قراءة ناقدة فى (قصة كرامة) للقاصة السورية إيغار كنيفاتي

غادة عفيفي | ناقدة مصرية

أولا – النص القصصي

(إحدى عشرة ليلة باردة لهم)

1- كرامة
كان سامي يداوي حنينه للحياة بالبتر في كلّ مرّة يشتاق فيها ليعيش حياة كريمة يبتر جزءاً من ذاكرته .
في ذلك اليوم كان سامي يمشي في حارته البالية ، كانت الأحجار الهزيلة تنظر إليه بكره ، وأمّا الأشجار كانت تلاحقه بحنق ,, في حين أنّ القمر راح يرسل أشعته الفضيّة كاليد الخانقة..
ما إن دخل سامي منزله حتى سارع ليضع كلّ الأفكارعلى طبق ,, صاح لزوجته بصوت متقطع :
-ندى..أجائعة أنتِ..!!؟؟
ندى بتردد :
_  نعم جائعة
أجابها:
_ بسرعة تعالي لنأكل، نادي الأولاد وتعالي نأكل.. !!
قالت باستنكار :
-ما الذي سنأكله.. ؟؟ كم فكرة صنعتَ لنا أنا وأولادك يا سامي
-على العدد لم أستطع أن أصنع الكثير فالأفكار باتت مرتفعة الثمن .
-نعم صحيح ..   قالت له بسخرية
-ولكن لا غاز عندنا لأطبخها
-سنأكلها نيّئة هكذا،، هيا نادي الأولاد .
-ولا خبز..!!
-لا خبز،  لا تحتاج الأفكار للخبز سنأكلها هكذا .
-و لا حتى ماء..!! كيف سنبلعها..!!؟؟
– لا أولادك جائعون سيأكلونها بسرعة نادي عليهم
نادت على الأولاد فحضروا على عجل..
والتهم كلّ واحد منهم فكرة.. لكنهم بعد أن انتهوا طالبوا أباهم أن يقتل نفسه لأنّ إحدى الأفكار كانت تقول : من بلا كرامة لا يستحق الحياة.

ثانيا- القراءة النقدية:

يقول إدجار ألن بو :
إن نجاح الكاتب أو فشله يقع على عاتق جملته الافتتاحية الأولى فإذا استطاعت هذه الجملة إبراز أثر مميز فقد نجح وإن لم يستطع فقد فشل .

والقصة التى بين يدى تعتمد جملتها الافتتاحية على المفارقة، مفارقة المبنى للمعنى فجملة البداية سردية نمطيةفى بنائها مدهشة وصادمة فى معناها وكأن البنية النمطية هى قناع ومحاولة للحد من جموح نص هادر وثائر 
(كان سامى يداوى حنينه للحياة بالبتر فى كل مرة يشتاق فيها ليعيش حياة كريمة يبتر جزءا  من ذاكرته)
منذ البداية يقع القارئ فى أزمة نفسية عاصفة،  فالحنين أحد  الأزمات البشرية الأكثر إيلاما يدعى البطل أنه وجد له حلا البناء النمطى يعطى إحساسا ببساطة  المشكلة وحلها
( كان سامى يداوى حنينه بالبتر ) هكذا الأمر بسيط إذا آلمك الحنين ابتر جزءا من ذاكرتك لنجد أننا أمام شكل أكثر إيلاما من أشكال القهر الإنسانى القائم على جبر الذات على النسيان نسيان الحياة الكريمة لتقبل واقع مترد
والقصة إن كانت اعتمدت فى بنائها اللغوى على البنية النمطية لكننا لا نجد بناء القصة نفسها بناء نمطياقائما على بداية وعقدة ثم الحل والنهاية وإنما تتعدد العقد وتتعدد اللاحلول التى هى فى ظاهرها حلول .
لم تتوقف الإشكالية عند الجملة الافتتاحية التى هى بؤرة من بؤر النص وإنما تطور الأمر فالأحجار والأشجار والقمر _وهى مفردات العالم الموازى الذى يهرب إليه الكاتب _  قاتلة بشكل أشد ضراوة من الواقع فالحجارة تنظر إليه بكره والأشجار تلاحقه بحنق والقمر يخنقه
هكذا تتعقد الأزمة وتصبح العودة إلى الواقع أحد أشكال الهروب من الذات ، هروب يوازى الهروب من الذاكرة
وواقع العامة قائم على أزمة الطعام والشراب هذا الكاتب الهارب من ذاكرته ومن ذاته المبدعة ما الذى سيأكله؟؟ ما الذى سيقتات عليه ؟؟
لنجد أنفسنا أمام بؤرة ثالثة وأزمة جديدة وساخرة من الواقع أزمة العبثية فى واقع  يأكل الأفكار نيئة بلا خبز وبلا ماء إنه التعبير الأكثر صدمة عن واقع يستهلك الأفكار دون أن يمنحها أطوارها فى الاكتمال والنضج فى ماء المعرفة أو خبز التعلم والتعليم  مجتمع يستهلك الجيد والردئ دون تفرقة   وهزيمة الكاتب فبعد صراعاته الفكريه حين يقدم لتلاميذه / أبنائه أفكاره يلتهمونها وينتهى النص طارحا الجدلية الأكثر تعقيد  فالقيمة تظل حبيسة الأفكار والإفكار حبيسة الواقع المتردى والأبناء الذين تعلموا أن من بلا كرامة لا يستحق الحياة يطرحون جدلية أن يطبق الكاتب نفسه أفكاره وهنا ترتد أزمة الواقع إلى الذات
الصيغة غير المبالية التى  تصنع توازيا ماديا بين الرفض ومحاولة التأقلم ، واللغة الخالية من أى وسائل بلاغية تسعى لتأكيد المعاناة عمقت  حالة المعاناة وأعمق من رسم المعاناة وضع القارئ فى عمقها ،  الجمل قصيرة كنوع من تجاهل الأزمة أو تبسيطهاوالتعبير بشكل غير مباشر عن فكرة الاستسلام ،إيقاع القصة هادئ ظاهريا يفور فيما وراء الكلمات وهى معادلة صعبة الضبط نجحت الكاتبة فى موازنة طرفيها بشكل يدعو للدهشة والإعجاب  .