قراءة نفسية فى قصيدة (غولة الأرحام) للشاعر محمد الجهالين /ثناء حاج صالح

 

 
 
 

 الشاعرة والناقدة  ثناء حاج صالح/ سوريا

صَدَقوا: أَخوكَ لِزَنْدِكَ العَصَبُ

إلّا أَنا في إِخْوَتي كَذَبوا

لَمْ أَسْمَعِ الأَيّامَ ناصِحَةً

يُقْصيكَ مَنْ لِوُصولِهِ تَثِبُ

فَنَدَامَةً يا ظَهْرُ تَحْمِلُهُ

مَنْ يَشْتَكيكَ وَذَنْبُكَ التَّعَبُ

كَرْمي بِأَمْطاري يَفيضُ وَلا

وَرَقٌ لِدالِيَتي وَلا عِنَبُ

أَعَلى الصَّبيبِ تَعَيَّبَتْ سُحُبي

والعائِبونَ هُطولُهُمْ حَبَبُ

شُكْرًا لَأَرْحامٍ تُـبَشِّرُني

أَنّي لِنارِ جَهَنَّمٍ حَطَبُ

فَلْتَشْحَذِ اللَّعَناتُ شَفْرَتَها

لا ذَبْحَ بَعْدَ الذَّبْحِ يُجْتَنَبُ

وَيْلي قَطوعًا حينَ يَلْعَنُهُ

دَمْعُ الوِصالِ وَيَلْعَنُ الغَضَبُ

طَرَدَتْ غُصونُ اللَّوْمِ طائِرَها

وتَلـومُ أَيْنَكَ أَيُّها الطَّرِبُ

لِمَ في أَخيها الأُخْتُ ناخِرَةٌ

وَقِطافُها مِنْ نَخْلِهِ الرُّطَبُ

طَيْرانِ يَحْتَضِنانِ عَمَّهُما

لِمَ عَمَّةُ الطَّيْرَيْنِ تَرْتَعِبُ

تَتَوَعَّدُ الطَّيْرَيْنِ عَمُّكُما

غولٌ فلا حَلْوى ولا لُعَبُ

لا تَفْتَحا لحَنانِهِ فَعَلى

أَسْنانِهِ مِنْ ريشِكُمْ زَغَبُ

حَكٌّ وَكِبْريــــتٌ وَمُغْرَمةٌ

في النارِ عاذِلَةٌ لِمَ الْلَهَبُ

سِيّانَ في الآثامِ مُسْرِجَةٌ

أَضْغانَ أَحْصِنَةٍ وَمَنْ رَكِبوا

يا غولةَ الأرْحامِ أَيْنَ سِوى

فَكَّيْكِ مِنْ فَكَّيْكِ لي هَرَبُ

لِلْأُمِّ والأَبِ نَنْتَمي وَرَقًا

وَعِـداؤُنـا أُمٌّ لَنا وَأَبُ

أَنْجَبْتَـنا لُؤَمــاءَ يا أَبَتي

بَلْ لُؤْمُنا طَـرِفٌ وَمُكْتَسَبُ

سَأُزورُ قَبْرَكَ كَيْ تُعاتِبَني

وَيَشُدَّني مِنْ أُذْنِيَ العَتَبُ

غادَرْتُ أَحْداقَ الإخاءِ فَلا

أجفانُها أَسِفَتْ ولا الهُدُبُ

هِيَ بَطتَّي السَّوْداءُ دَيْدَنُها

في الأَبْيَضِ الأَخَوِيِّ تَغْتَرِبُ

لَوْ أَسْتَطيعُ وَصَلْتُ ذا رَحِمٍ

بالشُّؤْمِ حينَ يَمُرُّ أَخْتَضِبُ

كانَ اكْتِئابيَ أنْ أُفارِقَهُ

واليَوْمَ أنْ أَلْقاهُ أَكْتَئِبُ

إِنْ تُغْسَلِ الأَنْسابُ مِنْ دَمِنا

فَدَمي غَسيلُكَ أَيُّها النَسَبُ

القراءة النقدية

بأسلوبه الأدبي المتميِّز يطرق الشاعر محمد الجهالين موضوع (الأخوة الأعداء) وهو موضوع حساس جداً من الناحية الاجتماعية،عندما نأخذ بعين الاعتبار أن معظم الشعراء يحاولون تجنب التصريح والإفصاح عن تجاربهم الشخصية بمثل هذا المستوى من الشفافية والعمق اللذين قد يثيران الجدل. لذا، فمجرد الاستعداد النفسي لطرح مثل هذا الموضوع الحساس بهذا العمق العمق يعكس جرأة الشاعر وصدقه في آن معاً ، كما يعكس مدى تأثر شخصيته الأدبية بالظروف البيئية والمعطيات الاجتماعية التي يختبرها ويعايشها.

عنوان القصيدة ( غولة الأرحام )

كلمة غولة مخيفة . تختزن هذه الكلمة بدلالتها الاصطلاحية تاريخاً من قصص الرعب الشعبية الطفولية الذي رافق مراحل سوداء من تاريخ الإنسانية . إنها التهديد بعينه . والخيال الشعبي الذي ابتكر الشخصية الأسطورية للغول أو الغولة هو خيال إنساني عالمي وعلى مستوى البشرية جمعاء. وبإضافة هذه اللفظة إلى اللفظة الأكثر حنانا ودفئا وحميمية في اللغات كلها (الأرحام ) يبدو وقع لفظة الغولة أضخم هولا وأشد كارثية . فكيف إذا كانت (غولة الأرحام ) هي الأخت؟!

يجرحنا الوصف ، وتجرحنا الدلالة في صورة العنوان قبل أن نبدأ بالقراءة .

هل نقف مع الشاعر أم نقف ضده ؟ سؤال علينا أن نؤجل الإجابة عنه إلى حين الانتهاء من قراءة القصيدة .

صَدَقوا: أَخوكَ لِزَنْدِكَ العَصَبُ

صدر المطلع مع البدء بكلمة (صدقوا) يدل على علم الشاعر وتنبُّئه بردّ فعل القارئ الذي سيعترض عليه عما قليل حينما سيبدأ بالطعن في علاقة الإخاء بين الأخوة. لذلك بدأ الشاعر بموافقة المعترضين في الحكم العام الذي يتبنونه والذي يتبناه هو أيضا مثلهم ومعهم؛ فالأخ في الحكم العام هو العصب في زند أخيه . لذلك قال : ” صدقوا”.

ونلاحظ أهمية العصب في حركة اليد (الزند) . العصب هو الأساس في الحركة ومبعث الأمر فيها . وحينما يكون الأخ عصب الزند فالاعتماد عليه يكون كبيرا بحجم اعتماد اليد على العصب كي تتحرك وتحرِّك.

إلّا أَنا في إِخْوَتي كَذَبوا

لكن الاستثناء من القاعدة هي العلاقة الواهية الهشة جدا بين الشاعر وأخوته. ومع الفعل “كذبوا” يثير الشاعر فضول القارئ ويهيِّئه لتلقي المفارقات التي ستبرهن على كذبهم.

صَدَقوا: أَخوكَ لِزَنْدِكَ العَصَبُ

إلّا أَنا في إِخْوَتي كَذَبوا

قال تعالى :[قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا ۚ…الآية 35/ القصص ]من الطبيعي أن نتصور الحالة النفسية المؤلمة التي ترافق قول الشاعر “إلّا أَنا في إِخْوَتي كَذَبوا “. فمع إدراكه منذ البدء أنه محروم مما يتمتع به جميع الناس في العموم، وخاسر لتلك القوة التي يمنحها الأخ لأخيه سيقع الشاعر في براثن الحسرة الخفية التي ستخيم على كلماته وتمنح تعابيره الشعرية ظلالا شاحبة صفراء من الألم المكبوت.

ومن الطبيعي أن يجاهد الشاعر بعد ذلك للتغلب على تلك الحسرة بشيء من المكابرة أو إعلان الاستغناء الكامل عن الأخوة. وهذا نوع من الدفاع النفسي اللاواعي الذي يهدف إلى تعطيل تلك الحسرة عن فعلها التدميري في النفس، بسبب ما تسببه من الحزن وألم الحرمان من تلك الألفة الطبيعية والعفوية بين الأخوة والتي يحتاجها الإنسان بفطرته الطبيعية.

لكن قرار مواجهة الحسرة والتغلب عليها بالمكابرة والاستغناء لم يأتِ مباشراً ودفعةً واحدةً منذ البدء ـ فالتجارب التي سبقته هي التي أدت إليه. ومن خلال هذه التجارب تتكون فكرة أخرى عن طبيعة الحياة وسنَّة الأيام التي تأتينا بأحداثها وأخبارها لنقرأها ونحكم على مدى نصحها وصدقها في الإتيان بالعواقب .

لَمْ أَسْمَعِ الأَيّامَ ناصِحَةً

يُقْصيكَ مَنْ لِوُصولِهِ تَثِبُ

نصح الأيام صدقها ومصداقيتها في ما تنبئك به من ترتيب النتائج على المقدمات، وإن لم تكن الأيام ناصحة فهي تغش وتنافق . والشاعر الذي استمع إليها قال ” لم أسمع” والذي كان يستنطقها النصح حكم أنها غير ناصحة.فهذه أول حكمة توصَّل إليها الشاعر من تجربته الذاتية مع أخوته. وذلك لأن ما جاءته به الأيام في الواقع كان مناقضاً ومخالفاً لآماله وتوقعاته. والبرهان على عدم نصحها هو هذه الصورة الشعرية التي تصوِّر الخيبة التي يشعر بها في المفارقة بين شعوره تجاه أخوته وشعورهم تجاهه؛ حينما يفرح هو لوصولهم “فيثب” وثباً للقائهم ،والاحتفاء والترحيب بهم ، بينما يلقونه هم ببرود ويجزونه على شعوره بمحاولة إبعاده وتجنبه.

موقف مؤلم وعجيب يحتاج إلى تفسير، فلماذا يفعلون ذلك وما الذي يشتكون منه ؟والبيت التالي يوضح السبب:

فَنَدَامَةً يا ظَهْرُ تَحْمِلُه

مَنْ يَشْتَكيكَ وَذَنْبُكَ التَّعَبُ

إنهم يشتكون من أخيهم كونه يشعر بالتعب من استمرار حمله لهم على ظهره. فهذا هو ذنبه الذي يستحق التشكي كما يستحق به هو العقاب بإقصائه عنهم وفقاً للبيت السابق. فهم لا يشعرون بتعبه ولا يقدِّرون تحمُّله لثقلهم. بل يجحدون ذلك ويطلبون منه عدم التوقف للاستراحة حتى ولو كان متعباً.أما هو فلا يرى سوى الندامة في استمرار حمله لهم على ظهره.

تبرير هذا الموقف العجيب من الأخوة القساة ممكن في حالة واحدة فقط ، وهي أنهم على قناعة بأنهم إنما يأخذون حقَّهم الطبيعي حينما يحملهم أخوهم على ظهره. أي أنه مجبَرٌ على حملهم ، ولا حقَّ له بالتوقف لأي سبب أو عذر.

كثيرا ما يكون العطاء غير المشروط من قبل المعطي هو نفسه سبب التمادي في المطالبة بالأخذ غير المشروط من قبل الآخذين . ومثل هذه الحالة النفسية معروفة ولكنها تتولد عادةً عند الأبناء في مشاعرهم تجاه آبائهم وليس تجاه أخوانهم .لأن الأبناء بحكم ما ينالونه من الرعاية غير المشروطة من قبل الوالدين منذ ولادتهم يعتادون على الأخذ غير المشروط من الآباء باعتبار هذا الأخذ حقاً طبيعياً. ويشعرون بأن الآباء مجبرون على العطاء، وقد يكبر معهم هذا الشعور ويستمر حتى بعد نضجهم. فهم لا يقبلون أي تقصير من الآباء لأي عذر كان،وأي تقصير من الآباء يعدونه ذنباً وخطأ بحقهم فعلا .

لذا فإننا نستنتج أن أخوة الشاعر قد اعتادوا فعلا على الأخذ غير المشروط منه ، ومنذ طفولتهم، وكأنه أبٌ لهم ومسؤول عنهم ومجبَر على إعطائهم دون مقابل ودون حاجة لشكره، لذا فهم لن يقبلوا عذره إذا أعلن عن التوقف عن حملهم على ظهره لشعوره بالتعب.

كَرْمي بِأَمْطاري يَفيضُ وَلا

وَرَقٌ لِدالِيَتي وَلا عِنَبُ

حالة من النكران والجحود وعدم مقابلة العطاء بالشكر والامتنان .لأن المطر يغمر الكرم الذي يحتاج إليه كي يستقي فيخصب . ومع ذلك فإن نتائج المطر لا تظهر على الدوالي التي لاتورق ولا تثمر ولا تعيد بعضا مما أخذته ولو ظاهرا . عقم الجحود والنكران والبخل بالشكر يصيب الكرم ويعطِّله عن دورة الخصب ويجعل الأمطار الفائضة عديمة الفائدة.

أَعَلى الصَّبيبِ تَعَيَّبَتْ سُحُبي

والعائِبونَ هُطولُهُمْ حَبَبُ

كل ذلك المطر “الصبيب” يُعاب على سحب الشاعر، للتقليل من شأنه والاستخفاف به. والمفارقة أن عطاء العائبين هو الأقل ، وأن هطولهم ليس هطولا حقيقيا، فالحبب: هو تلك الطبقة الرقيقة من الرطوبة أو الندى الذي يغطي النبات في الصباح الباكر فقط، ثم يتبخر مع طلوع الشمس، ولا يبقى له أثر، لقلته ووجوده العَرَضي. فليس الحبب بالهطول الذي يشبع الأرض أو يسقي الزرع. فكيف يُعاب على سُحب الشاعر صبيبها، ولا يرى العائبون قلة هطولهم أو عدمه ؟ العتاب مع الاستنكار ممزوجان في صيغة السؤال.والشاعر لا ينتظر جواباً.

شُكْرًا لَأَرْحامٍ تُـبَشِّرُني

أَنّي لِنارِ جَهَنَّمٍ حَطَبُ

كثير من الخيبة والمرارة كثفتهما كلمة “شكرا ” التي يوجهها الشاعر إلى”الأرحام ” التي تتهمه بارتكاب المعصية التي تودي بصاحبها إلى النار. واختيار لفظة “الأرحام” هنا ومرة أخرى، يراد به الإشارة إلى ضخامة الإحساس بالمرارة؛ لأنه من المفروض أن يكون ذوو الأرحام هم الأكثر خوفا وحرصاً على مشاعر بعضهم بعضاً، وليس من السهل عليهم النطق بمثل ذلك الكلام ، وحتى لو كان الأخ مخطئاً بحقهم وقاطعاً لهم فعلا ، فالأولى مصالحته والدعاء له بالهداية، وليس تبشيره بالنار. وقد صدرت الكلمتان “شكراً وتبشرني” وفي كل منهما سخرية لاذعة خفية تختبئ في طيات المعنى . لأن الشكر لا يكون إلا على المعروف. والبشرى لا تتضمن إلا ما هو خير، فكيف تكون بشرى وهي تنذر الأخ بأنه سيكون حطباً لنار جهنم ؟ وإن هذا القول ثقيل حتى على أعدى الأعداء.

فَلْتَشْحَذِ اللَّعَناتُ شَفْرَتَها

لا ذَبْحَ بَعْدَ الذَّبْحِ يُجْتَنَبُ

أما اللعنات فهي ما ينهال على الأخ من قِبَل أخوته بعد تبشيرهم له بأن سيكون حطباً في نار جهنم. وهو لم يعد يأبه بتلك اللعنات ، بعد أن تجمدت مشاعره نتيجة الصدمة بقولهم .وأصبح عديم التأثر بما يأتي بعدها ، لأن ما بُشِّر به آنفا، قد ذبحه ذبحاً، وليس بعد ألم الذبح من ألم يخشاه الشاعر. لذا فليشحذوا ألسنتهم باللعنات عليه ،كما تُشحَذ الشفرات، لممارسة المزيد من الذبح لمن تم ذبحه من قبل..

وَيْلي قَطوعًا حينَ يَلْعَنُهُ

دَمْعُ الوِصالِ وَيَلْعَنُ الغَضَبُ

مع كلمة الندبة ” ويلي” يدخل الأخ المتهم بقطع الرحم في حالة من العذاب النفسي الموعود الذي ستجلبه إليه اللعنات من قِبَل دمع الوصال، ومن قِبَل الغضب في آن واحد. (قطوعاً) وجاءت اللفظة بصيغة المبالغة (فعول) لتدل على تكرار واستمرار فعل قطع الرحم وفقا لما يصف به اللاعنون هذا القطوع .

أما لعنة دمع الوصال فهي غير مفهومة تماماً، لأن السياق قد يقدمها على أنها تهكم من الشاعر على أخوته الذين يلعنونه وفي الوقت نفسه يذرفون الدمع تباكياً على الوصال الذي يقطعه هو . فتباكيهم هو مصدر دمع الوصال وفقاً لهذه القراءة. أو يمكن أن يكون بكاء الشاعر حقيقية هو مصدر دمع الوصال، وفقاً لقراءة ثانية مختلفة ، فهو يذرف الدمع على الوصال، بعد أن أصبح لا يستطيعه بسبب لعناتهم.

أما جملة ” ويلعن الغضب ” فكونها معطوفة على سابقتها فمعناها يتوقف على مصدر دمع الوصال . فإن كان دمع الوصال من الأخوة المتباكين، فهم الغاضبون وغضبهم يلعن القطوع. وإن كان دمع الوصال منه فهو الغاضب الذي يلعن نفسه. وفي كلتي الحالتين يعبِر البيت عن ذلك الصراع والتمزق النفسي العميق الذي يعانيه الأخ الملعون من أخوته.

طَرَدَتْ غُصونُ اللَّوْمِ طائِرَها

وتَلـومُ أَيْنَكَ أَيُّها الطَّرِبُ

الطائر يفر من الأغصان التي إذا وقف عليها تعرَّض للوم ، وذلك هو الأمر البديهي والمتوقع، فحينما لا يعود المكان مريحاً للإقامة ، فلا عجب من مغادرته. وتكون الغصون كأنما طردت الطائر، عندما عرَّضته للوم. وتَلـومُ أَيْنَكَ أَيُّها الطَّرِبُ ؟

استخدم الشاعر لفظة (الأَيْن) مفعولاً به ليقع عليه اللوم. بعد أن أضافها إلى ضمير المخاطب (أينك ). والسؤال التوبيخي أو الإنكاري موجَّه للطائر الطرب نفسه ، ذاك الذي تطرده غصون اللوم في العادة ، فما باله الآن لا يغادر مكانه؟ وبدلا من المغادرة يلوم هو المكان ؟

وأصبح اللوم متبادلا بين الطائر والمكان. وفي هذا التبادل يعترف الشاعر بأنه هو الآخر أصبح يكيل لأخوته اللوم بالمثل . وذلك بغض النظر عمن هو على حق ومن هو على باطل.ومن ذلك اللوم الذي يمارسه الشاعر عتابه لأخته :

لِمَ في أَخيها الأُخْتُ ناخِرَةٌ

وَقِطافُها مِنْ نَخْلِهِ الرُّطَبُ

علاقة غير منصفة على الإطلاق ، أن تنخر الأخت في نفس أخيها فتضعفه من الداخل وتجعله هشاً قابلاً للكسر ،في حين أنها تقطف وتجني التمر الذي يغذيها من نخيله .فهل يكون النخر منها جزاء الإحسان منه؟

طَيْرانِ يَحْتَضِنانِ عَمَّهُما

لِمَ عَمَّةُ الطَّيْرَيْنِ تَرْتَعِبُ

َتَوَعَّدُ الطَّيْرَيْنِ عَمُّكُما

غولٌ فلا حَلْوى ولا لُعَبُ

لا تَفْتَحا لحَنانِهِ فَعَلى

أَسْنانِهِ مِنْ ريشِكُمْ زَغَبُ

يصوّر الشاعر موقفاً ترك أثراً سيئاً في نفسه وفيه مثال أو بيان لطبيعة النخر الذي تمارسه الأخت، وهي ها هنا عمّة تراقب وَلدَي أخيها الآخر وهما يحتضان عمَّهما الشاعر، الذي يسميهما طَيْريْن.ويستعير الشاعر من صورة الطيرين “زغب ريشهما” الذي يعلق على أسنانه ،كما جاء على لسان العمَّة التي أرعبها وأقلقها ما شاهدته من ملاطفته لذينك الطيرين .فأخذت تخيفهما من عمَّهما (الغول ) الذي يأكل الأطفال بدل أن يهبهم الحلوى واللعب .

بدا لي أنه يمكننا كقرَّاء أن نفهم هذا المشهد بطريقة اخرى .وأن نحمل كلام العمَّة على محمل آخر معاكس لما هو في ظاهر اللفظ والقول. فبعض المزاح يكون ثقيلاً ويأخذ في لهجته طابع الجد والصرامة في الوقت نفسه .ولعل العمَّة ببساطة كانت تمزح . أو لعلها على تقدير آخر ،كانت مستاءة من ضجيج الطفلين وصخبهما مثلاً، فأرادت أن تقلل من صخبهما، فقالت ما قالت ممازحة، وما أكثر ما يُخَوَّف الأطفال بالغول والغولة في البيئات الشعبية البسيطة التقليدية ، ويفعل ذلك أحنُّ الآباء والأمهات والجدات والعمات والخالات. ويلتقط الأطفال الطرفة من التهديد بالغول ويفهمونها بفطرتهم على أنها مجرد مداعبة ، فلا يستجيبون لها ولا يهدؤون عند سماعها.

وثمة تأويلات أخرى أيضا لكلام العمَّة إذا اعتبرنا أنها أرادت استفزاز أخيها لغرضٍ في نفسها، فتحرَّشت به لجرِّه إلى حوار أو جدل ما،مثلاً ، أو لعلها شعرت بالغيرة حتى من الطفلين، فتذكرت طفولتها وحرمانها من الملاطفة واللعب فتصرفت وفقاً لمشاعرها المكبوتة والمضغوطة .

والسؤال الآن : ماذا لو كان إحد تلك الاحتمالات المتعددة لتأويل وتبرير كلام الأخت العمَّة حقيقياَ وصحيحاً؟ هل كان الأخ الشاعر الغاضب سيقبل به ؟ وهل كان سيتيح لنفسه فرصة التفكير به ، لالتماس العذر لأخته؟ أليس من المحتمل أنه أساء قراءة كلامها لسوء ظنٍ بها دفعته هي إليه عبر مواقف أخرى ؟

غالبا ما يتسبب الجَوُّ الأسري المكهرَب والجافُّ بإحداث عقدٍ نفسيةٍ في نفوس جميع الأبناء وليس بعضهم دون بعضهم الآخر . فالجوُّ الصحي نفسياً يترك آثاره في صحة الجميع غالباً، و الجوُّ المكهرب المتوتر يترك آثاره في صحة الجميع أيضاً، وغالباً .

حَكٌّ وَكِبْريــــتٌ وَمُغْرَمةٌ

في النارِ عاذِلَةٌ لِمَ الْلَهَبُ

هذه التي تَحكُّ الكبريت وتؤجج النار لأنها مغرمة بالنار، هي نفسها التي تلوم وتعذل النار على اللهب الذي يصعد ويعلو منها، سائلة النار عن سبب وجود اللهب :”لم اللهب؟” وهي سبب وجوده.

وصف الشاعر لأخته يشير إلى حلقة مفقودة في فهم شخصية الأخت ورؤية ملامحها النفسية رؤية صحيحة وواضحة . لأنه على الرغم من اتهامه لها بأنها مغرمة بالنار، وهي التي تحك الكبريت لإشعالها فإن سؤالها ” لم اللهب؟ ” يحمل دلالة نفسية تشير إلى عدم تقبُّلها لهذا اللهب واستغرابها له . فإن كانت الأخت عاذلة فعذلها -على الأقل- قد يدلُّ على أنها لا ترى نفسها سبباُ لإشعال النار كما يراها أخوها . فهي غير مدركة لأبعاد تصرفاتها وغير واعية لنتائجها. وهذا يعني أن تصوُّرها لنفسها يختلف عن تصوُّر أخيها لها. وإنه من المحتمل أنها نفسها تشعر بالظلم واقعاً عليها. إلاَّ أن الشاعر الذي يعي معنى تصرفاتها حسب وجهة نظره هو يجعلها هي سبب الفتنة بين الأخوة. كما يوضح لنا في البيت التالي.

سِيّانَ في الآثامِ مُسْرِجَةٌ

أَضْغانَ أَحْصِنَةٍ وَمَنْ رَكِبوا

والمعنى: أنها مادامت هي التي تسرج أحصنة الأضغان في النفوس وتجهزها للانطلاق فهي مشاركة في صنع الأضغان ،وهي ومن يركب هذه الأحصنة ويقودها سواء .

فاللوم إذن يقع عليها حتى وإن ظلَّت متخفية ولم تشارك في ركوب الأحصنة في الظاهر.

يا غولةَ الأرْحامِ أَيْنَ سِوى

فَكَّيْكِ مِنْ فَكَّيْكِ لي هَرَبُ

ويأتي الآن الرد بالمثل على هذه الأخت التي وصفت أخاها قبل قليل بأنه (غول يأكل الأطفال) ، فيكون الرد من الأخ أنها هي الغولة، ( غولة الأرحام ) التي لا يجد الأخ لنفسه مهرباً من فكَّيها الذين سينتهشان لحمه؛ فهي تتربص به وكأنها تطارده وتتقصى أثره كيفما اتجه وكيفما تحرك لتنقضَّ عليه بفكيها تقطع لحمه . فلا مهرب له منها مهما حاول الهروب.

من المؤسف جداً أن تكون الأخت كذلك. ومن المؤسف جداً أن يكون هذا تصوُّر أخ لأخته وتصويره لها .

إن المعاملة بالمثل لا تنهي خلافاً بين الأخوة ولا بين الأصدقاء أو الغرباء.بل العنف اللفظي يولد العنف ويزيده. وصحيح أن الكلام الجارح يستفز المرء ويدفعه للدفاع عن نفسه أمام من يسيء إليه ، إلا أن حقَّ الأخوة أن يتجاوز الأخ عن خطأ أخته وتتجاوز الأخت عن خطأ أخيها ولو تكررت الأخطاء . والتماس العُذر يفلح دائماً في تهدئة النفوس الثائرة. والتماس الأجر عند الله يزيد المرء سَعة في حِلمه ، فكيف إذا كان الأعقل والأحكم والأكبر مطالباً بتحمُّل الأكثر طيشاً والأقل خبرة في التعامل ؟

لِلْأُمِّ والأَبِ نَنْتَمي وَرَقًا

وَعِـداؤُنـا أُمٌّ لَنا وَأَبُ

تحوَّلت علاقة الدم وصلة القربى الأقوى إلى علاقة واهية بين الأخوة . فلا شيء يثبت حقيقة انتمائهم إلى الأب والأم سوى تسجيل ذلك على الورق.وأما حقيقة العلاقة فتؤكد أن العِداء هو أبوهم وهو أمهم لطاعتهم له وعدم مخالفة أمره.

أن يقول الشاعر هذا وهو غير راض وغير قادر على تغييره يدفعنا لتأمل المستوى العميق من العجز الذي يسيطر على النفوس بين الأخوة الـأعداء ، فقد انمحى أي حافز للمبادرة بتقوية صلة الرحم وما من بصيص أمل يقود إلى الرغبة بالمحاولة . وتعود شدة الإحساس بهذا العجز النفسي والاقتناع بأنه غير قابل للإزالة إلى قناعة عقلية أخرى تزيده رسوخاً عندما يعتبر الشاعر أن اللؤم فيهم إنما هو مولود معهم بالفطرة .

أَنْجَبْتَـنا لُؤَمــاءَ يا أَبَتي

بَلْ لُؤْمُنا طَـرِفٌ وَمُكْتَسَبُ

صياغة هذا البيت لغويا تقدِّم الفكرة بإطارٍ قلق ربما كان مقصودا ومتعمدا من قبل الشاعر ، وذلك لأنه ينبغي لحرف الإضراب الإبطالي (بل) أن يُبطل المعنى السابق له وهو ( أن الأب أنجب الأبناء لؤماء ) وأن يأتي بمعنى جديد مخالف، وهو أن اللؤم ليس مولوداً معهم، إنما هو جديد ومكتسب.

فهذا السياق يصلح لفهم البيت ،كما يصلح له السياق الآخر باعتبار (بل) حرف انتقالي ينتقل من معنى لآخر مع إثبات المعنى الأول؛ وبهذا يكون المعنى: أنه صحيح أنك أنجبتنا لؤماء يا أبي ولكن لؤمنا أيضا يتجدد ونحن نكتسبه أو نكتسب المزيد منه مع مواقف الحياة.

استخدم الشاعر ضمير الجمع (نا) بوصله بالفعل ” أنجبتنا” والاسم “لؤمنا” وهذا يعني أنه يشرك نفسه في الاتصاف باللؤم . فهو يقرُّ بالاتصاف باللؤم ويتحمل تبعات الصفة، ولا يحاول التنصل منها أو إثبات براءته منها. ولا يكفي أن نفهم هذه المسألة على أنها مجرد شجاعة أدبية من الشاعر تمثلت بعدم إنكاره ما قد يُوجَّه له من اتهامات، بل ثمة احتمالان قد يقود إليهما التحليل النفسي:

الأول : أن تلبُّس التهمة يمثل نوعاً من الجلد الذاتي أو العقوبة الذاتية؛ كون الشاعر يختار بنفسه أن يجعل نفسه موضع الاتصاف بتلك التهمة مع أخوته سواء بسواء.فهو يشعر بأنه يستحق ذلك اللوم الذي سيناله من القارئ.

الثاني : أن تلبُّس التهمة ما هو إلا شكل من أشكال انتقام الابن من الأبوين ليريهم سوء ما حل بأبنائهم جميعاودونما استثناء، نتيجة أخطاء التربية التي ارتكبوها في حق أبنائهم مثلا. فلو نزّه الشاعر نفسه عن الاتصاف باللؤم لخفف ذلك من سوء الأمر عن الأب ، ولكنه يشرك نفسه ليزيد عدد الأبناء اللؤماء فيؤلم الأب، ولو بعد وفاته.

وسيقوي هذا الاحتمال في البيت التالي كما سنرى.

سَأُزورُ قَبْرَكَ كَيْ تُعاتِبَني

وَيَشُدَّني مِنْ أُذْنِيَ العَتَبُ

أجمل بيت في القصيدة من حيث المعنى والصورة الشعرية والصياغة اللغوية في رأيي هذا البيت . وفيه مؤشر مرتفع على المستوى الإبداعي الرفيع للشاعر .

نفسياً : يكمل الشاعر في هذا البيت رغبته بمعاقبة نفسه ومعاقبة والده المتوفى في الوقت نفسه؛ وذلك لأنه من جهة أولى سيزور قبر والده كي يتيح له أن يعاتب ابنه ويؤدبه بشد أذنه، كما كانت عادته أيام الطفولة .ويمزج الابن هنا قوة المجابهة والتحدي من خلال الاستعداد لتقبل شد الأذن عقابا ، مع الضعف والهشاشة النفسية اللذين أورثتهما إياه الحسرة من الحرمان من الحنان والألفة، وعدم تعويضهما.ويكون ثمة مجال للشكوى والفضفضة والتنفيس عن المعاناة الوجدانية للأب المتوفى، رحمه الله.

كما أنه من جهة ثانية سيزور قبر والده ليعلن عن غضبه عما يحدث من لؤم هو فيه شريك، وليكشف للأب ما حدث بعده وفاته. وكأنه يحمِّل الأب مسؤولية هذا الذي يحدث بطريقة ما، فيصرُّ على إعلامه بما لا يسرُّه ولا يرضيه، مما حدث من عواقب الأمور التي لم يضع لها حداً في حياته ولم يحسب حساب استفحالها.

غادَرْتُ أَحْداقَ الإخاءِ فَلا

أجفانُها أَسِفَتْ ولا الهُدُبُ

وكأنه اختبار يريد الشاعر أن يجريه ليعلم مكانته في عيون أخوته ، فيقوم بمغادرة أحداقهم ، أي يبتعد عنهم وعن مجال نظرهم ، وتأتي نتيجة الاختبار مخيبة للآمال، عندما يكتشف أنهم لم يتأثروا على الإطلاق. فلا أجفانهم أسفت على مغادرته ولا أهدابهم ابتلت من دمع البكاء على فراقه.

أنه الدليل الواقعي الذي يسعى الشاعر لتأكيده لنفسه قبل تأكيده للقارئ، ليعلم أنه محقٌّ في موقفه من أخوته.

لا شك أن النفس القلقة التي لم ترتوِ من معين الحنان والأمان تبقى في حالة معاناة دائمة، في بحثها عن مصادر الإشباع العاطفي لتحقيق التوازن النفسي الذي يحتاج إليه الإنسان بغريزته وفطرته ولا يستطيع الاستغناء عنه مهما حاول.فهذه النفس القلقة تستمر في البحث عن تفسيرات مقنعة لفهم أسباب الحرمان وأسباب القلق النفسي الذي لا يزول. وأحد هذه التفسيرات وأقساها هو تقصير الأم في معاملتها الأولاد جميعاً بالعدل المطلوب والمساواة الممكنة في منحهم الحنان والرعاية، لإراحة نفوسهم.

هِيَ بَطتَّي السَّوْداءُ دَيْدَنُها

في الأَبْيَضِ الأَخَوِيِّ تَغْتَرِبُ

“أنا ابن البطة السوداء” تمثل هذه العبارة أحد المصطلحات الكلامية أو الأمثال الشعبية، ويقولها عموماً من يتعرض لسوء المعاملة من أقاربه، سواء بتعرضه للتجاهل أو الإهمال أو الظلم بأنواعه؛ لأن البطة البيضاء تحوز على الدلال هي وأولادها. أما البطة السوداء فتعاني هي وأولادها من التمييز وسوء المعاملة. وربما يكثر استعمال هذا المصطلح الكلامي في حالة تعدد الزوجات وحدوث تمييز في المعاملة بين أبنائهن.

وعندما يقول الشاعر (هي بطتي السوداء ) فإنه يقصد أمه. غير أن الاتهام هنا موجَّه إليها مباشرة ، وليس للآخرين ؛كونها هي التي تغترب في الأبيض الأخوي . وما الأبيض الأخوي إلا المساواة والعدالة في معاملة الأخوة ( الأبناء)، فهذه الأم لا تجد نفسها في تلك المساواة، وهذا هو معنى اغترابها فيها “تغترب ” أي هي غريبة عن المساواة وغير منسجمة معها. ولقد شكلت هذه المعاناة النفسية وعلى مدى سنوات طويلة ابتدأت بالطفولة ولم تنته بعد ، حالة من القلق والعجز عن المبادرة باتجاه صلة الرحم عند الشاعر الذي عانى في طفولته ودون سواه من سوء المعاملة .

لَوْ أَسْتَطيعُ وَصَلْتُ ذا رَحِمٍ

بالشُّؤْمِ حينَ يَمُرُّ أَخْتَضِبُ

هو يتمنى لو أنه يستطيع وصل أرحامه، فعقله يأمره بهذا الوصل طاعة لله، ولأنه هو الوضع الطبيعي، غيرأن العجز النفسي ( عدم الاستطاعة ) يقف حائلا بينه وبين التنفيذ. وعدم الاستطاعة يرجع إلى رد فعل نفسي لا شعوري لا يمكن التحكم به أو منعه أو تجنبه؛ فحينما يمرُّ ذو الرحم به ،فإنه لا شعورياً يصطبغ بصبغة التشاؤم والأفكار السوداء التي لا يملك إلغاءها. وهذه الحالة النفسية القلقة تطورت إلى شعور بالاكتئاب كرد فعل انعكاسي لا إرادي عند كل لقاء للشاعر مع ذوي الأرحام.

كانَ اكْتِئابيَ أنْ أُفارِقَهُ

واليَوْمَ أنْ أَلْقاهُ أَكْتَئِبُ

على أن الأمر لم يكن سابقا هكذا وبهذا السوء، بل كان الشاعر فعلاً يتمسك بصلة رحمه، ويحزن لفراق أخوته. ولكن ما جاءت به الأيام بعد ذلك قلب موازين الأمور وعكس طبيعة المشاعر. فأية أحداث وتجارب سيئة حصلت، حتى وصل الأمر بالأخ أن يتمنى التبرؤ من أخوته؟

إِنْ تُغْسَلِ الأَنْسابُ مِنْ دَمِنا

فَدَمي غَسيلُكَ أَيُّها النَسَبُ

غسل الأنساب من الدم يعني التبرؤ من الانتماء إلى صلة قربى الدم. والشاعر مستعدٌّ لأن يكون هو أول من يقدم دمه لغسله من النسب، إذا ما كان ذلك متاحاً وممكناً.

موقف نفسي صارم حاسم في قفلة القصيدة يختم به الشاعر ما جاء فيها من تفاصيل القسوة والجفاء والضغينة .

وبعد!

فإنني لم أقرأ في شعر العصر الحديث تجربة نفسية واجتماعية عميقة تضرب جذورها في النفس كهذه التي يعرضها علينا الشاعر المبدع محمد الجهالين في علاقته مع أخوته ووالديه . والمرء لا يستطيع أن يحكم على المسألة وهو خارج إطار تلك العلاقة وتفاصيلها الواقعية؛ لأن الاحتمالات كلها واردة وكلها قابلة للتفسير وفق سياقات متعددة ومختلفة في واقع الأمر. بَيْد أن ما نقله لنا الشاعر عبر صور شعرية مرهفة جدًا وحادة جداً في قسوتها، يعكس مدى تأثُّره العميق بهذه التجربة الإنسانية المؤلمة والمؤسفة التي فاضت بها مشاعره إلى درجة أنها أصبحت موضوعا لشعره . ومن الجميل أن يكون معادل التوازن النفسي عنده هو الإبداع شعرا. لأن هذه التجربة النفسية الاجتماعية الإنسانية العميقة تصلح لأن تكون خالدة في الشعر ، ولأن الشيء بالشيء يُذكر فقد ذكّرتنا هذه القصيدة الممتلئة بالمعاناة بتجربة الشاعر الجاهلي طَرَفة بن العبد المماثلة من حيث ظلم الأقرباء، وأراها هذه القصيدة تتفوق على ما كتبه طَرَفة من حيث عمق المعالجة، ومستوى الغوص في أعماق النفس القلقة.

ودعونا ولو على سبيل المقارنة العابرة ولملاحظة الفارق في مستوى عمق المعالجة للموضوع ،نختم هذه القراءة ببعض أبيات طَرَفة التي تطرق فيها في معلقته إلى ظلم الأقرباء :

إلى أنّ تحامَتْني العشيرة كُلّها =وَأُفْرِدْتُ إِفْرادَ البَعيرِ الْمُعَبَّدِ

رَأَيْتُ بَني غَبَراءَ لا يُنْكِرُونَني = وَلا أهْلُ هذاكَ الطِّرَافِ الْمُمَدَّد

فَما لي أرَاني وابنَ عمي مالِكًا = مَتى أدْنُ مِنْهُ يَنأَ عني ويَبْعُدِ

بِلا حَدَثٍ أَحْدَثْتُهُ وَكَمُحدَثٍ =هجائي وقَذفي بالشّكاةِ ومُطْرَدي

وَظُلمُ ذَوِي القُرْبَى أَشَدّ مَضَاضَةً =على الْمَرْءِ مِنْ وَقعِ الْحُسامِ المهنّدِ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى