الخليج بين ” التطبيع ” و” التتبيع ” وما هي خيارات الفلسطينيين؟
عصام مخول | فلسطين
كانت بلدان الخليج تسمى حتى سبعينيات القرن الماضي المحميات البريطانية في الخليج، وكلما ازدادت بريطانيا هرماً، تحولت إلى محميات أمريكية تدفع “الجزية” من خزائنها النفطية لراعي نعمتها كما أعلن الرئيس ترامب بفظاظته غير الديبلوماسية في مؤتمر القمة العربية والإسلامية في الرياض في أيار 2017، وها هي تعلن نفسها على رؤوس الأشهاد لتتحول إلى صفتها الجديدة: المحميات الإسرائيلية في الخليج، وإن شئتم محميات المحمية المارقة التي تشكل الذراع العدوانية الإقليمية للإمبريالية الأمريكية .
إن انفلات مسبحة “التطبيع” ومراسيم “التتبيع” الخليجي لإسرائيل وهَرَج “المصالحة” معها وقيام دولة الإمارات العربية ومملكة البحرين بتقمص خطاب حكومة الرفض الاستيطاني في إسرائيل، مهرا لانتقالهما من التعاون السياسي والاستخباراتي في الخفاء إلى العلن، لا يمكن قراءتها خارج سياق مشروع التفكيك والهيمنة الإمبريالية الذي صبغ المنطقة وطغى عليها في العقدين الماضيين، بدءا بتدمير دولة عربية مركزية مثل العراق واحتلاله وتفكيكه من قبل الولايات المتحدة وحلفائها، وصولا إلى تدمير اليمن الممنهج، وتفكيكه وتشتيت شعبه أيدي سبأ وأيدي تعز وأيدي القواعد العسكرية الإسرائيلية العتيدة في جزيرة سوقطرة، في خدمة مشاريع التجريف الأمريكية والصهيونية في المنطقة العربية، والتأسيس لمرحلة جديدة من الإخضاع في الجانب الواحد من الخليج، والعدوان والسير على حافة الحرب والاستفزاز والحصار على الجانب الآخر من الخليج بحجة الخطر الإيراني.
إن الحرب الإرهابية على اليمن لإخضاع شعبه وتفكيكه وتفتيته من جهة، وقمع الهبة الشعبية التحررية المجيدة لشعب البحرين وثورته الديمقراطية، بجيوش التحالف العربي الجرارة والتي دخلت البحرين من جهة أخرى شكلت المقدمة الضرورية لهذا الانهيار الأخلاقي الذي تمثله “مدن الملح” وقادة المحميات الإسرائيلية في الخليج “العربي”، في خدمة المشروع الإمبريالي الصهيوني في المنطقة وفي تهريب القضية الفلسطينية خارج جدول الاعمال الإقليمي والعالمي.
سجلنا في الماضي وعلينا أن نسجل اليوم، أن المشروع الأمريكي الفاعل في المنطقة هو في أساسه عملية من التفكيك وإعادة التركيب على مقاس مشروع الهيمنة الإمبريالية الأمريكية في المنطقة، ليس حروب بين الدول وإنما حروب بالوكالة داخل الدول، وبين هذا وذاك إشاعة الفوضى الخلاقة ليتسنى إعادة تركيب المنطقة بترتيب جديد ومفهوم جديد يعيد المنطقة كلها إلى عهد المحميات والتبعية التي لا خيار فيها، وفقط في هذا السياق يصح قراءة انفلات بعض دول الخليج على التطبيع مع إسرائيل كحلقة أخرى من حروب التفكيك والتركيب الإمبريالي في المنطقة أو نتيجة لهذه الحروب، وكوجه آخر لدعم الاحتلال والعدوان، في لبوس “التطبيع” و”المصالحة” واتفاقات سلام مشبوهة .
ويشكل هذا السقوط، امتدادا لعملية تفكيك ليبيا وتفتيتها والتي ما نزال نشهد تداعياتها عبر عقد من السنين، وهو امتداد لتفكيك السودان، واستمرار لإجهاض ثورته الشعبية وتضحياته الجسام واغتيال أماني الشعب السوداني من خلال تدخل دولة الإمارات لتنصيب الجنرال برهان اللاهث وراء التطبيع والصلح مع الحكومة الفاشية في إسرائيل.
وهو امتداد للمؤامرات على مصر وثقلها العربي والإقليمي ومحاولات تعطيشها ومحاصرتها وإخراجها نهائيا عن دورها القومي، من خلال استفزازات اثيوبية لا تغيب عنها أيادي الموساد الاسرائيلي ، بما في ذلك مشروع بناء سد النهضة ، وتجميع إرهاب داعش في سيناء من جهة، وفي ليبيا من الجهة الأخرى برعاية أردوغان.. هذا هو المشهد الذي يجري فيه الهجوم على القضية الفلسطينية وعلى إنجازات الشعب الفلسطيني. وهذه قضايا ليست منفصلة عما يجري الان من عمليات الخيانة على رؤوس الأشهاد على أدراج حدائق البيت الأبيض في واشنطن .
ويخطئ من يعتبر، عن سذاجة أو عن تضليل، أن هذه القضايا منفصلة بعضها عن بعضها الآخر، وادعائي أنها سلسلة واحدة من مشروع متكامل، بحيث إن عمليات التطبيع وإدارة الظهر للشعب الفلسطيني وقضيته العادلة ما كان لها أن تحدث بهذه الوقاحة، في ظل أشرس حكومة إسرائيلية متطرفة، تبني قاعدتها الشعبية على قوى الاستيطان والرفض والقوى الأكثر فاشية والأكثر عنصرية في إسرائيل ، وما كان لأي نظام ان يجرؤ على الانخراط فيها من دون التوطئة بعمليات التفكيك وإشعال الحروب الإقليمية في خدمة المشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة .
المهمة الملحة فلسطينياً :
قطع الطريق على قُطّاع الطرق
إن ما يبدو وكأنه عملية تجريف للمكانة التي راكمتها القضية الفلسطينية على المستوى العربي والإقليمي والعالمي ومحاولة تسخيف النضال الفلسطيني التحرري، والمجاهرة بتحميل الشعب الفلسطيني وقواه الفاعلة المسؤولية عن تعثر الحل العادل لقضيته، وعن تمادي المؤامرات الامبريالية والاسرائيلية التي تحاك ضده ، وحتى تحميله المسؤولية عن خيانة أنظمة التطبيع وتبرير هذه الخيانة، تتم قبل كل شيء من خلال تسفيه الثوابت القومية المتعارف عليها في التعامل مع القضية الفلسطينية والانتقال بهذه القضية من موقع الاجماع العربي، إلى موقع “الانفضاض” العربي عنها ، بما في ذلك الانفضاض عن المبادرة العربية التي أطلقتها وبادرت اليها هذه الدول نفسها ، والانتقال في وضح النهار من التضامن الكذاب غالبا، إلى لوم الضحية ، وإدانة الرفض الفلسطيني لعمليات التطبيع، كما جرى في اجتماع وزراء خارجية “جائحة الدول العربية” في القاهرة في بداية أيلول الحالي ، وتحويل الموقف من القضية الفلسطينية، من قضية تمنح الشرعية أو تحجبها ،عن هذا النظام العربي أو ذاك، ، إلى “مشكلة” تزعج الاجماع العربي الذي يرى بها “عقبة ” تعيق “مصالح” النظام العربي المشبوهة وتعيق مشاريعه للخيانة ولافتعال المبررات للانقضاض نهائيا على حقوق الشعب الفلسطيني القومية المشروعة وتقديمها لقمة سائغة للحركة الصهيونية، بعد أن فشلت هذه الأخيرة في افتراسها على مدار قرن من النضال الفلسطيني التحرري.
إن كل هذا لا يهبط على الشعب الفلسطيني وعلى شعوب المنطقة فجأة.. إنما هو امتداد مباشر ونتيجة حتمية للعدوان الإرهابي المعولم على سوريا منذ العام 2011 لتفكيكها وتفتيت شعبها، وإلغاء وزنها في المعادلة القومية المشوّهة التي يعدون المنطقة لها على نسق “أكلت يوم أكل الثور الأبلق” .
ومن اللافت أن القوى العالمية والإقليمية نفسها، التي وضعت وما زالت تضع الأسس للمشروع الامبريالي الصهيوني للقفز من فوق الحقوق القومية المشروعة للشعب الفلسطيني، وللإجهاز نهائيا على القضية الفلسطينية بمفهومها التحرري، هي القوى نفسها التي خططت وقادت ونفذت الحرب الإرهابية المعولمة على سوريا، في خدمة مشروع التطبيع مع قوى الرفض الصهيوني ولكع القضية الفلسطينية على الرف، وهي القوى نفسها التي حشدت قوى الإرهاب العالمي من سبعين بلدا وأشرفت عليها، وموّلتها وسلّحتها ودرّبتها ورعت مشروعها سياسيا، من الولايات المتحدة الامريكية وإسرائيل إلى فرسان “التتبيع”، من السعودية إلى الإمارات والبحرين، ومن قطر الى تركيا-أردوغان. لقد حددنا منذ البدايات طابع وطبيعة القوى المسؤولة عن المؤامرة على الشعب الفلسطيني وقضيته التحررية العادلة، متمثلة بثلاثي الإمبريالية والصهيونية والرجعية العربية والاقليمية، كان هذا صحيحا دائما ، وبات أكثر وضوحا اليوم.
ومن الجدير أن نؤكد لأنفسنا بشجاعة ، أن برامج التفكيك والتفتيت التي رعتها قوى التآمر على الشعب الفلسطيني من ثلاثي الإمبريالية والصهيونية والرجعية العربية جميعها معا وكل واحدة منها على حدة، هي الأم الحقيقية التي ولّدت مشروع الانقسام الفلسطيني عام 2006، وهي صاحبة مشروع فك الارتباط بين غزة والضفة الغربية والقدس العربية المحتلة، وهي صاحبة مشروع سلخ مصير غزة السياسي والجغرافي في أي حل عن المشروع الوطني الفلسطيني ، وهي صاحبة مشروع الحل الإقليمي الذي تبني عليه المحميات الإسرائيلية في الخليج مشروعها للتطبيع والتتبيع، القائم على “دولة فلسطينية ” في غزة تتوسع نحو سيناء.
إن الجواب الاستراتيجي فلسطينيا يجب أن يبدأ بالضرورة بعودة غزة إلى صلب المشروع الوطني الفلسطيني تحت راية منظمة التحرير الفلسطينية بصفتها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني وحاملة مشروعه الوطني التحرري الجامع وحاميته.
ف-لا دولة في غزة، ولا دولة من دون غزة- بات جواباً استراتيجياً صحيحاً وملحاً ليقطع الطريق على قطاع الطريق على الشعب الفلسطيني واستقلاله وتحرره.
إن أي تلكؤ في استعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية عمليا على الأرض، يشكل خدمة خطيرة للمتآمرين لتصفية القضية الفلسطينية.
وبالرغم من حلكة الليل المحيق بالحق الفلسطيني المحاصر، وبالرغم من الاصطفافات والأحلاف الخطيرة التي ما زالت قيد التآمر في الإقليم، الا أن تعثر المشروع الامبريالي في سوريا وفشل الحرب الإرهابية عليها، وعجزها عن تحقيق أهدافها في لبنان، هو نقطة الضوء في آخر النفق وهو المؤشر الأكثر أهمية في الاتجاه المعاكس، وهو الدليل على ضرورة المراهنة على ما تكتنزه الشعوب وفي طليعتها الشعب الفلسطيني وأصدقاؤه في العالم كله، وفي العالم العربي المثقل بعمليات التفكيك والتفتيت والاهانة بشكل خاص، من ثقل كفاحي ومن طاقات شعبية لا تنضب، قادرة على مقاومة مشاريع التصفية، وإدانتها والانتفاض على الاحتلال، والتصدي للمصالح الحيوية لأقطاب ثلاثي الامبريالية والصهيونية والرجعية العربية في المنطقة بدءا من مصالحه في الخليج.
إن إفشال المشروع الإمبريالي المناوب في الاقليم مهما بلغت جبروت القوى الملتفة من حوله، هو الخيار الوارد الوحيد ، وهو الخيار الممكن والملحّ أكثر من أي شيء آخر. وهو العامل الذي يحدد ملامح المستقبل إذا أحسنا أن نستخلص العبر فلسطينيا وعربيا ونجحنا في استنهاض الشعوب .