القصيدة السير ذاتي في نص “عيونُ التّمثالِ” للشّاعر العراقي فاضل حاتم
مقاربة في التمثيل الرمزي للذات

د. أمل سلمان| ناقدة واكاديمية عراقية
في خضمّ موجة التّجريب الشّعري التي شهدها القرنالمنصرم، أبدع الشاعر المعاصر أشكالا شعرية تتناسب ومقتضى عصره وطبيعة حياته فانتقل بذاك مصطلح السيرذاتي بوصفه شكلا كتابيا حديث النشاة يجمع بين الدقة التأريخية والإمتاع القصصي من حقل السرد والرواية إلى ميدان الشعر، وربّما يكون الناقد العراقي، محمد صابر عبيد وبحسب – إطلاع الكاتبة – هو أوّل من أطلق تسمية (قصيدة السير ذاتيّ) على النص الشعري الذي تكون فيه الذات الشاعرة هي محور التجربة عندما، وصفها بأنها:”قول شعري ذو نزعة سردية يُسجّل فيه الشاعر شكلا من أشكال سيرته الذاتية وتظهر فيه الذات الشعرية الساردة بضميرها الأول متمركزة حول مركزها الأنوي، ومعبرة عن حوادثها وحكاياتها عبر أمكنة وأزمنة وتسميات لها تصورها الواقعي خارج ميدان المتخيل الشعري، وقد يتقنع الضمير الأول بضمائر أخرى بحسب المتطلبات والشروط التي تحكم كل قصيدة سير ذاتيّ ” ١/ ينظر التشكيل السير ذاتي، التجربة والكتابة: ٦٩
فلا تظهر هذه الذات بصيغة مباشرة إنّما عبر الرموز والإحالات التي تشير إلى تأريخ الشاعر الشخصي وحياته ومواقفه من العالم والمجتمع .وهذا يشير إلى أن قصيدة السير ذاتي هي تشكيل هجين، اندمجت فيه الخصائص الشعرية بخصائص السرد وعناصره من أحداث وأمكنة وأزمنة ذات ارتباط مباشر بحياة الشاعر وواقعه في نص شعري قوامه التكثيف والرمز والصورة المعبرة ، إذ تتحول القصيدة إلى نوع من الشعر المُسردن يتقابل فيه الشاعر والراوي ويندمجان معا في تداخل مستمر وغير نهائي، فهي “سرد استرجاعي لحياة منظومة شعرا ” ٢/ القصيدة السير ذاتية، بنية النص وتشكيل الخطاب : خليل شكري هياس: ١٣ .
تأسيسا على ما سبق يمكن أن نضع قصيدة (عيون التمثال) *، للشاعر العراقي الراحل فاضل حاتم في خانة هذا النوع من التشكيل الشعري، إذ يكشف من خلالها الشاعر عن تجربته الشخصية ويعكس حالة من الوعي المأزوم والوجود القلق تتوارى خلف صور التمثال والسجن والحنين والإغتراب، تتخذ السيرة الذاتية فيها شكلا غير خطي فتعتمد على الومضات النفسية والتداعيات الروحية لتشكل في النهاية نصامتوترابين الاعتراف والتمويه وبين المكاشفة والرمز، لنقرأ النص.
(عُيونُ التّمثالِ)
تراودُنِي في اللّيلِ
أشباحٌ
وعرباتٌ تجترُّ الحنين
وأسرارُ السجنِ المنطفئةُ
في عيون
التائهين
أتكأُ على الريحِ.. فتحملني
رؤىً
ويسقطني ضوءُ الشّمسِ
في ساحةِ السجنِ الكبيرة
فوقَ أعقابِ السّجائر
وأحزانِ السُّكارى
يجلدُنِي المطر … ويفقأُ عيني
غرابٌ يغنّي
ينبثقُ لحنٌ من قبرٍ منسي
وحارسُ السجنِ ..
يلاعبُ بندقيتَهُ القديمة
يطلقُ بضعَ رصاصاتٍ
لتزجيةِ الوقتِ
أتصفحُ فنجاني
فتخبرني (قارئة الفنجان)
و(ياليتني كنت ديواني)
لكنني تمثالُ من حجر
أخشى يُقطع رأسي، إذا بزغ القمر
أخشى..طلقةَ الحارسِ في الليل إذا سكر
على الظلال يطلقها
على الجدارِ
على الشّجر
عيناي ترى ما يفعلون …
أُذنايَ تسمعُ ما يهمسون
لكنّني حجرٌ
أخرستْنِي الظلمة والخوف والطرقات
أخرستني الرؤى والسّفر
وفحيح الكلمات
صمتُ التماثيل والدخان يجمعنا
والليلُ يحصدُ من أحداقنا الوسنا
أسائلُ الريحَ هل مرّت بكاظمةٍ
ففي فؤادي هوىً يشتاقُ مَن سكنا
فيها وأخرجني
فردًا بلا وطنٍ
ياويح مَن ضيّعَ الأهلون والوطنا
وأقتفي أثري
فوقَ الرّمالِ ولا أرى
لهُ أثرًا يَصغِي ولا شَجنا
٢٠٢٥/٧/٢٥
المتأمل للنص الشعري أعلاه يمكن أن يكشف تجلّيات الذات الشاعرة في عدد من الومضات وعلى النحو الآتي:
أولا / التمثال بوصفه قناعا للذات
يُعدُّ التمثال البؤرة الأساسية التي يقوم هذا النص عليها، يتخذ منه المبدع قناعا للذات الشعرية فهو رمز للجمود والصمت والعجز، ويوظّفه بوصفه استعارة كبرى للجمود الإنساني أمام القهر والظلم فكل ما سيرويه المبدع من أحداث، خوف وعجز وصمت وسجن واختناق يأتي من خلال هذا القناع الرمزي، وربما جاء اختيار الشاعر للتمثال تحديدًا إشارة بأن الذات لا تستطيع الظهور المباشر، بل تحتاج إلى استعارة تحميها من السقوط والمباشرة في الاعتراف بما يجول في خاطرها من هواجس وأفكار، يقول:
لكنني تمثال من حجر
أخشى أن يُقطع راسي إذا بزغ القمر
أخشى طلقة الحارس في الليل إذا سكر
على الظلال يطلقها
على الجدار …على الشجر
عيناي ترى ما يفعلون
أذناي تسمع ما يهمسون
لكنني حجر ...
الذات هنا ترى وتسمع كل شيء لكنها لا تستطيع فعل أي شيء، هي ذاتعاجزة مشلّولة بالصمت مثلها مثل تمثال يراقب، وتتحول فيها المراقبة إلى لعنة وجودية واللغة إلى صدى بارد يعيد مأساة الخوف الجمعي والقهر والظلم .
ثانيا / السجن بوصفه فضاء للسيرة الذاتية
فالشاعر عاش سجنين، سجن مادي إذ تخبرنا سيرة حياته إنّه قضى شطرا من شبابه في سجون النظام السابق بسبب من تهم التحريض والمنشورات ٣/ ينظر، القصيدة الومضة، إشكالية التسمية وتقاناتها في شعر فاضل حاتم: ٧٥ _ ٨٥
وسجن معنوي داخل ذاته المنغلقة التي لم تستطع التكيف مع المجتمع بعد خروجه من السجن، فوجد في القراءة وكتابة الشعر ملاذا أمنا له، إذ نلحظ تداخل الرؤية البصرية بين التّمثال والسجن، فالذات الشعرية تتحدث بصوت إنسان ذاق تجربة الإنغلاق الداخلي والخوف والاختناق فهو يأتي تمثيلا لمعاناة نفسية ومرحلة قمع سياسي واجتماعي عاشها المبدع. يقول:
أتكأ على الريح، فتحملنِي
رؤىً
ويسقطني ضوء الشّمس
في ساحة السّجن الكبيرة
فوق أعقاب السّجائر
وأحزان السّكارى
وحارس السّجن
يلاعبُ بندقيته القديمة
يطلقُ بضعة رصاصاتٍ
لتزجية الوقت..
فالسجن مثل هنا، استعارة كبرى للواقع السياسي والاجتماعي الذي يكبل الإنسان الحر، المفارقة هنا أن الشاعر يستيقظ داخل السجن لا خارجه (تحملني رؤى، ويسقطني ضوء الشّمس)، ما يشير إلى أن الحرية عند الشاعر مجرد حلم، سواء أكانت داخل السجن أم خارجه، وأن الحلم ذاته يتحول إلى سجن آخر، هذه البنية المزدوجة، الحلم / السجن، تكشف عن اغتراب الذات عن نفسها وعن زمانها.
ثالثا / رمزية الفنجان والقراءة
يقول:
أتصفحُ فنجاني
فتخبرني (قارئة الفنجان)
و(ياليتني كنت ديواني)
لكنّني تمثالٌ من حجر
أخرستنِي الظلمةُ والخوفُ والطرقات
أخرستني الرؤى والسفر وفحيحُ الكلماتِ
صمتُ التّماثيل والدخان يجمعنا..
يستحضر الشاعر في نصه هذا، نزار قباني والسياب في إشارة واضحة إلى نصوصهما، (قارئة الفنجان) لنزار و(هل كان حبا) للسياب، إعلانا عن رغبة المبدع في إشراك هذين الشاعرين همه وألمه، ومحاولة منه لفهم مصيره الشخصي وامنياته الضائعة، فهو يعود إلى الفنجان رمز الغيب والانتظار، بحثا عن إجابات لكنه يصدم القارىء بالاغتراب المرّ ليتحول بذلك الفنجان من وسيلة للأمل إلى مرآة لفضح العجز الداخلي، ثم نستشعر صرخة الذات، التي تشعر بانفصالها عن ذاته الإبداعية إذ تتحول إلى تمثال من حجر فاقد القدرة على الكتابة والحياة معا.
رابعا: الوطن بوصفه جذور السيرة الذاتية
يقول:
أسائلُ الريحَ هل مرتْ بكاظمةٍ
ففي فؤادي هوىً يشتاقُ من سكنا
فيها وأخرجنِي
فردا بلا وطنٍ
يا ويحَ من ضيع الأهلون والوطنا
هي صرخة الذات التي ضيعت الوطن، حيث تبلغ السيرة الذاتية أعمق مستوياتها، منفى وضياع وانسلاخ عن الجذور، إنّه اعتراف صريح بأن رحلة الشاعر هي رحلة بحث عن وطن وعن هوية وعن مكان آمن فالوطن هنا ليس جغرافية بل (هُويّة مفقودة) والاغتراب ليس فقط عن الأرض بل عن الإنسان نفسه، فالذات بقدر ما عانت من أحداث وشهدت تحولت بمرور الزمن إلى تمثال مشلول صامت أخرس وانتهت منفية عن الوطن وعن نفسها أيضا، تتشظى بين حضور داخلي وغياب خارجي.
وبهذا يثبت فاضل حاتم أن قصيدة السير ذاتية ليست ما تعيشه الذات فقط، بل ما يحاول قوله عبر الشعر حين تعجز الحياة عن قوله.
إحالات الدراسة ومراجعها:
*عيون التمثال/ هي قصيدة شعرية غير منشورة، تُعدُّ آخر ما كتبه الشاعر العراقي الراحل فاضل حاتم قُبيل أزمته المرضية الأخيرة التي توفاه الله على أثرها، وقد بعثها لكاتبة هذه الدراسة على الماسنجر بتاريخ ٢٥ / ٧ / ٢٠٢٥.
١ / التشكيل السيرذاتي، التجربة والكتابة، محمد صابر عبيد، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، سوريا، دمشق، ط١، ٢٠١٢م .
٢ / القصيدة السيرذاتية، بنية النص وتشكيل الخطاب، خليل شكري هياس، عالم الكتب الحديث، الأردن، إربد، ط١، ٢٠١٠م .
٣ / القصيدة الومضة، إشكالية التسمية وتقاناتها في شعر فاضل حاتم، د.أمل سلمان حسان، دار كلكامش للطباعة والنشر، بغدار شارع المتنبي ط١ ، ٢٠١٧م .



