براهين الإيمان بين العقل والتقليد

محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري

 

والتناول هنا ليس في (صحة الإيمان) للمقلد أو عدمه، إنما في وجوب معرفة الله تعالى بالنظر والاستدلال، لأن الأمة مجمعة على صحة إيمان المقلد دون حاجة إلى نظر واستدلال، واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل إيمان الأعراب الذي أتوا من البادية إسلامهم دون أن يسألهم عن شيء من معرفة الله، وقد سأل صلى الله عليه وسلم الجارية ــ كما في الصحيح ــ أين الله ؟ قالت: في السماء، فقال: من أنا؟ قالت : أنت رسول الله ، فقال لصاحبها: أعتقها فإنها مؤمنة.. ولم يسأل كيف عرفت ذلك، أو بم استدللت؟

كما قبل الصحابة رضوان الله عليهم ممن دخلوا في الإسلام في الفتوحات إسلامهم دون أن يتحروا منهم أو يسألوهم عن صحة ما اعتقدوه من شواهد الإيمان والمعرفة بالله وبأسمائه وصفاته، كما سار على ذلك النهج السلف من بعدهم، كما عرف الإمام ابن تيمية التقليد فقال:”التقليد هو قبول القول بغير دليل ، وأن من صار إلى الإجماع ــ كالإجماع السابق ــ ليس بمقلد لأن الإجماع دليل”، وقال الإمام أحمد: من قلد الخبر (أي عن النبي صلى الله عليه وسلم) رجوت له أن يسلم، وقال الإمام الغزالي: “والحق أن كل من اعتقد أن كل ما جاء به الرسول واسشتمل عليه القرآن حق اعتقادا جازما فهو مؤمن .. وإن لم يعرف أدلته”.

وهذا خلاصة ما جاء من عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وما فهمه السلف بعدهم عن إيمان (المقلدين) الذي لم يرزقوا إمكانية التوصل بالعقل والنظر إلى الدليل (الشرعي والكوني) على الإيمان..

 أما أهل العقل الذي خاطبهم القرآن في أكثر من موضع كما ذكرنا، فهم المنوط بهم هذا الخطاب الذي يقرع العقل والقلب، ويستثير النظر والسمع، ويدعو إلى التعرف على الله خالق الكون مستحق الإيمان من خلال آياته البينات الواضحات الجليات في الكتاب والكون”إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ[البقرة (164)].

وراجح الظن أن هذا التقويم الخلقي الذي جمل به الإنسان وكمل، الذي من الله عليه به وذكره بجميل نعمه المسبغة عليه (ظاهرا وباطنا)، وحثنه أن يقف وقفة اعتبار وتأمل ونظر وفكرة لدى هذا الجلال والكمال الأروع “وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)[الذاريات]. فهذه الآيات البينات في الكون والنفس ملهمة للعقل وموقظة للفكر أن يسمو بها ومعها إلى حيث إشراقات الملكوت، وفيوضات الأنوار الكونية والقلبية.. 

هل يحتاج هذا الإنسان بعد كل هذا الكون المبهر، والنفس المعجزة أن يكون له شاهد من غيره على إيمانه، أو يكون إيمانه على شفا حفرة، أو تقليدا لا يقف به على آية كونية أو نفسية؟!!

واستدل الشافعي رضي الله عنه على صدق الإيمان بورقة التوت ـــ وهو خبر متواتر لا يعلم مصدره ــ فقال: تأكلها النحلة فتخرج عسلا، ودودة القز فتنتج حريرا، والغزالة فتخرج مسكا، فقد توحد الأصل وتعددت المخارج!

وجاء في كتاب (براهين الإيمان ـ د. سامي عامري): [من كلام الفيزيائي (فريمان إديسون ) فقال: أنه كلما قمت بفحص الكون ودراسة تفاصيل بنيته، وجدت تفاصيل أعظم تدل على أن الكون كان ــ بمعنى ما ـــ على علم بأننا قادمون”.

ومن الذين زلزل النظم الدقيق للكون ولاءهم الشديد للإلحاد الذين نافحوا عنه بشدة عالم الفلك الكبير (فريد هويل) حتى قال:

 “يخبرنا التفسير البدهي للحقائق أن كائنا بالغ الذكاء تحكم في ضبط الفيزياء، وكذلك الكيمياء والبيولوجيا، وأنه لا توجد عمياء تستحق الذكر في الطبيعة”.]..

فياعجبا .. كيف يعصى الإله     أم كيف يجحده الجاحد؟!!

وفي كل شيء له آية  ..   تدل على أنه الواحد!

ويا عجبا.. كيف يعرض العقل البشري بعد ذلك منكرا نفسه، ومعرضا عن كل دليل في الكون من حوله ومن نفسه؟! فلاشك أن من وراء ذلك حكمة عليا لا تمنح هذا العطاء هباء، ولا تبذله إلا عن إرادة واصطفاء..وهي التي تبقى الإيمان في النهاية منة إلهية وحظوة ربانية لمن اختارته الإرادة واختصته المقادير فخلعت عليه ما لم يكن يحدث له لولا أن من الله عليه..

 وفيما ذكرنا من إقبال المقلدين، وإعراض ذوي الأفهام والمفكرين أكبر دليل على صحة ما نقول، وفي إيمان الضعفاء بادي الرأي وأجلاف الأعراب والشراذم ــ كما يصفوهم ـــ وإعراض الكبراء والسادة والقادة لأكبر دليل على أن الإرادة الإلهية تصطفي لذلك من تشاء حين ترى منهم هذي القلوب المنكسرة المخبتة والأرواح الطاهرة المقبلة، وتقلي كل جواظ جعظري مستكبر .. و”هذا فضل الله يؤتيه من يشاء”

يمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)” [الحجرات].  

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى