الأمثال في القرآن، لقوم “يعقلون، يتفكرون، يتذكرون
محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري
ما أعذب ثناء القرآن على أهله وما أجله!، المصطفين المنتفعين المصاحبين له”تلاوة وعلما وفهما “، فليس بعد نسبه غاية في نسب، ولا منتهى في شرف، فهو الذي إذا مدح زان ورفع، وإذا هجا شان وخفض، وهو الذي مدحه زين، وذمه شين، وهو الذي يعلو ولا يعلى عليه.
وأما من هم دون أهله، فمهما بلغوا من العلم والمنزلة، والسلطة والسؤدد فلن يغني عنهم ما كسبوا شيئا، فلا جرم أن يرفع القرآن نسبه ويخفض أنسابهم.. وهذا الصنف من النسب الذي يشرف بصلته بالقرآن هم أهله الذي قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم “إنّ لله تَعَالَى أهْلِينَ مِنَ النَّاسِ: أهْلُ القُرْآنِ هُمْ أهْلُ الله وخَاصَّتُهُ”[حكم الألباني] (صحيح) انظر حديث رقم: 2165 في صحيح الجامع..
قال الألباني في الشرح: (إن لله تعالى أهلين من الناس) قالوا ومن هم يا رسول الله قال (أهل القرآن) وأكد ذلك وزاده إيضاحا وتقريرا في النفوس بقوله (هم أهل الله وخاصته) أي الذين يختصون بخدمته قال العسكري: هذا على المجاز والتوسع فإنه لما قربهم واختصهم كانوا كأهله، ومنه قيل لأهل مكة أهل الله لما كانوا سكان بيته وما حوله كانوا كأهله.
وقد مدح القرآن أهل العقل والعلم الواقفين على أمثاله وآياته المعتبرين بها بأنهم قوم “يعقلون، يتفكرون، يتذكرون”، وضرب القرآن الأمثال تقريبا للمعاني وإيقاظا للأفهام وتنبيها للفكر، ومن لم يقف عليها بشيء من النظر فهو محروم مغبون قد رزق آلة العقل وحرم معها النفع.
وقد ذكر الإمام ابن القيم في كتابه (الأمثال في القرآن) أن “مضرب الأمثال لأمرين، إما لتقريب المعقول من المحسوس، أو التقريب بين المحسوس والمحسوس”.
“مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)” [البقرة].
فهذا المثل قد ضرب للمنافقين وهم الذين جاءهم الهدى فأقبلوا عليه، فلما علموا صدقه أعرضوا فلم ينتفعوا بشيء من النور الذي حفهم، وبقيت لهم النار بحريقها ولهيبها مع ظلمة الجهل والتخبط وظلمة البصيرة، ثم صاروا بعد أمل الانتفاع بالهدى في حالة من الصمم والعمى، أى بقي لهم من ملكات العقل وأدواته آلتها (السمع والبصر)، وسلب منهم النفع بها فلا يستطيعون الرجوع للهدى بعد أن فقدوا ما قد عرفوه به ..
ولم يكن هذا لهم بظلم، ولكن بما أعرضوا ونكصوا فغووا بعد الرشد، وضلوا بعد الهدى، ولا يظلم ربك أحدا.
أما الذي يأملون في أن يحصل لهم شيئ من الهدى والنفع بدعواتهم الباطلة التي يتخذون فيها من دون الله أندادا، فقد صورهم القرآن في هذه الحالة من السفه والخبل ، فجعلهم كمثل الذي طلب الارتواء بعد أن ألهبه العطش، فلما ظفر بالماء ليروي غليلة عطشه، جعل يبسط يديه إلى الماء ثم يرفعه، فلا يبلغ شيء من الماء فاه، ولا يحصّل ريا، ولا يطفئ ظمأ نفسه لجهل منه وسفه في عقله، فلا يدري كيفية الانتفاع بالماء..فأي عاقل بعد ذلك ينشد النفع او الهدى من عند غير الله؟فإن فعل فما دعاؤه إلا في ضلال!
“لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ”[الرعد (14)].
ثم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأل المشركين هذا السؤال الذي يعلم سبحانه أنهم لا يملكون له إجابة ،إلا التي يعلم سبحانه أن يجيبوها، فهم لا ينكرون خلق الله السموات والأرض، وإذا كان ذلك فلم هؤلاء الأولياء الأدعياء الذين اتخذتموهم من دون الله،والذين لا يملكون لكم ولا لأنفسهم نفعا ولا ضرا، كما أنهم لا يملكون من السموات والأرض شيئا، وبالتالي انتفى عن قدرتهم كذلك النفع والضر.. وهذا الإقرار لابد أن يفرق به بين أهل البصائر والعمى، وأهل الظمات والنور.
هذا الاستفهام التوبيخي للمشركين الذين لم يتشابه الخلق عليهم حيث أنهم لم يقروا لغير الله بالخلق، فكيف إذن يشتبه عليهم الأمر او يلتبس إلا أن تعتري هذي العقول غفلة، أو تستحوذ على نورها ظلمة الهوى فتغلب نور العلم والبصيرة.
“قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ[الرعد (16)].
وقد جعل القرآن أكثر أمثاله للشرك ومن يتخذون من دون الله أندادا، ويفترون له شركاء(كذبا) فيما أفاء عليهم به من النعم، وما غمرهم من الفضل الذي لا يستطيعون أن ينكروه بلسان الحال فضلا عن لسان المقال، فجعل يقيم عليهم الحجة من واقع حياتهم التي يأبون، بل يستنكفون أشد الاستنكاف أن يكون هذا موجودا عندهم فيما يملكون من أموال وأولاد، فيقول:
” ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.”[الروم (28)].
فهذا أمر غير جائز في عرفهم، بل كانوا يأبون فيما هو أقل من ذلك وأنكروا أمره على دعوة النبي صلى الله عليه وسلم حين قال “لا فضل لعربي على عجمي، ولا أبيض على أحمر إلا بالتقوى ” ، وقال ” كلكم لآدم وآدم من تراب”، فأنكروا عليه في هذا أن ساوى بين السادة والعبيد، والملوك والسوقة، وجعل التفاضل عند الله بالتقوى، فكيف يقبلون أن يشركهم في أموالهم وأولادهم عبيدهم الذين يستنكفون أن يتساووا معهم في المكانة، فكيف يشركونهم في الأموال والأولاد؟!
وقد ذكر في تاريخ بغداد أن: الإمام أبي بكر الباقلاني انتدب ليناظر أحد الرهبان في الأديرة في القسطنطينية،فسأله الإمام “كيف حال الأهل والولد؟ فغضب من حوله، وأنكروا على الشيخ كيف يسأل مثل ذلك؟ فقال : ما تنقمون على فيما قلت؟ قالوا : إننا ننزه مثل هؤلاء عن الأهل والولد، فأجابهم : أنتم تنزلون مثل هؤلاء عن الأهل والولد، وتدعون لله زوجة وولدا؟!
قال الشيخ على الطهطاوي: “الأمثال:
طريقة من جملة الطرائق الأسلوبية التى عالجت بها الآيات القرآنية، الحقائق فى منازعها المختلفة.حقيقة المثل: يقوم المثل على الشبه والنظير بين طرفين؛ لتتم بينهما المقارنة والمشابهة، وقد يكون المثل بمعنى الصفة، ومن ذلك قوله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [الرعد: 35]، أى صفة الجنة، وقال تعالى: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى [النحل: 60]، أى الصفة العليا، وهى قولنا: لا إله إلا الله، وقوله تعالى: ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ [الفتح: 29]، أى صفتهم. وقال قوم: إنما يعنى المثل: المثال الذى يحذى عليه كأنه جعله مقياسا لغيره.”.