصف الشهر.. لكنك تعبت معي طيلة أربعة وعشرين عاماً!

أغمضت عينيها وهي تخاطب نفسها:

ـ لكم تمنيت لو أمدّ الله بعمرك، لملأت حياتك بالسعادة والبهجة، ومنحتك الكثير، ولكن شاءت مشيئة المولى عز وجل بأن تتركينا وتفارقي أحضان بيتك.. نعم، فارقتِنا، ليكتب الله لك حياة أفضل، تستحقينها في جنات الخلود، لأنك أعظم أم بالوجود.. الأم المثالية.. صاحبة القلب الكبير.

توقف شريط ذكرياتها، وأغمضت عينيها وهي تبكي، مخفية وجهها بوسادتها. مر عامان على رحيلها، تزوجت الابنة، ومرت أيام عرسها، تمنت لو كانت إلى جانبها، لكانت أكثر الناس سعادة وبهجة لها.

مرت بمتاعب الحمل والولادة، وتمنت كثيراً أن تكون معها، أنجبت حينها طفلة كالبدر، أسمتها على اسمها، ليبقى حياً في قلبها ولسانها دائماً وأبداً.

ارتاحت أمل من متاعب الدنيا..

كانت الحياة والحب..

العطاء والتسامح..

الطيبة والتواضع..

المرأة الحافظة للسانها..

وزوجها..

وبيتها..

وأولادها..

كانت الشرف العالي.. والأخلاق كلها..

رحمك الله يا أمل..

وأسكنك فسيح الجنان..

وعوض صبرك..

وجعلك من الحور العين..

وجمعك مع أحبابك في جنات النعيم..

رحمك الله أيتها الأم العظيمة..

وسقاك من حوضه المورود..

وجعلك ممن يتنعم باللؤلؤ والحرير..

وأنهار من خمر..

ولبن..

وعسل مصفى..

ستبقى ذكراك في قلوب كل من عرفك..

وستبقين الفخر..

كل الفخر..

فخراً لأهلك..

وزوجك..

وأولادك..

وأحفادك..

كل الألسن تردد عليك الرحمة..

وكل القلوب تهتف بذلك..

 الجنة مثواك يا أمل..

وأنت الآن حمامة.. تحلقين في سمائها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى