ملائكة في غزة لـ[ محمد بكر البوجي ] رواية التاريخ والمقاومة والحلم الجديد
الناقد: حاتم عبد الهادى السيد
تندرج رواية “ملائكة في غزة – الحكاية والرواية” ضمن “الكتابة عبر النوعية” ؛ فهى تنفتح على مسارات كثيرة للسرد كالقصة والحكاية؛ والرواية، والمقال، والأخبار والحوادث، ووقائع أهل غزة، الحرب في فلسطين؛ قضية الوطن؛ وقضية غياب الحلم؛ التشتت؛ الضياع الفلسطينى؛ ضياع الهوية وتمزق الإرادة؛ وخوار المقاومة منذ أن جاءت حماس إلى السلطة لتتسلط على فتح ويقع الفلسطينيون – منذ عهد ياسر عرفات – بين ستدان الصراع الفلسطينى/ الفلسطينى، والصراع الفلسطينى/ الإسرائيلى، تتهدم المدن والدور والقرى تحت مجنزرات الدبابات الصهيونية، ويموت الشهداء نتيجة طائرات القصف، يقتل الأطفال أمام العالم؛ ولا من منادٍ ؛ ولا متطلع لنصرة القضية؛ المصريون يدفعون الثمن منذ حرب 1948م؛ وحتى اتفاقية كامب ديفيد، وفلسطين تنتهبها صراعات أهلها من جانب، وأصوات الجرافات التى تهدم المنازل، لتعلو المستوطنات في كل مكان لتتغير الخريطة الديموجرافية للأوطان.
إنها قصة شاب يدمر الاحتلال بيته في لحظات، يحاول الهجرة بجواز سفر إمارتي مزور من خلال سفره إلى أوغندا ، قاصداً لندن؛ وتسير الأمور بغير ما يشتهي، يتيه في غابات أفريقيا، ويذهب مع الدليل إلى جماعة الفلاشا في أديس أبابا ؛ويسافر معهم إلى فلسطين؛وهناك يكتشفون أمره، ويعيدونه إلى أثيوبيا بحراسة مشددة ، ثم يمر في متاهات وهو في طريق العودة إلى زوجته وأولاده … ولكن؛ ليست هذه كل الحكاية ؛من ذلك السرد الذى ينفتح على إجناسيات شتى ؛ ويرصد العديد من ملابسات القضية الفلسطينية !! .
وهى قضية العرب والمسلمين التى وهنت بسبب الصراعات التى أوجدها الإستعمار، وسياسة: “فرق تسد”؛ وهى رواية المقاومة ؛ صراع السلطة بين حركتى: حماس وفتح، بين ياسر عرفات، ومحمود عباس الآن؛ وحركة حماس ؛حركات المقاومة الإسلامية كالجهاد وغيرها؛ وهو وإن كان يدينها؛ إلا أن الرواية تكشف عن صراعات عديدة، وأهوال للمواطن الفلسطينى تجاه الإحتلال والقصف والموت، والمقاومة، والإستيطان، عبر قرابة قرن من الزمان هو عمر الرواية التى تحاول أن تلخص الهوية الفلسطينية، وأحداث الإستيطان الصهيونى، والإحتلال البغيض، كما ترصد لكل الأهوال والمعاناة في الداخل الفلسطينى، وفى غزة المناضلة، المنقسمة، والمقاومة كذلك.
كما تتعرض الرواية إلى ما قبل حرب 1967م حيث كان الجنود المصريون يحاربون الصهاينة في غزة؛ ويدافعون عن شرف العروبة الضائع ؛ والقدس الحزين؛ – قبلة المسلمين الأولى – ؛كما تكشف الرواية الكثير من الجوانب التاريخية والتوثيقية لتاريخ فلسطين ،ومحاولات العدو الصهيونى الغاشم كسر شوكة العرب في الدفاع عنها، وتسلحهم بأمريكا وأوروبا من أجل انشاء وطن قومى لليهود على حساب الفلسطينيين وأراضيهم؛ وعلى حساب مقدرات الأمة ومقدساتها .
إنها رواية التاريخ والسيرة، القصة داخل الرواية، والمثيولوجيا داخل غزة؛ أو الواقع المقاوم للإستعمار، والرافض لكل ما من شأنه طمس هويتنا العربية الإسلامية في القدس الشريف، وتكبيل الحرية، واحتلال الأرض، وقتل الرجال والنساء والأطفال؛ ومع كل تظل الرواية تاريخاً سيرياً لفلسطين المقاومة، الأبية.
والرواية ترصد المقاومة من خلال هذا الشاب الذى هجر الأرض في غزة بعد أن قصفت الطائرات منزله؛ ورأى أشلاء الجثث تتطاير أمامه؛ فقرر الرحيل لا ليهرب، بل ليبدأ المقاومة من مكان آخر، لتظل القضية في قلبه وعقله وفؤاده، ككل الفلسطينيين المهاجرين الذين تركوا الأرض قسراً ؛ أو طواعية من أجل اعداد العدة، والعودة من جديد لتحرير الأوطان ..
وكاتبنا / محمد بكر البوجى (أبو بكر البوجى) – هنا – يحاول تجديد ترهل الرواية العربية المعاصرة من خلال تضمين روايته ورفدها بوثائق تاريخية، ورؤى وتاريخ قديم ومعاصر، وحكايات منفصلة، ويوميات لصورة المواطن في غزة، وفى الداخل المحتل، ومدى معاناة الفلسطينى أثناء تجواله في منافى العالم ؛ وكأنه ينشد للقضية اطاراً دولياً، فنراه يخطب في أحرار العالم ليقفوا أمام الحق التاريخى،والحق في الأرض،وحق العودة إلى الأوطان بعد أن طردهم الإحتلال الغاصب، وهو الذى يجب أن يُطرد، لا أن يَطْرُد أصحاب الحق الشرعيين .
إنها حكاية شعب تعرض لأكبر قضية تطهيرعرقى في التاريخ من جانب اسرائيل وأمريكا وأوروبا؛ والعرب لا حول لهم ولا قوة ؛ خاصة بعد معاهدات السلام؛ والإستسلام، والركون للصمت، بعد أن كانت القضية هى الفكرة الأولى للعروبة، والمحرك والوقود لفكرة القومية العربية؛ لكنه الإستعمار، والصمت والخوف، بعد حروب العرب الكثيرة لتحرير فلسطين .
إن الكاتب يلخص صورة المواطن الفلسطينى من خلال شعر نزار قبانى؛ حين قال: (مواطنون دونما وطن / مطاردون كالعصافير على خرائط الزمن / مسافرون دون أوراق .. وموتى دونما كفن/ كل حاكم يبيعنا ويقبض الثمن) .
كما تكشف الرواية عن أن بلقيس زوجة نزار هى ابنة أبو عمار ” ياسر عرفات ” وهو الأمر الجديد، والمثير، ولو على المستوى الفنى كذلك . وبلقيس هى بلقيس الراوى، المواطنة الفلسطينية شهيدة الثورة التى دفنت بعد أن شيعها الفلسطينيون كالكثيرات، لكن ياسر عرفات قال جملته الشهيرة الخالدة : ” يا جبل ما تهزك ريح ” لتظل المقاومة متجذرة في قلوب الفلسطينيين إلى الأبد .
إنها رواية فلسطين؛ القضية الكبرى؛ يرويها عبر مجريات التاريخ، الوثائق، الحكايات، صور القصف والدمار، قصص الشهادة، صور الجنازات المستمرةن ليقول للعالم الأبكم : إنها فلسطين أرض المقاومة، والتى لن تستسلم يوماً رغم المدافع، وهدير الطائرات والقصف، ورغم الشتات الفلسطينى في ربوع العالم؛ إلا أن الطائر المهاجر، والأسد المقيم على الأرض هما امتداد للمقاومة حتى الأبد، كى تتحرر فلسطين، وتعود القدس إلى أحضان العرب من جديد.
لقد نجح / محمد بكر البوجى في تقديم رواية ، وثيقة، مسرحية، حكاية شعب تغولت عليه ذئاب العالم لكنه ظل يقاوم، وهو لا يزل في عنفوان شبابه، يحفظ قول الثوار، وأبطال القضية : محمود درويش، سميح القاسم، مريد البرغوثى وغيرهم ، ليرددوا في وقت واحد : سجل / أنا عربى / ورقم بطاقتى خمسون ألف / وأطفالى ثمانية / وتاسعهم سيأتى بعد صيف / سجل أنا عربى … إنها العروبة، القومية العربية السليبية، والوطن المحتل، والمقاومة التى لا تركن إلى الإستسلام، بل تهدر بالمنتاضلين الشجعان حتى تتحرر الأوطان من جديد .
والرواية تتطلع إلى الحلم، التحرر ؛وقد بدا ذلك منذ العنوان السيمولوجى ” ملائكة في غزة ” ؛ فهو عنوان دال فالشهداء ملائكة، والمقاوم ملاك، والمقيم على الأرض ملاك، وقطرة الضوء ملاك يستشرفها لتضىء المكان بقداسة ربانية؛ وبإصرار نابع من إيمان عميق، فهؤلاء هم الضوء للحرية؛ فهم عطر الشهداء، وأحفاد الكاتب الذين أهداهم الرواية : يافا؛ ليا؛ والذى قال لهما : ” قد تشهدان يوماً ما زلنا ننتظره” ؛ وكأنه يأمل في تحقق النصر للقضية ؛ وطرد المحتلين ، وعودة فلسطين ؛ مع قدوم الأجيال القادمة” .
إنها رواية فلسطينية بإمتياز، تقدم التاريخ، وترصد الواقع، وتعلى من النشيج، وتستلهم بالمقاومة، وصور الشهداء ؛الثورة القادمة لتحرر الأوطان .