معاني القرآن (1)

طاهر العلواني | كاتب مصري

الحمد لله رب العالمين، والصلاةُ والسلامُ على محمدٍ وآلِه والتَّابعين. وبعد…

فإنِّي منذ عهدٍ ليس بقريبٍ اطّلعتُ إلى كلمةٍ ليحيى بن حمزةَ العلويِّ، خَطِرتُ بها حتى تملَّيتُها ولبستُها، وإنْ كانتْ تدفعُ في قُحَمِ الموتِ؛ إنَّه ما من أحدٍ عالجَ تراكيبَ القرآن إلا وجدتَه دالفًا، وإنْ نبضَ منه عرقُ البيانِ، وإنِ استفرغَ المجهودَ وحاولَ الغايةَ في ذلك البحرِ تعصفُ رياحُه متذائبةً حتى يبلغَ حصَّةً من الفصاحةِ، ونوعًا من الإيسادِ يؤزَّانِه إلى الكشفِ عن مغزى تركيبٍ واحدٍ منه، فقصصتُ البيانَ طالبًا اجتلابَ مودّته، واستخلاصَ تحبُّبِه، ثمَّ جعلتُ رشائي إلى غايتي هو طلبَ المعونةِ من اللهِ على لسانٍ متمكِّنٍ وقوَّةٍ متصرِّفةٍ، أتَوَفَّى بهما مرادي فيما أردتُ، وأَتَوَفَّرُ على مقصودي إلى ما نويتُ؛ إنه حسبُنا ونعم الوكيل.

قال يحيى بن حمزةَ العلويُّ: إنَّ القرآن جاء على غايةِ الاعتدال ونهايةِ الاقتصادِ في المدحِ والذمِّ، وهكذا القول في جميع علوم القرآن وأصوله. انتهى بمعناه.

فجئتُ أتدبّرُها فإذا هي قد اشتملتْ على جسيمٍ من الأمر، وبعيدٍ في الخطْرِ؛ فإنَّه لو كان فيه شيءٌ من مبالغاتِ الشعراءِ لكذَّبوه بأنَّ اللهَ لا يكذبُ، وإذا كتابُ اللهِ بالغٌ من الاقتصادِ مبلغَ الكفايةِ وأشفَّ من الكفايةِ، ثُمَّ إنَّني عَرَضَ بخاطرِي أن أستبينَ ذلك وأُبينَه؛ فذلك أنجحُ للقصدِ، وأشفى من العيّ، وأجلى للجهالةِ، وأكشفُ عند التحقّقِ، فبنيتُ كلامي على طرائقِ البيانِ المعروفةِ، ثم إنْ يسّرَ اللهُ لي أتبعتُه بحُبُكِ المعاني. واعلمْ أنّى متى أطلقتُ لفظَ “الشيخِ” أو”الإمامِ” ولم أسمّه فهو عبدُ القاهرِ الجرجانيُّ – رضي الله عنه -، ومتى أطلقتُ “الشيخين” أو ما يدلّ على اثنين كذلك، فهما عبدُ القاهرِ والزمخشريُّ رحمة الله تغشاهما، إنَّه سميعٌ قريبٌ.

 الكلامُ في التشبيهِ

“وإذا قيل لهم آمنوا كما آمنَ الناسُ قالوا أنؤمنُ كما آمنَ السُّفهاءُ”

معلومٌ أنَّ “إذا” قد استُغني بجزمها عن عملِها، وهذا كاشفٌ عن أنَّ الأمر بالمعروف فرضٌ على الكفاية، وعينٌ للمُعَيَّنِ، ثم بنى الفعلَ لما لم يسمّ فاعلُه؛ إيذانا بأنَّه لما كان من فروضِ الكفايةِ لم يتعيَّنِ القائلُ، فجُعلَ كأنَّه نسيٌ منسيٌّ لذلك، ثم جيء بـ”لهم” تنبيهًا إلى أنَّ النَّصيحةَ موجَّهةٌ إليهم خصوصًا، ثم قال: “آمنوا” على أنَّهم في الظاهر مؤمنون، إنما أريد الإيمانُ الباطنُ “كما آمَنَ الناسُ” فالكاف كافُ تشبيهٍ هي حالٌ من مصدرٍ محذوف دلَّ عليه الفعل؛ كأنه قيل: آمنوا إيمانًا في حالٍ تشبهُ حالَ إيمانِ الناس؛ يريد ظاهرًا وباطنًا، ومذهبُ الإمام – رحمه الله – أنَّ اللامَ الجنسيةَ إما أن تكونَ للحصرِ، وإما أن تكونَ لادّعاءِ الحصرِ، وهذا كقولك: زيدٌ الشجاعُ، تزعم أنَّك لا تعتدُّ بشجاعة من دونه؛ لقصورها عن بلوغِ الكمال، وليس هذا المرادَ هنا، بل القصد إلى أنهم النّاسُ، ومن عدَاهم ففي رتبةِ البهائم، وهذا معنى الحصرِ، فقال المنافقون – وكأنّه في نجواهم يخلِسون الطرف – “أنؤمنُ” إنكارًا منهم وإبطالًا لأن يكون منهم هذا الشيءُ أصلًا، ثم قابلوا “الناس” بـ”السفهاء”، وهذا وإن كان وصفًا إلا أنَّ اللام فيه جنسيَّةٌ أيضا؛ ليستقيمَ نظمُ الكلامً كأنّهم جعلوا مَن سواهم عقلاء غيرَ سفهاء في مقابلةِ “الناس” الذين مَن دونَهم كالبهائم.

فهذا أوَّلُ تشبيهٍ في الكتابِ، ليس فيه – كما ترى – معنًى نابيًا لا يتشكَّلُ في عقلٍ، أو يستقيم في طبعٍ، بل هو في اكتساء الفضيلةِ واكتسابِ المزيَّةِ على طريقٍ قاصدةٍ نظمًا ومعنًى، حائزٌ المطلوبَ، وجامعٌ للغرض. والله الموفّق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى