مقال

محمد طاهر.. فارسٌ في زمن الأوغاد

علي جبار عطية| إعلامي عراقي
في زمن يتكاثر فيه الأوغاد والأنذال والغُمّان كما يتكاثر الذباب يجود الدهر علينا بنقطةٍ مضيئةٍ تبدد الظلمة .. هذا هو محمد طاهر أبو رغيف الموسوي الطبيب العراقي الشريف المنحدر من أسرة نجفية تعيش في لندن، ولن يعتب عليه أحد لو بقي ممارساً لاختصاصه في المؤسسة الصحية التي يعمل فيها فقد ولد في مدينة ويلز في ثمانينيات القرن العشرين،وانتقل مع عائلته إلى لندن، ودرس في كلية الطب في إحدى جامعات بريطانيا، وتخصص في جراحة الصدمات والأطراف العلوية والأعصاب الطرفية، وعمل استشارياً في هذا المجال وهو عضو في هيأة الخدمات الصحية البريطانية، وعضو في منظمة (مهنيون صحيون من أجل فلسطين) لكنَّه ترك كل ذلك وراء ظهره، وسافر إلى غزة، وبقي صامداً سبعة أشهر، وعايش فيها الناس الذين ينتظرون القنابل القادمة التي تجود بها طائرات عدوٍ منزوعِ القيم، لا يرحم.
حكاية محمد طاهر تستحق أن تدون بالذهب، وتُروى بأفصح اللغات فقد تنقل بين المستشفى الأوروبي في جنوب قطاع غزة، ومستشفى شهداء الأقصى في وسطه، وعلى الرغم من تلقيه تحذيراتٍ كثيرةً بعد انتهاء مهمته المحددة بثلاثة أشهر إلا أنَّه قرر البقاء في غزة على مسؤوليته، وقد أجرى ٨٠٠ عملية وعالج ٢٦٠٠ مصاب، واستطاع إعادة زرع ذراع طفلة في التاسعة من عمرها، كانت قد بُترت نتيجة قصف لجيش الاحتلال على محافظة دير البلح وسط قطاع غزة فطلب إحضار الجزء المبتور من الذراع الذي ظل تحت الركام ثلاثة أيام، وبعد التأكد من إمكانية إعادته، أجرى جراحة معقدة ونوعية في ظروف صحية وطبية صعبة، ونجح في وصل الجزء المبتور بالذراع.
حين ضيَّفته جامعة الموصل مؤخراً بيّن دوافع اتخاذ قراره بالذهاب إلى غزة. أنَّه بسبب ما رآه من بشاعة القتل ، وقال : (إذا لم أكن أنا موجوداً فمنْ سيكون). آثر قبل ذلك أن يحصل على تأييد من السماء فصلى صلاة الاستخارة، وفتح القرآن الكريم فكانت الآية الكريمة دليله : (يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل) الآية (٣٨) من سورة (التوبة). كأنَّ الآية تخاطبه وتعاتبه ، فشعر بالتأييد والقوة، وقرر التوجه إلى غزة فذهب متطوعاً مع فريق (فجر الطبي) من لندن، وأخبر والدته أنَّه ذاهب إلى مصر.
واستطاع أن يدخل عن طريق رفح قبل أن يغلق الطريق، وكان ذلك بعد ستة أشهر من الحـرب، دخل إلى أول مستشفى كان عبارة عن مخيم لعوائل فارّة من خان يونس، وأول مهمة له كان من المفترض أن ينجزها خلال أسبوعين فبدأ بعلاج جراحة الأعصاب الطرفية من أول يوم له، وكان الوحيد القادر على هذه الجراحة، كما كانت المرة الأولى التي يرى فيها قتلى بهذه البشاعة، إذ رأى جثـثاً بلا رؤوس ، وبهذه اللحظة شعر أنه فعلاً في غزة، وصرخ بقوة في أول مشهد له، وقد صوره أحد الأشخاص، ونشره ووصل مقطع الفيديو إلى والدته التي صدمت عندما علمت أنَّه في غزة.
بعد اقتحام رفح وغلق المعبر شعر وفريقه بأنهم غرقى في الـدم والقتلى.. أراد أن يكون في مستشفى (شهداء الأقصى) ، يقول: كنا نحتار لمن نعطي أجهزة التنفس التي لا تكفي عدد الأطفال .. الطفل الأقرب للمـوت كنا نسحب منه الجهاز التنفسي.. بعض الأطفال استشهدوا ببطء بسبب قلة الأدوية.
يقول مخاطباً أكثر من ١٥٠٠ طالب في جامعة الموصل: رفعتُ علم العراق على صدري، وكلامكم عبر مواقع التواصل الاجتماعي كان يشجعني وأنتم فخر لي، وهبت كل حياتي لهذه المهمة، أردت تقديم خدمة إنسانية معنوية للمرضى إنْ لم تكن طبية، وحاولت أن أقلل من الخذلان الذي أصابهم من العرب والأمة الإسلامية، وهناك شباب ساعدوني، وبذلوا جهوداً جبارة، وكنت أستمد منهم القوة، ورأيت إيماناً قوياً برب العالمين في فلسطين، الناس يستشهدون ويقولون : الحمد لله، وحتى هناك الكثير من حفظة القرآن، كانوا يجسدون الإيمان، دخلت إلى غزة إنساناً وخرجت منها إنساناً آخر.
بعد ٤٧٠ يوماً من الحرب غير المتكافئة على غزة، وعلى الرغم من كل الجراح والخراب وقد تولد حرب أخرى لكنا خرجنا من هذه الحرب الأخيرة، وقد أعاد لنا محمد طاهر الأمل بالإنسان خليفة الله في الأرض

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى