العرب أمة القرآن.. دروس في التاريخ موقعة الولجة

 

د.خضر محجز| فلسطين

 

موقعة الولجة: 22 صفر عام 12 هجري الموافق 3 مايو 633 ميلادي

 انتهى خبر الهزيمة الماحقة إلى كسرى “أردشير” بالمدائن، فبعث جيشاً آخر بقيادة “أنْدَرْزَغر” فارسي من مواليد العراق. ولم يكن ممن نشأوا في المدائن العاصمة، بل كان أميراً على “خراسان”. وأتبعه بجيش آخر تحت قيادة “جاذَوَيْه”. سار “أنْدَرْزَغر” بجيشه إلى “كَسْكَر” ـ ومكانها بين ما سيصبح الكوفة والبصرة ـ واتجه إلى “الوَلَجَة” في الصحراء بعد “كسكر”. وانضم إليه بعض عرب تلك النواحي، من “تغلب” النصرانية التي حاربت من قبل مع الفرس ضد ابنة عمها “بكر” يوم “ذي قار”. أما “جاذَوَيْه” فسار بجيشه في طريق مخالف، فاتجه إلى وسط العراق، فيما يبدو أنه محاولة لتطويق جيش أولياء الله من جانبين، تمهيداً لحصره وإبادته.

لاحظوا أيها السادة، أن كبار جنرالات جيوش الإمبراطورية في المدائن، ما زالوا حتى اللحظة يتعاملون مع جيش المسلمين، باعتباره مجموعة من كلاب الصحراء، التي يسهل على الإمبراطورية أن تسحقها، إذا جمعت قوتها وتصميمها الإمبراطوري.

نعرف ذلك مما أعده الفرس بعد ذلك من جيشهم الأعظم، بقيادة قائدهم الأسطوري “رستم” يوم القادسية، الذي سينظر إلى جيش المسلمين يومها ويقول: “أكل كبدي عمر، علم كلاب الصحراء كيف يصطفون للقتال” لكن ذلك اليوم سيحين وقته بعد ثلاث سنوات تقريباً. إذن فالفرس يرسلون الجيش تلو الجيش، على عادة الدول في مواجهة المجموعات المتمردة. أما خلاصة الجيوش فيتبقى مُدَّخراً للموقعة الفاصلة على أبواب العاصمة.

ولم يكن هؤلاء يعلمون أن ما يواجهونه هو مجرد جيش من جيوش تحارب في الشرق والغرب، عقد ألويتها خليفة رسول الله رضي الله عنه. ويبدو أننا سنرى بعد قليل مشهدين أسطوريين، من تجميع جيوش المتحاربين على الجانبين، أحدهما على الجبهة الغربية باليرموك بعد قليل، يتلوه مشهد مشابه على الجبهة الشرقية هنا في القادسية. أما أبو بكر الرجل النحيل الغائر العينين، فجالس على ركبتيه بالمدينة، يأكل التمر الجاف، ويتلقى الرسل، ويرسل الأمداد، ويوجه الأوامر بما يناسب كل معركة، من فلسطين إلى حمص، إلى الشام، إلى العراق. فرحم الله رجلاً أناط الله به حفظ الإسلام بعد موت النبي – صلى الله عليه وسلم- .

أوصلت عيونُ خالدٍ، المبثوثةُ في البلاد، خبرَ التحركين الفارسيين. فلله دَرُّ محاربٍ خبير أدرك ما يُدَبَّرُ له، فاتجه إلى الجنوب، بدل أن يزحف شمالاً باتجاه العدو، في حركة انسحاب تكتيكي بارعة، أن يُطَوَّقَ جيشُه بين فكي كماشة فارسية. دعونا الآن نتصور مدى غيظ خالد، ثم دعونا نتوقع منه شدة الانتقام. ألم يغضبه “مالك بن نويرة” من قبل حين أساء إلى رسول الله، فوضع خالدٌ رأسه تحت القدر فطبخ عليه؟ وإن أعجب فأشد ما أعجب له أعصاب هذا القائد الفذّ، يخرج من وسط الجيش في عزِّ المعركة، فيصعد أقرب تلة، فوق حصانه، يتأمل في الأبطال تتجندل، والموت يلتهم الناس، ثم لا يفقد أعصابه، بل يستمر يراقب مدة مهما طالت، إلى أن يُعيد ترتيب الخطط، وفق ما رأت عين الصقر، من نواحي الساحة المترامية.

تحرك الآن خالد جنوباً ريثما التفَّ من طريق آخر إلى جيش “أنْدَرْزَغر” وعينُه ـ التي في قفا رأسه ـ تراقب تحركات “جاذَوَيْه”. نزل خالد بـ”الولَجة” وأصبح الآن في مواجهة “أنْدَرْزَغر”. فنظر فرأى الميدان ساحةً منبسطة وسط الصحراء ـ وتلك طبوغرافيا مفضلة عند مقاتلي الصحراء، ميدان واسع يسمح للقائد البارع أن يظهر مواهبه في المناورة ـ وكان خالد يشبه مهندساً يرسم خريطة على الورق. صف خالد قواته في المواجهة، وأخفى في الخلف قوتين إضافيتين. لاحظوا أيها السادة، أن خالداً فعل مثل ذلك، قبل بضع سنوات، ليلة الانسحاب من مؤتة، حيث أخرج كمينه ـ الذي كان قد ادّخره الليلة الماضية ـ إلى الميدان في عزّ المعركة الانتحارية، حتى ظن الروم أن مدداً جاء المسلمين، وقد كانوا ذاقوا من صبرهم الأمرّين بالأمس، فتضعضعوا، بما سمح لخالد بتنفيذ أعظم حركة انسحاب في التاريخ العسكري.

الآن بين يدي معركة الولجة ينشئ فرقتين كمينين، خلف الجيش، تراقبان المعركة في انتظار الأمر بالتدخل في اللحظة التي يقررها القائد. وقد ضع خالد على رأس الفرقة الأولى “بسر بن أبي رهم الجهني” وعلى الثانية “سعيد بن مرة العجلي”. وتواجه الجمعان، جمع يحاد الله ورسوله، طالما استصغر شأن العرب واستخدمهم، وجمع ينهض من وسط الرماد وقد أمدته السماء برضاها وقوة جديدة من الروح والإيمان بالمستقبل. قال ابن كثير رحمه الله: “فاقتتلوا قتالاً شديداً هو أشد مما قبله، حتى ظن الفريقان أن الصبر قد فرغ”. وبالطبع كان يشدُّ من أزر الإيرانيين المجوس، توقُّعُ وصول جيش “جاذَوَيْه”. فيما كان يشدُّ من أزر أولياء الله، تَوَكُّلهم على الله، ثم ثقتهم بأنهم مع قائد لا يُهزم، أضف إلى ذلك ما يعلمونه من الكمينين في الخلف. استبطأ خالد الكمينين، وادّخرهما طويلاً، ولم يسمح لأيٍّ منهما بالالتحاق بالمعركة: فهو يعلم أن بإمكان جيش كبير ـ كالذي يواجهه ـ أن يصبر في أول المعركة.

وقد كان خالدٌ يوم مؤتة قد ادخر كمينه من الصباح إلى ما بعد الظهيرة، وقاتل حتى تكسرت عدة سيوف في يده، فلما شعر الروم، يومها، أنهم يواجهون قوةً يصعب كسرها، وقد كانوا بالأمس قد أوشكوا على إبادتها، وبدأوا يحدثون أنفسهم عن كيفية إنهاء هذا اليوم الصعب، خرج عليهم كمين خالد يثير الغبار، حتى ظنوه مدداً من رسول الله، فتضعضعوا واضطربت قلوبهم وصفوفهم لحظةً سمحت لخالد بالانسحاب، ومنعتهم من ملاحقته؛ فسماه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يومها سيف الله.

الآن خالد ينتظر أن ينهك جيش “أنْدَرْزَغر” ولكن قبل وصول جيش “جاذَوَيْه” إن حساب اللحظات هنا شديد الدقة، من رجل تربى في حروب الصحراء. الآن يواجه أسد الصحراء المُضَمَّر الخفيف، فيلَ المدائن الأحمق المثقل بالدهن والحديد. وأخيراً حين اطمأن خالد إلى أن اللحم نضج على السفود، مد يده لانتزاعه والتهامه من فوق النار، فأطلق الكمينين، من اليمين ومن اليسار، فوقع “أنْدَرْزَغر” بين فكي كماشة، لم يكن يحسب أن صقور الصحراء تحسن نصبها.

ونزل النصر من السماء، على أولياء الله، بما شكروه وأحسنوا العمل. وفر الناجون من الفرس، وسبقهم قائدهم “أنْدَرْزَغر” الذي مات عطشاً في الصحراء. ولم يستطع سيف الله بعد أن يفرغ غضبه، سوى أنه بارز مقاتلاً من الفرس، قال سيف بن عمر إنه بألف رجل، فقتله، فاتكأ فوقه فتناول غداءه بين الصفين وسط القتال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى