بين الكلمة المنطوقة والكلمةالمكتوبة (٢/١)

رضا راشد على| باحث في قسم البلاغة بالازهر الشريف
قلت: إن من أعظم وسائل الإبانة، الكلمة المنطوقة والكلمة المكتوبة ، وأن يينهما من التكامل ما يجعل الحاجة ماسة لكل منهما في المقامات المختلفة، بحيث تسد إحداهما-بما تمتاز به- في مقامات لا تسد فيها أختها -بما افتقر إليه-.

وقلت: إن الكلمة المنطوقة لتفد على الآذان بالكثير من وسائل التأثير “استماعا” ما لا تفد بعشر معشاره الكلمة المكتوبة على العيون” قراءة “. فإن نبرات الصوت لتحمل فيوضا من الدلالات الشعورية والنفسية ما تفتقر إليه الكلمة المكتوبة

لهذا كانت الكلمة المنطوقة -وما زالت- عُدَّةَ من يروم التأثير في مشاعر الناس ويستحوذ على ألبابهم كالدعاة والوعاظ وأرباب السياسة ،.كلهم يلوذ بالكلمة المنطوقة مطية لغرضه في التأثير في الناس .

ولهذا أيضا كان الاستماع للقرآن يتلى من وسائل الهداية والرحمة،قال تعالى :((وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ))، فانظر -يارحمك الله- كيف رتبت الآية الكريمة الرحمة على الاستماع للقرآن الكريم ..وهذا كما يبدو لي يحتمل معنيين :أن يكون الاستماع للقرآن الكريم رحمة في حد ذاته؛ لأنه في ذاته عبادة ،أو أن يكون الاستماع القرآن الكريم مما يحدث تأثيرا في القلوب وهزة في النفوس بما يؤزها على الاهتداء بالقرآن: {أوامر ونواه}ٍ فيكون عقبى ذلك الاهتداء الرحمة :” لعلكم ترحمون ” ..وعلى هذا يشبه أن يكون في قوله تعالى : “لعلكم ترحمون” مجاز مرسل علاقته المسببية؛ إذ عبر بالمسبب((الرحمة)) وأراد السبب (الاهتداء)، وفي ذلك إشارة إلى أن التأثير مما يتسبب عنه قطعا الاهتداء المسبب قطعا للرحمة .

ومن هنا كانت تلاوة القرآن على مسامع المؤمنين مما يزيدهم إيمانا :”إنما المؤمنون الذي إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون ” فتأمل كيف رتبت زيادة الإيمان والتوكل على الله على سماعهم آيات الله تتلى عليهم =كما كان عدم تأثر الكافرين بالقرآن مصدر تعجيب منهم وإنكار عليهم، قال تعالى :”فما لهم لا يؤمنون وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون” ؟أي:
أي شيء يدعوهم إلى ترك الإيمان مع ظهور دلائله وأي شيء يمنعهم من السجود وقد توفر السبب الأول والأكبر في الخضوع وهو قراءة القرآن على مسامعهم؟!! حيث قال المفسرون:
” والسجود مستعمل بمعنى الخضوع والخشوع” (التحرير والتنوير) .

وإقرارا بما للكلمة المنطوقة من أثر تفتقره المكتوبة عجت كتب السيرة بالمواقف التى كان فيه رسول الله يستثمرها دعوةً للناس إلى الإيمان؛ فما أكثر ما تقرأ في كتب السيرة في قصص إسلام الصحابة رضي الله عنهم : “وعَرَضَ عليه الرسول صلى الله عليه وسلم الإسلام وتلا عليه شيئا من القرآن” ..وهذا ما كان يحسه المسلمون للكلمة المنطوقة، فكان أحدهم يتعمد كسر حاجز الصمت المضروب حول الدعوة بالآيات من القرآن الكريم يصدع بها في آذانهم ويقرع بها مسامعهم يروم بذلك تليين قلوبهم وتفتيح مغاليق أفئدتهم لنور الإيمان ، وكان ذلك دورا عظيما في الدعوة للإسلام .ثم كان هذا أيضا ما يحسه المشركون من أثر للكلمة المنطوقة بالقرآن حين قالوا :” لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون “.

وهل كان تأثر عتبة بن ربيعة هذا التأثر العظيم الذي ظهر جليا للمشركين حتى قالوا :”لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي خرج به من عندكم” إلا تأثرا بما كان للكلمة المنطوقة من كتاب الله تعالى تلاها الرسول صلى الله عليه وسلم على مسامعه.

وهل أدل على ذلك التأثير العظيم لهذه الكلمة المنطوقة أيضا من أنها تقض مضاجع الظالمين بما لا تفعله المكتوبة، حتى إنهم ليترصدون لكلمة الحق منطوقة على لسان خطيب نثلا ترصد الذئب للغنم، وحتى إنهم ليتغافلون عن الكلمة المكتوبة في كتاب أو جريدة أو صحيفة بما لا يكون عشر معشاره مع المنطوقة على لسان خطيب أو داعية أو مناضل ثوري او زعيم سياسي.

ولم يكن كل ذلك التأثير للكلمة المنطوقة إلا لأنك ترى فيها من فيض المشاعر والأحاسيس مالا يكون في أختها، حتى إنك لتسمع فيها زفرة الواجد، ونفثة المصدور، وبحة المستكين، وهم المهموم ، وابتسامة الرضى، وهدوء المطمئن ، وشجاعة الشجاع، وإقدام الجريء،وثقة المطمئن، وغضبة الغاضب، وتردد القلق، وتذبذب المضطرب=مالا يكون في الكلمة المكتوبة .
***
هكذا كان للكلمة المنطوقة من التأثير ما لم يكن للكلمة المكتوبة ..فهل كانت المكتوبة خلوا من كل فائدة وهل استأثرت المنطوقة بكل المزايا؟
#يتبع_إن_شاء_الله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى